أندرو سينغر*
خلال العقود الماضية، دفعت السرعة والسهولة والابتكار التقني باتجاه التحول العالمي نحو المدفوعات غير النقدية، وسرّع وباء «كوفيد-19»، وتفضيل الأجيال الشابة للمعاملات الرقمية هذا التوجه، حتى بات كثيرون يعتبرون أن اختفاء النقود الورقية مسألة وقت لا أكثر.
أظهرت التجارب الأخيرة، من حروب وكوارث طبيعية وهجمات سيبرانية، هشاشة الاقتصادات المعتمدة كلياً على الأنظمة الرقمية، ليعود النقاش فجأة حول أهمية النقد الورقي كخيار بديل، ليس من باب الحنين إلى الماضي، بل من منطلق استراتيجي يوازن بين كفاءة التكنولوجيا وحاجات الأمن والاستقرار والخصوصية.
لقد ارتفع في الآونة الأخيرة معدل تبني الحكومات والبنوك المركزية وخبراء التكنولوجيا لنموذج مدفوعات هجين يجمع بين مزايا المعاملات الرقمية والمرونة والخصوصية والشمولية التي توفرها النقود المادية.
وبهذا الصدد، تقود دول الشمال الأوروبي، ولا سيما السويد، جهوداً لإعادة النظر في آلية عمل الاقتصادات الرقمية المهيمنة، فالبلد الاسكندنافي كان سبّاقاً في بناء اقتصاد شبه خالٍ من النقد، فوفقاً للبنك المركزي السويدي، لا يتجاوز حجم النقد المتداول كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي مستويات دنيا هي الأقل عالمياً، ويكفي القول، إن نحو 10% فقط من المشتريات داخل المتاجر تُدفع نقداً، مقارنةً بنحو 50% في منطقة اليورو.
تخيّل أن أجيالاً كاملة من السويديين لم تستخدم النقود الورقية في حياتها اليومية، ويقول ماغنوس لاغيسون، أحد التنفيذيين في شركة «كرانشفيش ديجيتال كاش»: «لم أستخدم النقود منذ أكثر من عشر سنوات، وأولادي لم يمسكوا بها أصلاً».
المفارقة أن هذه الدول بدأت تعيد حساباتها، فحرب أوكرانيا، وخطر الهجمات الإلكترونية المتواترة نبّهتها إلى أن انقطاع الكهرباء أو انهيار شبكات الاتصال، قد يشلّ المدفوعات الرقمية تماماً. ولهذا وزّعت الحكومة السويدية كتيباً على جميع الأسر بعنوان: «في حال حدوث أزمة أو حرب»، أوصت فيه مواطنيها بالاحتفاظ بنقد ورقي يكفي أسبوعاً كاملاً، وتكرر الموقف نفسه في النرويج وفنلندا، حيث طُلب من الناس الاحتفاظ بمدخرات نقدية للطوارئ.
ولا يقتصر الأمر على البعد الأمني، فالنقد الورقي يوفر درجة من الخصوصية لا تتيحها المدفوعات الرقمية، خصوصاً إذا كانت تحت إشراف حكومي مباشر، عبر ما يُعرف بالعملات الرقمية للبنوك المركزية، فالتتبع المفرط قد يحوّل النقود إلى أداة مراقبة، تكشف أنماط الشراء ومواقع الأفراد.
ثم إن هناك الفئات المهمشة التي ما زالت تعتمد على النقد بشكل أساسي في حياتها اليومية، مثل أصحاب الدخل المنخفض، وبعض كبار السن، والمقيمين في مناطق نائية، فمعظم هؤلاء لا يملكون هاتفاً ذكياً أو بطاقة مصرفية، واستبعادهم من النظام المالي تحت شعار «التحول الرقمي»، قد يفاقم عدم المساواة بدلاً من تقليصها.
تعتمد المدفوعات الرقمية حالياً على ثلاثة محاور: الكهرباء، والاتصالات، وأجهزة الحاسوب. وإذا انهار أحدها، ينهار النظام كله. وهذا يعني أن أي خصم يمكنه تعطيل الاقتصاد، عبر هجوم سيبراني أو ضرب شبكة الكهرباء أو تعطيل خوادم الدفع.
لذلك تميل الكثير من البنوك المركزية اليوم إلى تطبيق نموذج «هجين»، يُبقي المدفوعات الرقمية كخيار رئيسي، ويحافظ على النقد الورقي كشبكة أمان موازية، تضمن الخصوصية وسهولة الوصول والجاهزية للأزمات.
وأشارت الباحثة أرينا فيشنفسكي إلى أن مجتمعاً بلا نقد كان دائماً مثالاً نظرياً أكثر منه هدفاً عملياً، والتخلي الكامل عن النقد بات يُنظر إليه على أنه خيار محفوف بالمخاطر والإقصاء.
وهنا يبرز مسار آخر قيد التجربة، «المدفوعات الرقمية غير المتصلة بالشبكة»، ويدرس بنك إنجلترا، على سبيل المثال، إمكانية إطلاق «جنيه رقمي» يعمل حتى عند انقطاع الإنترنت أو خدمات الهاتف، ويدعم الشمول المالي وبعض استخدامات الدفع. كما طرح البنك المركزي الأوروبي مناقصة كبيرة أمام شركات التكنولوجيا المالية، لتطوير «يورو رقمي» بقدرات مماثلة.
تبقى التحديات التقنية هائلة، فكيف نضمن أن العملة الرقمية لا تُنفق مرتين، وكيف نمنع التزوير مع غياب الاتصال الفوري؟ هذه المشكلات شبيهة بتلك التي واجهها مطورو العملات المشفرة في بداياتها.
*صحفي مستقل متخصص في الذكاء الاصطناعي والعملات المشفرة والبلوك تشين
*غلوبال فاينانس
0 تعليق