الفأر الشوكي العربي هو قارض صغير يعيش في البيئات الصحراوية في الشرق الأوسط وأجزاء من أفريقيا، يبدو شبيها جدا بالفأر المنزلي التقليدي، بلونه البني، وفَرْو خشن وذيل قليل الشعر. قد تظن أنه كائن متواضع، لكنه يمتلك سمات بيولوجية مميزة تجعله مختلفا عن فئران المختبرات القياسية، فهو يتمتع بقدرة لافتة على تجديد أنسجته بعد الإصابات.
تصل القدرة التجديدية إلى الجلد والأذن، وحتى القلب والكلى، مع الحدّ من تكوّن الندوب. هذه الظاهرة جعلت العلماء يدرسون آلياته الجزيئية على أمل تحويلها إلى تطبيقات طبية، مثل تطوير علاجات للجروح المزمنة أو أدوية تحد من تلف القلب والكلية بعد الإصابات. ورغم أن هذه الأبحاث ما زالت في مراحلها الأولى، فإنها تعزز مكانة الفأر الشوكي كنموذج فريد يجمع بين دراسة التكاثر البشري والطب التجديدي.

قارض صغير بخصائص فريدة
في حديث خاص لموقع الجزيرة نت، يوضح الدكتور آشلي سيفريت، أستاذ علم الأحياء التطوري بجامعة كنتاكي وأحد أبرز المتخصصين في دراسة الفأر الشوكي العربي وقدراته التجديدية، أن الفئران الشوكية تنتمي إلى قوارض العالم القديم، وهي من نفس العائلة التي تضم فئران المنازل والجرذان. غير أن جزءا منها يشكل فصيلة فرعية فريدة وقليلة الدراسة، تضم أيضا الفئران ذات الفراء الشُّعث.
ويشير سيفريت إلى أن هذه الفئران تتوزع في مناطق واسعة من أفريقيا وشبه الجزيرة العربية. وهي تُعرف باسم "فئران الصخور"، إذ تبني مساكنها بين شقوق الصخور نظرا لعدم قدرتها على الحفر أو بناء الأعشاش التقليدية.
ويمتلك هذا النوع صفات غريبة لا نراها عادة في القوارض. يقول سيفريت إن "أكثر ما يثير اهتمام الباحثين هو قدرتها المدهشة على تجديد أنسجة معقدة في أعضاء مثل الجلد وصيوان الأذن".
إعلان
ويضيف "بل إنها تظهر تعافيا وظيفيا ملحوظا بعد قطع كامل للحبل الشوكي، حيث تستعيد القدرة على التبول بعد 3 أيام فقط، وتتمكن من المشي في غضون أسابيع".
ومن الخصائص اللافتة أيضا أن إناث الفئران الشوكية تحيض بشكل مشابه للبشر، على عكس معظم القوارض. كما أن صغارها تولد في حالة متقدمة من النمو، أقرب إلى الخيول والثدييات الكبيرة، حيث تفتح أعينها منذ الولادة، ويغطيها الفرو، وتكون قادرة على الحركة المبكرة.
أما ذيولها، فهي مغطاة بجلد عظمي يشبه ما لدى حيوان المدرع، في سمة فريدة بين القوارض. وفي المجمل، فإن هذه المجموعة من الخصائص تجعل الفأر الشوكي العربي نموذجا بالغ الأهمية لعلماء الأحياء والطب الحيوي على حد سواء.

حمل طويل يشبه البشر
تفسر ذلك الدكتورة ستايسي إليري، الباحثة في فسيولوجيا التكاثر بجامعة موناش الأسترالية وقائدة فريق علمي يدرس الفأر الشوكي كنموذج لفهم صحة المرأة والحمل، حيث تُرجع هذه الخصوصية إلى أن أنثى الفأر الشوكي العربي تبقى حاملا لفترة أطول بكثير من الفأر العادي، ويُستثمر هذا الوقت في نمو كل جنين قبل الولادة.
وبعد فترة حمل تمتد إلى نحو 40-42 يوما، أي ضعف مدة الحمل لدى الفأر التقليدي، تلد الإناث مجموعة صغيرة تضم 3-5 صغار، لكنهم يولدون في حالة متقدمة من النمو.
يُذكر أن فريق جامعة موناش الأسترالية، تمكّن عام 2016 من توثيق مرور إناث الفأر الشوكي بدورة شهرية كاملة، تبدأ بزيادة سمك بطانة الرحم ثم تساقطها مع نزيف دوري عند غياب الحمل. وتستمر هذه الدورة نحو 9 أيام، منها 3 أيام نزيف حيضي، وهي دورة تقترب كثيرا من دورة المرأة التي تدوم 28 يوما ويتراوح النزيف فيها بين يومين و7 أيام.
وتشير إليري في حديثها للجزيرة نت، إلى أن "هذه الخصائص تجعل من الفأر الشوكي العربي نموذجا فريدا لدراسة الحمل والنمو البشري، إذ إن خطه الزمني الإنجابي وحالة صغاره عند الولادة يُشبهان البشر بدرجة تفوق بكثير الفئران أو الجرذان التقليدية".
ولا يقتصر الأمر على ذلك، فالفأر الشوكي يتميز بصفات أخرى "شبيهة بالبشر". إذ تُنتج غدده الكظرية هرمونات مثل الكورتيزول وديهيدرو إيبي أندروستيرون، وهي نفس الهرمونات التي تفرزها قشرة الغدة الكظرية لدى الإنسان.
أما فئران وجرذان المختبرات التقليدية، فلا تُنتج هذه الهرمونات بعينها، بل تفرز بديلا، هو الكورتيكوستيرون مع كميات ضئيلة جدا من "ديهيدرو إيبي أندروستيرون"، نظرا لافتقارها إلى منطقة كظرية متخصصة لا يمتلكها سوى الفأر الشوكي وبعض الرئيسيات.
هذه التشابهات الهرمونية أثناء نمو الجنين تسهم في المسار النمائي الشبيه بالبشر لدى الفأر الشوكي. وتوضح إليري أن وجود دورة شهرية بدلا من دورة شبق يمنحه ميزة إضافية، إذ يجعله نموذجا أكثر ملاءمة لدراسة العوامل المؤثرة في التكاثر وصحة المرأة.
ويطلق عليه أحيانا اسم "الرئيسيات الجيبية"، لأنه يتيح للباحثين دراسة صحة المرأة في حيوان صغير وسهل التربية دون التعقيدات المرتبطة بالأنواع الأعلى. وبذلك، أصبح بإمكان العلماء استخدام الفأر الشوكي لدراسة اضطرابات الدورة الشهرية أو أمراض مثل التهاب بطانة الرحم، وهو ما كان شبه مستحيل في الفئران التقليدية لغياب الدورة الشهرية لديها.
إعلان
وترى إليري أن هذا النموذج "يمنحنا فرصة لفهم أعمق لاضطرابات الخصوبة والحمل لدى البشر". فدراسة الدورة الإنجابية الطبيعية، والحمل، ونمو النسل لدى الفأر الشوكي، تُبرز أهمية التحولات الهرمونية وبيئة الرحم في تشكيل النسل، ولا سيما فيما يتعلق بالنتائج العصبية والسلوكية.
كما يمكن التلاعب ببيئة الرحم ونمذجة مضاعفات الولادة لفهم كيفية تأثير المشكلات الشائعة على الجنين، والأهم من ذلك اختبار التدخلات العلاجية الجديدة بسرعة، على نحو يسمح بترجمتها سريعا إلى التجارب السريرية لدى البشر.
لكن الحفاظ على هذا الكائن في المختبر ليس خاليا من تحديات. فبحسب إليري، فإن محاكاة بيئته الصحراوية من حيث الحرارة والرطوبة أمر ضروري لنجاح التكاثر. كما أن الفئران الشوكية اجتماعية بطبعها، وتكون أكثر صحة عند تربيتها في أزواج أو مجموعات متجانسة الجنس. ومع ذلك، ترى إليري أن رعايتها في ظروف المختبر القياسية تبقى سهلة نسبيا.

مفتاح للتجدد الخلوي ومكافحة الشيخوخة
وبسؤال الدكتور آشلي سيفريت عن أبرز الأعضاء التي يمكن تجديدها دون ندبات، أوضح أن الجلد وصيوان الأذن يمثلان أمثلة حقيقية على تجديد الأنسجة المعقدة.
ففي الأذن تحديدا، تظهر قدرة الفأر الشوكي على إعادة بناء الجلد والشعر والغدد والغضاريف والأعصاب والأوعية الدموية وحتى بعض العضلات. ولا يقتصر الأمر على ذلك، إذ تُظهر هذه الفئران أيضا تعافيا وظيفيا لأعضاء أخرى بعد إصابات بالغة ولكن بدرجات متفاوتة، مما يجعلها نموذجا فريدا لفهم آليات التجديد في الثدييات.
ويعتبر سيفريت أن هذه القدرة الاستثنائية على الشفاء دون ندبات تمثل أحد أعظم أسرار الطب الحديث. فلو تمكن الإنسان من محاكاة هذه العملية، لكان من الممكن إحداث ثورة في جميع فروع الطب تقريبا، بدءا من التخفيف من آثار الندوب الجراحية، وصولا إلى إصلاح الأعضاء المتليّفة (مثل الكبد أو الرئة) وإعادتها إلى وظائفها الطبيعية. وهو يرى أن المستقبل قد يحمل إمكانية استخدام هذه الظاهرة لتحفيز الأعضاء التالفة على التجدد الجزئي، بدلا من استئصالها أو الاعتماد فقط على زراعة الأعضاء، وهو أمر ممكن نظريا.
ويضيف أن دراسة الفأر الشوكي إلى جانب القوارض غير المتجددة، تتيح للعلماء فرصة فريدة لرسم "خريطة" بيولوجية لآليات التجديد. هذه المعرفة قد تساعد الأطباء في تصميم إستراتيجيات تجريبية لاختبار علاجات جديدة على البشر، وتفتح آفاقا لإدخال مفهوم الطب التجديدي إلى الممارسة السريرية.
لكن رغم هذه الآمال، يلفت سيفريت الانتباه إلى أن الطريق لا يزال طويلا. فقد حاول العلماء منذ زمن أرسطو فهم تجديد الأنسجة، وبذلوا جهودا حثيثة منذ ثمانينيات القرن الماضي لتطوير علاجات تجديدية، من خلال دمج البيولوجيا مع الكيمياء والهندسة.
ومع ذلك، لم يتحقق التقدم المرجو بالسرعة المطلوبة، لأن عملية التجديد شديدة التعقيد وتتم عبر سلسلة متشابكة من الأحداث الجزيئية والخلوية. ومع ذلك، يرى أن استخدام نماذج ثدييات ناشئة مثل الفأر الشوكي، يمنح الباحثين فرصة غير مسبوقة لتجاوز الجمود في هذا المجال.
أهمية هذه الظاهرة لا تقتصر على علاج الإصابات، بل تمتد إلى أبحاث الشيخوخة. فوفقا لفحوص حديثة نشرها سيفريت في حوليات الأكاديمية الوطنية للعلوم في نيويورك، فإن أحد أسباب الشيخوخة هو تراكم الأنسجة الليفية والندبات الدقيقة داخل الأعضاء، مما يؤدي إلى فقدانها مرونتها وقدرتها الوظيفية.
غير أن الفأر الشوكي يتميز بقدرة خاصة على مقاومة الشيخوخة الخلوية. والمقصود بالشيخوخة الخلوية هو أن تتوقف الخلايا عن الانقسام والتجدد مع مرور الوقت. وهذه الظاهرة طبيعية في أجسام الكائنات الحية، لكنها تزداد مع التقدم في العمر، وتؤدي إلى فقدان الأنسجة لمرونتها وضعف قدرتها على الالتئام بعد الجروح أو الإصابات.
إعلان
خلايا الفأر الشوكي أقل عرضة للدخول في حالة الشيخوخة. فعندما تعرضت أنسجته لإصابة، لم تظهر فيها الزيادة المعتادة في بروتينات مرتبطة بالشيخوخة، مثل بي21 وبي27، وهي بروتينات تُستخدم كمؤشرات على تراجع قدرة الخلايا على التجدد.
وهذا يعني أن أنسجة الفأر الشوكي قادرة على التعافي بشكل أفضل، ولا تتدهور بنفس الوتيرة التي نراها في الثدييات الأخرى. ومن هنا تأتي أهمية هذا الكائن الصغير، إذ قد يساعد العلماء في فهم كيفية إبطاء مظاهر الشيخوخة لدى الإنسان، والحفاظ على مرونة الأنسجة ووظيفتها لفترة أطول.
ورغم هذه المزايا، يشير سيفريت إلى أن استمرار انقسام الخلايا قد يثير مخاوف أخرى، إذ إن المسارات الجزيئية التي تسمح للأنسجة بالتجدد هي نفسها التي يمكن أن تؤدي إلى التحول السرطاني. لكن الفأر الشوكي يبدو هنا استثناء مثيرا، إذ أظهرت الدراسات أن خلاياه تنشّط جينات كابحة للأورام عند دخولها في حالة انقسام نشط، مما يمنحها قدرة على مقاومة هذا التحول.
لكن هذا لا يعني أن الفأر الشوكي محصّن بالكامل ضد السرطان. فقد لاحظ العلماء في بعض أفراده المسنّين تكوّن كتل في الجلد والجهاز الهضمي. بعض هذه الكتل اتضح أنها تحتوي على أنسجة متمايزة، مثل الغضاريف والغدد وبصيلات الشعر، وهو ما يشير إلى أنها قد تكون نموا تفاعليا استجابة لإصابة، في حين أظهر بعضها سمات أورام بسيطة، مثل فرط التقرن أو نتوءات تشبه الثآليل. ولهذا، تبقى الصورة غير محسومة.
ويواصل الباحثون العمل لفهم العلاقة الدقيقة بين قدرة الفأر الشوكي على التجدد وبين احتمالية نمو الأورام في مراحل متقدمة من العمر.
0 تعليق