لم يكن يوم 30 سبتمبر/أيلول الماضي يوما عاديا في تاريخ المؤسسة العسكرية الأميركية. لقد تقاطر فيه أكثر من 800 من جنرالات الجيش الأميركي من كافة أنحاء العالم -في رحلة مكلفة ماليا لوزارة الدفاع- إلى ولاية فرجينيا ليستمعوا إلى خطابي الرئيس الأميركي ترامب، ووزير حربه بيت هيغسيث.
أخبر هيغسيث الجنرالات أن عهد تبني الثقافات الليبرالية في الجيش الأميركي قد انتهى هذه اللحظة، مطالبا إياهم بالالتزام بالمعايير الأخلاقية الجديدة التي أسماها "أخلاق المحارب"، وإلا فعليهم تقديم استقالتهم فورا في حالة رفضهم لها.
كذلك رفض وزير الحرب الأميركي ظاهرة البدانة عند بعض الجنرالات، مطالبا بالاهتمام باللياقة البدنية العالية والمعايير العسكرية الصارمة كما كان العهد بها قديما قبل التغيرات التي أحدثتها الإدارات الأميركية الديمقراطية الأخيرة.
كما رفض إعطاء أي امتيازات -لتصحيح مظالم تاريخية- في الترقيات العسكرية للأقليات العرقية أو النساء العاملات في الجيش الأميركي، كما كان معمولا به سابقا.
لم يكن خطاب هيغسيث عاديا، فقد كان جريئا -وغريبا في الوقت نفسه- عندما طالب الجنرالات الحضور بالتخلي عما أسماه قيم الجنرالات الليبراليين أمثال الرئيس السابق لهيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال مارك ميلي، لأنها لا تتناسب مع إستراتيجية الرئيس ترامب نحو بناء جيش قوي يمثل القيم الأميركية العريقة.
وفي المقابل، طالبهم بتبني "أخلاق المحارب" لبعض قادة الجيش الأميركي المشهورين في التاريخ العسكري الأميركي، أمثال الجنرال جورج إس باتون، وهو جنرال ذائع الصيت ذو تقاليد عسكرية صارمة، كان أحد أهم قادة الجيش الأميركي البارزين إبان الحرب العالمية الثانية، محاربا في عدة جبهات ومحققا نصرا ساحقا فيها.
ثم جاء خطاب الرئيس ترامب، فوجه نقدا عنيفا لكبرى المدن الأميركية- مثل شيكاغو ولوس أنجلوس، الواقعتين تحت إدارة الحزب الديمقراطي- لزيادة معدلات الجريمة والعنف والهجرة غير الشرعية فيها، داعيا الجيش إلى استخدام تلك المدن كساحات للتدريب، وهو تعبير غامض أثار الجدل، حيث يمنع الدستور الأميركي استخدام الجيش في مهام داخل الوطن إلا في حالات الطوارئ المعلنة، وهو أمر نادر الحدوث.
إعلان
تتبنى إدارة ترامب رؤية سياسية مختلفة تماما للسياسات الليبرالية للرئيسين السابقين أوباما وبايدن حيال الجيش الأميركي، متهمة إياهما بإضعاف المؤسسة العسكرية والقيم الأخلاقية "للمحارب الأميركي" السائدة في العصور الماضية.
ولذلك، كان خطابا الرئيس ووزير حربه في هذا اللقاء غير العادي بمثابة إعادة تشكيل للقيم الأخلاقية للجيش الأميركي، بدءا من تغيير مسمى وزارة الدفاع، إلى وزارة الحرب الأميركية.
ترامب وجنرالات الجيش الأميركي
والجدير بالإشارة أيضا أن نظرة الرئيس الأميركي ترامب حيال جنرالات الجيش الأميركي تغيرت كثيرا في ولايته الثانية على ما كانت عليه أثناء فترة ولايته الأولى، حيث كان ترامب أكثر اعتمادا على هؤلاء الجنرالات، مثل الجنرال (بالمعاش) جيمس ماتيس، وزير دفاعه، وكذلك الجنرال (بالمعاش) جون كيلي، كبير الموظفين في البيت الأبيض، لتنتهي العلاقة بينه وبينهم سريعا إثر انتقادات حادة أطلقها هؤلاء الجنرالات ضد سياسة الرئيس ترامب في فترة ولايته الأولى.
وعليه، لم تشمل تشكيلة إدارة الرئيس الأميركي في ولايته الثانية جنرالات مرموقين في مستوى الجنرال ماتيس. وبدا ترامب في ولايته الثانية أكثر عزما على إحداث تغييرات جوهرية في المؤسسات الأميركية العامة، بما فيها المؤسسة العسكرية.
وعموما، تتميز الديمقراطية الأميركية، كغيرها من الديمقراطيات الغربية، بسيطرة المدنيين على المؤسسة العسكرية، حيث ينحصر دور الأخيرة فقط في الدفاع عن حرمة الوطن والمصالح الإستراتيجية في الخارج، دون التدخل في الشؤون السياسية الداخلية.
وتنظم التشريعات الدستورية الأميركية لوائح سيطرة المدنيين على المؤسسة العسكرية، حيث يشغل الرئيس الأميركي -وهو شخصية مدنية- منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة الأميركية، وصاحب القرار الأول في التعيينات العسكرية الكبرى وقرارات الدخول في الحروب وإنهائها، وتُعتبر مخالفة الأوامر -القانونية- للقائد الأعلى للقوات المسلحة جريمة يعاقب عليها القانون العسكري إلى حد الاتهام بالخيانة العظمى.
وكذلك ينطبق الحال على منصب وزير الدفاع الأميركي، حيث يجب أن يشغله دوما حسب القانون شخصية مدنية، وتمنع التشريعات الأميركية الجنرالات الأميركيين ممن أُحيلوا إلى المعاش من تولي منصب وزير الدفاع إلا بعد مرور سبع سنوات من انتهاء خدمتهم العسكرية، ترسيخا لمبدأ سيطرة المدنيين على المؤسسة العسكرية.
طبيعة العلاقات المدنية-العسكرية
تعرف كثيرون حول العالم على صامويل هنتنغتون من خلال كتابه ذائع الصيت "صراع الحضارات"، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، وما تلاها من الغزو العسكري الأميركي لكل من أفغانستان، والعراق.
ورغم الأخطاء الواضحة في أطروحته التي تجاهلت القواسم المشتركة بين الحضارات المختلفة والديانات السماوية مثل الإسلام والمسيحية واليهودية، فإنني أعتقد أن أعظم ما كتبه هنتنغتون وأثرى به مجال العلوم السياسية هو كتاب "الدولة والجندي"، الذي تناول العلاقات المدنية-العسكرية في الولايات المتحدة الأميركية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والجدل الدائر حينئذ حول الجيش الأميركي وتعاظم دوره، وزيادة حجمه وانتشاره في العالم.
إعلان
من أهم إسهامات هنتنغتون في هذا المجال أنه تحدث عن نوعين من سيطرة المدنيين على الجيش: الأولى أسماها "السيطرة الموضوعية"، وهي عبارة عن رؤية تقوم على اعتبار الجيش مؤسسة مستقلة عن المجتمع، لا ينبغي إخضاعها للتغيرات الاجتماعية والسياسية في المجتمع الأميركي. يُعتبر الجيش في إطار هذه الرؤية أداة مستقلة -عن المجتمع والتغيرات التي تحدث فيه- تستخدمها الدولة للأمن الوطني العام والدفاع عن مصالحها في العالم.
وعليه، ووفق هذه الرؤية، تخضع المؤسسة العسكرية لمعايير وقيم أخلاقية قد تختلف عن التغيرات التي تحدث في المجتمع الأميركي. ويتبنى هذه الرؤية الكثير من المحافظين الأميركيين، أمثال القائمين على وزارة الحرب الأميركية الحالية.
أما الرؤية الثانية، فقد أسماها هنتنغتون "السيطرة الذاتية" للمدنيين على العسكريين، وهذه الرؤية يتبناها الكثير من الليبراليين الأميركيين، والإدارات الديمقراطية التي ترى أنه لا ينبغي للجيش أن يبقى بعيدا عن التغيرات الاجتماعية والثقافية والأخلاقية في المجتمع الأميركي، باعتباره جزءا أصيلا من المجتمع الأميركي، وليس أداة مستقلة عنه.
وحسب هذه الرؤية، فإن الجيش يُعتبر بمثابة مرآة يجب أن تعكس ما يحدث في المجتمع الأميركي من تغيرات مختلفة، وألا يبقى منعزلا عنها.
كانت قضية انضمام الشواذ جنسيا في مطلع التسعينيات من القرن الماضي قضية أولتها إدارة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون اهتماما كبيرا، عندما أراد أن يسمح لهذه الشريحة من المجتمع الأميركي بالخدمة في الجيش دون الحاجة إلى إخفاء هوياتهم الجنسية، استجابة للتغيرات الاجتماعية الكبيرة، حيث لم يعد أمر هذه الجماعة عيبا أو جرما اجتماعيا كبيرا.
ولكن إدارة كلينتون اصطدمت باعتراضات كبيرة من قبل قيادات الجيش الأميركي، التي كانت تؤمن برؤية السيطرة الموضوعية على الجيش.
ولذلك، تبنى الرئيس حلا وسطا عُرف بسياسة "لا تسأل ولا تتكلم"، وهي سياسة تقوم بالسماح للشواذ جنسيا بالخدمة في الجيش الأميركي، وعدم استبعادهم أو طردهم من الخدمة العسكرية ما لم يصرحوا علانية بهويتهم الجنسية، وفي المقابل يُمنع سؤال الملتحقين بالجيش عن هوياتهم الجنسية.
واستمر العمل داخل الجيش الأميركي بسياسة كلينتون "لا تسأل ولا تتكلم" حتى وصول الرئيس باراك أوباما إلى البيت الأبيض، وسماحه لهذه الفئة من المجتمع الأميركي بالخدمة في الجيش الأميركي علانية، دون مواربة أو مضايقات من القيادات العسكرية.
وبينما نجد أن معظم الإدارات الجمهورية الحكومية تنعم بعلاقة طيبة مع قيادات الجيش الأميركي، يجد الرؤساء الديمقراطيون -في العقود الماضية- بعض الصعوبات في علاقاتهم مع الجيش الأميركي.
ولذلك، لم يكن غريبا، مثلا، أن يختار الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون السيناتور (الجمهوري) وليام كوهين كوزير دفاع في فترة ولايته الثانية.
وكذلك الحال عندما وجد الرئيس أوباما نفسه مضطرا في فترة حكمه ليختار قياديين جمهوريين بارزين لقيادة وزارة الدفاع -في فترتين متباعدتين- هما روبرت غيتس، وزير الدفاع السابق في عهد الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، والسيناتور الأميركي المرموق تشاك هيغل.
تبدو الدعوة التي تلقاها الجنرالات الأميركيون للاستماع لخطاب الرئيس ترامب ووزير حربه في ولاية فرجينيا بداية مرحلة جديدة، وسط إرهاصات تنبئ بإعادة تشكيل القوات العسكرية الأميركية عبر تقليص عدد كبار الجنرالات وزيادة عدد الجنود الأميركيين فيها، وكذلك إعادة النظر في القيادات العسكرية الأميركية خارج الولايات المتحدة. ومما لا شك فيه، أنه سيكون لهذه التغيرات آثارها الأمنية والسياسية على المدى البعيد، حال تطبيقها تطبيقا صارما.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
إعلان
0 تعليق