فيصل الحمد – خبير استراتيجي وعسكري
شهد العالم خلال الأيام الماضية تطورات خطيرة وضعت الأضواء مجددًا على أوكرانيا، الدولة التي أصبحت رقعة الشطرنج في الصراع الجيوسياسية بين الشرق والغرب. هذه التطورات ليست مجرد أحداث عسكرية في ميدان المعركة، بل قد تشكل منعطفاً جديداً في مسار الحرب، وتعيد تشكيل ميزان القوى الدولية وتفتح الباب أمام تداعيات غير مسبوقة.
منذ بداية الحرب، دعمت الدول الغربية أوكرانيا بأسلحة متطورة مع فرض قيود واضحة تمنع استخدام هذه الأسلحة في استهداف العمق الروسي. لكن هذه القيود بدأت بالتلاشي تدريجياً، حيث سمحت الإدارة الأمريكية الحالية باستخدام صواريخ (ATACMS)، التي يصل مداها إلى 300 كيلومتر، لضرب أهداف داخل الأراضي الروسية. هذه الخطوة وفرت للقوات الأوكرانية قدرات هجومية نوعية مكنتها من استهداف مواقع استراتيجية داخل روسيا. وقد شهد إقليم كورسك، القريب من الحدود الأوكرانية، عمليات عسكرية مكثفة، واستهدافات صاروخية متزايدة لدعم محاولة القوات الأوكرانية للصمود داخل هذا الإقليم.
وبالتزامن مع ذلك، أعلنت المملكة المتحدة موافقتها على استخدام أوكرانيا صواريخ “ستورم شادو” لاستهداف العمق الروسي، فيما اشارت أنباء عن استعداد فرنسا وألمانيا لاتخاذ خطوات مماثلة. هذه التحركات تنذر بتصعيد غير مسبوق في مسار تصادمي أكثر خطورة.
رداً على هذا التصعيد، لجأت روسيا إلى استخدام صواريخ بالستية حديثة متوسطة المدى من طراز “أوريشنيك” ذات قدرات متقدمة، تتميز بسرعتها العالية وقدرتها على حمل رؤوس متعددة، لاستهداف مجمع صناعات عسكري في مدينة دنيبرو الاوكرانية. هذه الخطوة تحمل رسالة حازمة للغرب مفادها أن أي تصعيد إضافي لن يمر دون رد قوي.
التصعيد أخذ منحى أكثر خطورة مع صدور تقارير أخباريه تفيد بأن إدارة بايدن ناقشت مع بعض حلفائها الغربيين احتمال منح أوكرانيا قدرات نووية كوسيلة لردع روسيا. هذه المناقشات، التي لم يعلن عن تفاصيلها رسمياً، تعد خطوة غير مسبوقة قد تؤدي إلى تصعيد كبير في مسار الحرب، خاصة إذا رأت موسكو في ذلك تهديدًا مباشرًا لأمنها الوطني. إذا تم تنفيذ هذه الفكرة، فقد تدفع روسيا لاتخاذ خطوات انتقامية شديدة تتوافق مع عقيدتها النووية، تشمل تصعيداً عسكرياً داخل أوكرانيا وربما خارجها.
في الوقت ذاته، استعدت الدول الأوروبية لأسوأ السيناريوهات. فعززت وجودها العسكري على الحدود الشرقية من خلال نشر قواتها، وحذرت مواطنيها من احتمالية تصاعد الأعمال العدائية. هذه التحركات تعكس إدراكاً متزايداً لخطورة الوضع الراهن، حيث باتت احتمالية تحول الحرب إلى مواجهة عالمية شاملة أكثر واقعية.
على الصعيد السياسي، جاء إعلان فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية ليضيف بعدًا جديدًا إلى الأزمة. ترامب المعروف بموقفه المؤيد لتخفيف التصعيد مع روسيا، أشار خلال حملته إلى نيته إعادة النظر في الدعم العسكري لأوكرانيا وفتح قنوات جديدة للتواصل مع موسكو. ومع ذلك، فإن تأثير هذا التحول السياسي لن يكون فورياً، إذ تستمر إدارة بايدن في اتخاذ قرارات مصيرية قد تعقد الأوضاع أكثر.
في ظل هذا المشهد المعقد، يبدو أن روسيا تحاول أحياناً ضبط النفس رغم الضغوط الغربية المتزايدة التي تسعى لمعرفة حدود الصبر الروسي. ومع ذلك، فإن التحركات الأخيرة، خاصة تلك المتعلقة بمناقشة القدرات النووية التكتيكية، تجعل من فرص الحلول الدبلوماسية أكثر تعقيداً. العالم اليوم يقترب من مرحلة حاسمة، حيث قد تتحول المواجهة في أوكرانيا إلى نزاع دولي شامل إذا لم تبذل جهود حقيقية لاحتواء الموقف.
التصعيد العسكري، مع غياب قنوات دبلوماسية فعالة، يهدد بتبعات كارثية على الأمن العالمي. وبينما تستعد الأطراف الكبرى لأسوأ السيناريوهات، يبقى الأمل لاتخاذ خطوات جريئة في مجال الدبلوماسية، قبل أن تتحول الأزمة إلى كارثة لا يمكن السيطرة عليها.
0 تعليق