الفاشر- في ظل تصاعد المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في مناطق عدة من السودان، تتحول مدينة الفاشر ومحيطها إلى مسرح لانتهاكات ممنهجة بحق المدنيين وسط غياب كامل لأدوات الرقابة الدولية أو الحماية القانونية.
وتكشف شهادات ميدانية حصلت عليها الجزيرة نت عن وجود شبكة من المعتقلات السرية التي تديرها قوات الدعم السريع، حيث يُحتجز العشرات في ظروف توصف بأنها "بالغة القسوة"، تشمل التعذيب الجسدي، والاغتصاب، والابتزاز المالي، والقتل البطيء داخل أحواض المياه.
وتأتي هذه المعلومات في وقت تتسارع فيه وتيرة المعارك بإقليم كردفان، مع تقدم الجيش السوداني نحو قلب دارفور، بينما تعيش الفاشر تحت حصار خانق منذ 10 يونيو/حزيران 2024، وسط انقطاع الإمدادات الإنسانية وتوقف الخدمات الأساسية، ما فاقم معاناة السكان المدنيين.
صنوف التعذيب
وبحسب إفادة خاصة للجزيرة نت من المتحدث باسم المقاومة الشعبية، أبو بكر أحمد إمام، فإن المقاومة وثَّقت وجود 5 سجون رئيسية داخل الفاشر، إضافة إلى عشرات المعتقلات الصغيرة داخل المنازل، "يُمارس فيها الدعم السريع أساليب تعذيب غير مسبوقة".
وأبرز مواقع الاحتجاز: مقر الإمدادات الطبية جنوب شرقي الفاشر، ومعسكر "جديد السيل" شمال شرقي المدينة، ومنطقة "قوز بينة" جنوبها، ومنزل قائد المليشيا سعيد ساركول شرقا، وقرية حلة نوبة جنوب شرقي الفاشر.
ويؤكد إمام أن قوات الدعم السريع تستخدم أحواض المياه داخل المنازل في أحياء شرق المدينة كسجون مغلقة، يُلقى فيها المعتقلون ويُتركون ليموتوا جوعا وعطشا دون أي تدخل، موضحا أن "الشخص الذي يدخل الحوض لا يخرج أبدا، ويُترك ليموت في صمت، وهذه من أبشع صور القتل البطيء التي تأكدوا منها"، حسب قوله.
وتحول مخيم زمزم (15 كيلومترا جنوب الفاشر)، أحد أكبر مخيمات النازحين بشمال دارفور، إلى مركز احتجاز واسع، حيث يستخدم الدعم السريع المرافق الخدمية ومقرات المنظمات والمدارس كمعتقلات للمدنيين الهاربين من الفاشر.
إعلان
وقال المتحدث الرسمي باسم نازحي المخيم، محمد خميس دودة، للجزيرة نت، إن الدعم السريع حوّل مقار المنظمات الوطنية والمدارس، إضافة إلى مقر بعثة الأمم المتحدة "يوناميد"، إلى معتقلات لاحتجاز المدنيين في ظروف غامضة وقاسية.
وأضاف أن هناك تقارير تشير إلى "عمليات استئصال أعضاء بشرية داخل هذه المعتقلات، يُعتقد أن منفذيها أجانب من جنسية كولومبية".
كما أفادت معلومات ميدانية بنقل حاويات من داخل المخيم إلى منطقة أبو زريقة جنوب زمزم، يُستخدم بعضها كمراكز احتجاز، وأخرى كمرافق طبية ميدانية لعلاج جرحى الدعم السريع، بعيدا عن أعين الرقابة أو التوثيق.
وتشير إفادات من مصادر ميدانية إلى أن الدعم السريع يمارس أنماطا متعددة من التعذيب داخل هذه المعتقلات، تشمل:
الجلد بالسياط وتعليق المعتقلين على الأشجار. التشويه الجسدي واقتلاع الأظافر. الاغتصاب، خاصة في معتقلات زمزم وقوز بينة. الحرمان من الطعام والماء لأيام متواصلة.ابتزاز مالي
وقال الناشط الإغاثي عبد القادر يحيى عبد الله للجزيرة نت، إن أكثر من 70 شخصا، منهم نساء وأطفال، محتجزون داخل مقر الإمدادات الطبية بمدينة الفاشر، في ظروف قاسية يُمنع فيها الوصول إليهم، وسط تقارير عن تعذيب واختفاء قسري في تلك المنطقة.
وأضاف أن هناك 15 مركز اعتقال داخل مخيم زمزم، إلى جانب 4 مراكز أخرى مخصصة للتعذيب في منطقة أبو زريقة، تُديرها عناصر الدعم السريع.
وأشار إلى ما وصفه بـ"الابتزاز المنهجي"، حيث تُجبر أسر المحتجزين على دفع مبالغ مالية كبيرة مقابل الإفراج عن ذويهم، إلا أن الإفراج نادرا ما يتم، بل يُطلب منهم لاحقا دفع مبالغ إضافية، في نمط من الاستغلال المنظم تحت غطاء الاعتقال.

خارج السيطرة
ورغم أن الفاشر تُصنَّف رسميا ضمن نطاق سيطرة الجيش السوداني، إلا أن الواقع الميداني يكشف عن مشهد أكثر تعقيدا، تتداخل فيه خطوط النفوذ وتتقاطع فيه السيطرة بين الأطراف المتحاربة.
فالقوات المسلحة السودانية تتمركز في مناطق محدودة داخل المدينة، أبرزها محيط السوق الكبيرة، ومطار الفاشر، وسجن شالا، وسوق المواشي، ومخيم أبو شوك للنازحين وفي وسط المدينة.
أما بقية المدينة، فتخضع فعليا لحصار مشدد من الدعم السريع، الذي أقام سواتر ترابية حولها، وتوغَّل في عدد من الأحياء السكنية، بما فيها أطراف مخيم السلام من الجهة الشمالية الشرقية.
هذا التداخل في السيطرة، وفقا لمراقبين ميدانيين، أتاح لقوات الدعم السريع إنشاء منشآت احتجاز داخل المدينة، سواء في مناطق لم تُؤمّن بالكامل من الجيش، أو في مواقع كانت خاضعة للمليشيا قبل أن تستعيدها القوات المسلحة.
كما أن بعض هذه المعتقلات تقع في أحياء مدنية يصعب على الجيش الوصول إليها دون الدخول في مواجهات مباشرة، ما يجعلها فعليا خارج نطاق السيطرة الفعلية رغم الوجود العسكري الرسمي.
غياب دولي
ورغم توثيق هذه الانتهاكات من منظمات محلية وناشطين ميدانيين، فإن المجتمع الدولي لم يصدر -حتى الآن- أي موقف واضح بشأن ما يجري في الفاشر خاصة في رفع الحصار عنها، عدا تلك الدعوات والمناشدات المتكررة التي تُبث من حين لآخر، حيث يخشى مراقبون أن يؤدي استمرار هذا الصمت إلى تفاقم الانتهاكات، وتحوُّل المدينة إلى نموذج لانهيار الحماية الإنسانية في مناطق النزاع.
إعلان
وحاولت الجزيرة نت الاتصال بقيادات في الدعم السريع للتعليق على هذه الادعاءات، لكنَّها لم تتلق أي رد حتى لحظة نشر هذا التقرير.
كما لم يصدر عن سلطاتها أي بيان عن مصير المحتجزين في هذه المعتقلات المزعومة، ما يزيد من حالة الغموض ويُعزِّز المخاوف بشأن مصيرهم.
0 تعليق