روي كاساغراندا: هكذا أنقذت الحضارة الإسلامية المعرفة وشكلت الحضارة الغربية - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تَطرح إشكالية صعود الأمم وسقوطها نفسَها كواحدة من أعمق الأسئلة في الفكر الإنساني، فما هي القوانين التي تحكم دورة حياة الحضارات؟ ولماذا تزدهر أممٌ حتى تبلغ ذروة مجدها، ثم لا تلبث أن تدخل في طور من الجمود والأفول؟ يكتسب هذا التساؤل أهمية خالدة، خاصة اليوم، في ظل ما يشهده العالم من تحولات كبرى، حيث تبدو مناطق تاريخية عريقة -مثل العالم العربي والإسلامي- وكأنها تبحث عن بوصلة للخروج من أزماتها، بينما تظهر على القوى الكبرى علامات تثير الجدل حول مستقبل هيمنتها.

وتستضيف الجزيرة نت أستاذ الدراسات الحكومية وخبير شؤون الشرق الأوسط في كلية أوستن المجتمعية (ACC)، روي كاساغراندا، وهو حاصل على درجة الدكتوراه في الدراسات الجرمانية من جامعة تكساس في أوستن. تتميز رؤيته الأكاديمية باعتمادها على نهج متعدد التخصصات يجمع بين السياسة والتاريخ والاقتصاد وعلم النفس، لفهم الظواهر المعقدة وأسبابها الجذرية، مستلهمًا في ذلك فلسفة ابن سينا.

يتمتع كاساغراندا بمنظور عالمي فريد، مدعوم بخلفيته متعددة الثقافات التي تعود لجذور مصرية وعربية وأوروبية، وقد أثرى فهمُه العميق للمنطقة عملَه الأكاديمي. كما يُعرف كاساغراندا بكونه محاضرًا عامًا، وله إسهامات كتابية عديدة أحدها كتابه "عرش كاريا الدموي" (The Blood Throne of Caria) الذي يؤرخ لصعود واحدة من أعظم بطلات التاريخ، أرطميسيا الأولى.

كتاب
كتاب "عرش كاريا الدموي" (الجزيرة)

اشتهر روي كاساغراندا في منطقتنا العربية بأفكاره المرتبطة بالحضارة الإسلامية، حيث يرى في حواره مع الجزيرة نت أن الحضارات تمر بدورة حتمية من الصعود والهبوط. ويعتبر أن العالم العربي والإسلامي يعيش حاليًا في مرحلة تدهور، لأسباب أهمها "تخمة الثراء" التي تؤدي إلى الكسل وفقدان الدافع، و"المحافظة" التي تقتل الابتكار. وفي المقابل، يرى كاساغراندا أن الولايات المتحدة تظهر نفس أعراض الأفول، بينما تُمثل بعض دول الخليج وإندونيسيا وماليزيا بوادر أمل لنهضة جديدة.

إعلان

يطرح كاساغراندا فكرة محورية يرى فيها أن التاريخ ليس مجرد قصص، بل "صندوق أدوات" للقادة. ويشرح أن القائد الحقيقي -من وجهة نظره- ليس من يستنسخ نموذجًا واحدًا، بل من يمتلك الحكمة لاختيار "الأداة" المناسبة لكل موقف، موضحًا أن حكمة صلاح الدين الأيوبي السياسية قد تكون الحل في ظرف ما، بينما تكون العبقرية العسكرية لخالد بن الوليد هي المطلوبة في ظرف آخر، وقد تكون الجرأة والمخاطرة المحسوبة لأبي بكر الصديق هي السبيل للخروج من مأزق ثالث.

يقدم كاساغراندا تقييمًا شاملاً لخالد بن الوليد، واضعًا إياه ضمن أعظم ثلاثة استراتيجيين عسكريين في التاريخ، إلى جانب الإسكندر الأكبر، وتحتمس الثالث. ويؤكد أن عظمة خالد لا تقتصر على سجله الحربي الخالي من الهزائم، بل تتجلى بشكل أعمق في إبداعه التكتيكي الفريد، حيث كان يبتكر استراتيجية جديدة لكل معركة. لكن جوهر العظمة الحقيقي، كما يراه كاساغراندا، يكمن في شرفه ونزاهته، وهو ما تجلى في موقفه بإعادة الضرائب لأهل الشام قبل معركة حاسمة، وهو الموقف الذي يعتبره دليلاً قاطعًا على أنه كان قائدًا ذا مبادئ إنسانية رفيعة.

كما يقدم كاساغراندا في حواره سردية تاريخية مفصلة يوضح من خلالها رؤيته لكيفية إنقاذ الحضارة الإسلامية للمعرفة الإنسانية. في تحليله، يرى أنه بعد تدمير الإمبراطورية الرومانية لمكتبة الإسكندرية وإغلاقها لأكاديمية أثينا، فرّ العلماء بكتبهم إلى بلاد فارس. ويتابع أن العرب والمسلمين احتضنوا هذا الإرث لاحقًا، ليبنوا عليه ويطوروا علومًا جديدة. ووفقًا لكاساغراندا فإن المعرفة عادت إلى أوروبا عبر الأندلس والحروب الصليبية، لتشعل فتيل عصر النهضة، وهو ما يقوده إلى استنتاج مفاده أن الحضارة الغربية ليست نتاجًا أوروبيًا خالصًا، بل هي مَدينة في جوهرها للحضارة الإسلامية.

Man holding Money in hand at Black Background, Man receive a lot Money from Trading, Business Success Concept.
من أسباب انهيار الحضارات ما يُسمى بـ "تخمة الثراء"، حيث يركن الأثرياء إلى ثرواتهم ويتوقفون عن الإنجاز (شترستوك)

فإلى الحوار:

استنادًا إلى نظرية ابن خلدون في دورة الحضارات، هل يمكن تفسير التدهور الحالي في العالم العربي والإسلامي كحتمية تاريخية؟ وإلى أي مدى تعكس الأزمات التي تواجهها قوى كبرى مثل الولايات المتحدة اليوم، نفس الأعراض التي تنبئ بدخولها مرحلة الأفول الخلدونية؟ وهل هناك بوادر نهضة عربية قادمة؟

تنهضُ الحضارات ثم تسقط، فتلك هي سُنّة الكون؛ لا شيء يدوم أو يبلغ الكمال، بل يشوب النقصُ كل شيء لأننا بشرٌ غير كاملين. ويشهد الشرق الأوسط حاليًا فترة من التدهور العام، باستثناء منطقة الخليج العربي التي تسير في اتجاه معاكس تمامًا لهذا التدهور. أما بقية منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فقد عاشت فترة عصيبة على مدى الأعوام 200 الماضية، إن لم يكن أكثر.

يُمكن القول إن الحضارة الإسلامية عمومًا، والعالم العربي خصوصًا، شهدا تدهورًا ملحوظًا. فبينما استطاعت تركيا أن تتعافى من انهيار الإمبراطورية العثمانية لتصبح لاعبًا عالميًا، بغض النظر عن تقييم وضعها السياسي الحالي، عزلت إيران نفسها بوضعٍ يعيق تفاعلها الطبيعي مع العالم، مما يجعل مسارها يبدو مسدودًا. وعلى النقيض من ذلك، تحقق كل من إندونيسيا وماليزيا أداءً جيدًا. لذلك، لا توجد إجابة موحدة، فالأمر يعتمد على المنطقة المحددة.

إعلان

تتجه معظم اقتصادات العالم العربي في المسار الخاطئ، باستثناء دول شبه الجزيرة العربية (عدا اليمن الذي يمثل كارثة واضحة). فلبنان الذي يحاول التعافي من سنوات الركود، وسوريا التي دمرتها الحرب، يتعرض كلاهما لقصف إسرائيلي متكرر. وقد دمّرت الولايات المتحدة العراق مرتين، بينما يغرق اليمن والسودان في حروب أهلية دامية، وقد تكون ليبيا في طور التعافي من حربها، لكن حقيقة هذا التعافي تظل غير مؤكدة. وإذا أضفنا إلى هذه الصورة الصومال الذي لا يزال حطامًا، فإن المشهد يبدو قاتمًا.

تتعدد الأسباب التي تؤدي إلى انهيار الحضارات، أحدها هو ما يمكن أن نسمّيه "تخمة الثراء" (affluenza)، حيث يصبح الناس أغنياء، فيركنون إلى ثرواتهم ويتوقفون عن الإنجاز. والأمر أشبه بتربية الأطفال؛ فالإفراط في تدليلهم يفسدهم، وكذلك الإفراط في حرمانهم، ولا بد من إيجاد منطقة وسطى. ويبدو أنه ما إن تصل حضارة إلى ذروتها، حتى يظهر جيل كامل، أو ربما أجيال، يعيشون فقط على ثروات الماضي.

لقد حدث ذلك بوضوح للإمبراطورية العربية عندما تشكلت، إذ وصل الأمر بالعرب إلى درجة التوقف عن الخدمة في الجيش، والاعتماد بشكل كبير على المرتزقة، خاصة الأتراك. وفي النهاية، عنى ذلك أن العرب لم يعودوا يملكون القوة الكافية لحماية إمبراطوريتهم، وكان ذلك نتيجة مباشرة لتخمة الثراء.

تتمثل الآلية الكبرى الأخرى في ميل الدول إلى"المحافظة"، ولا أقصد هنا المفهوم الأيديولوجي، فكل الأيديولوجيات محدودة، بل أعني أن الدولة تتوقف عن الابتكار، وتركّز على الحفاظ على ما تملكه بدلًا من التطوير والتحول والمضي قدمًا. ويبدو أن الولايات المتحدة في هذا الوضع الآن، مما قد يشير إلى أنها بلغت ذروتها وهي في طريقها إلى الانحدار، لأنها تعيش على ثروة الماضي وتوقفت عن الابتكار الحقيقي، فالابتكار الحاصل فيها هو ابتكار تكنولوجي لا يلبي الاحتياجات الأساسية، مثل تحسين هواتفنا الذكية.

إننا بحاجة إلى التفكير في قضايا أكبر: كيف سننتج الطاقة في غضون 25 عامًا؟ كيف سنوقف الاحتباس الحراري؟ كيف سنمنع الجسيمات البلاستيكية الدقيقة من دخول أجسامنا؟ إن التقدم التكنولوجي في الولايات المتحدة يسير في الاتجاه الخاطئ، فبدلًا من محاولة تعدين المزيد من العملات المشفرة وتطوير الذكاء الاصطناعي، يجب أن نركز على حل مشاكل العالم الحقيقية.

لقد كانت الأعوام 200 الماضية قاسية على العرب خصوصًا، وعلى العالم الإسلامي عمومًا، لكن هذا لا يعني أن القصة قد انتهت، إذ يمكننا أن نرى بوادر أمل في نهضة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وقطر، وإندونيسيا، وماليزيا. فصفحة المستقبل لم تُكتب بعد. وإذا كان التاريخ يعلمنا شيئًا، فهو أن العالم العربي، وربما العالم الإسلامي بأسره، سينهض في نهاية المطاف، ثم يسقط مرة أخرى، ثم ينهض ويسقط مجددًا، فهذا هو النمط الذي يبدو أننا نسير وفقه.

NEW YORK, NEW YORK USA - March 29, 2025: Person with a
إنشاء ديمقراطية حقيقية يتطلب وجود شعب على درجة عالية من الوعي والتعليم، لأنه هو من يمثل القيادة (شترستوك)

بالنظر إلى الجدل الدائر حول مدى ملاءمة الديمقراطية للعالم العربي، هل يمكن القول إن هذا النقاش برمته يغفل عن إشكالية أعمق وأكثر عالمية؟ وكيف يمكن أن نفهم تدهور الأنظمة السياسية في الشرق والغرب على حد سواء، ليس فقط كأزمة سياسية أو ثقافية، بل كأثر لأزمة أعمق عما نحتاجه لقيام الحكم الرشيد؟

هذا سؤال وجيه. وبادئ ذي بدء، لا يُعرف على وجه التحديد من اخترع الديمقراطية، لكن أول كيانٍ سياسيٍّ تشير السجلات إلى أنه قرر تبني هذا النظام كان دُول المُدُن في اليونان. وأنا لا أعتبر اليونان منطقةً منفصلةً عن تركيا وسوريا ومصر؛ ففكرةُ انتمائها لأوروبا وانقطاع صلتها بالشرق الأوسط هي فكرة لا معنى لها. فاليونان تنتمي إلى الشرق الأوسط -بغض النظر عن كون هذه التسمية في حد ذاتها غير موفقة، وذلك موضوع آخر- لذلك، أرى أن الديمقراطية في جوهرها مفهومٌ شرق أوسطي.

إعلان

يُظهر التاريخ أن أحد أسباب صعوبة حكم العالم العربي يكمن في طبيعة الثقافة العربية نفسها، فالشخصية العربية تتسم بالاستقلالية وقوة الإرادة والاعتزاز بالرأي، وهي سمات يمكن اعتبارها ميولاً ديمقراطية متأصلة. ومن اللافت للنظر في دول الخليج، أنها رغم كونها أنظمة ملكية مطلقة، فإنها تتبنى نهجًا قريبًا من الديمقراطية، حيث يولي حكامها اهتمامًا بالغًا لآراء الناس ومشاعرهم.

وينتج عن ذلك مساهمة شعبية مباشرة في القرارات الملكية، مما يكوّن نظامًا أقرب إلى النموذج الهجين منه إلى الصورة النمطية للملكية الاستبدادية. ورغم أن هذا الوصف قد يبدو متناقضًا، فإنه يعكس وجود مكون فاعل وقوي للرأي العام. ويُعد هذا النهج ناجعًا، ليس لأنه يحقق رضا الشعوب فحسب، بل لأنه يعزز إنتاجيته أيضًا، مما يخلق حلقة إيجابية من التغذية الراجعة التي تسير في الاتجاه الصحيح.

لا تكمن المشكلة الجوهرية في العالم في نوع النظام السياسي، سواء أكان ديمقراطية أم جمهورية أم ملكية، بل في كيفية إيجاد قيادة جيدة. ففي النظام الملكي، يتخذ القرار فردٌ واحد، بينما في النظام الجمهوري، تتخذه مجموعة من الأفراد. وتُعد الولايات المتحدة جمهورية انتخابية، حيث ينتخب الشعب ممثلين يتخذون القرارات نيابةً عنه.

أما في الديمقراطية الحقيقية، فلا وجود لحكومة وسيطة، إذ يتخذ الشعب قراراته بشكل مباشر. ويُعد النموذج الأثيني أشهر ديمقراطية مباشرة على الإطلاق، وقد استمرت لنحو 80 عامًا قبل انهيارها، حيث كان الناس يصوتون مباشرة على كافة السياسات، كإصلاح الطرق أو فرض الضرائب أو إعلان الحرب، بل امتدت سلطتهم حتى إلى تحديد وجهة الجيوش وتعيين قادتها. فكل هذه القرارات كان يتخذها الجمهور مباشرة، أي الناخبون أنفسهم. بناءً على هذا، يمكن القول إنه لا توجد ديمقراطيات حقيقية في عالمنا اليوم، بل تقتصر الأنظمة القائمة على الجمهوريات والملكيات فقط.

يتطلب إنشاء ديمقراطية حقيقية وجود شعب على درجة عالية من الوعي والتعليم، لأنه هو من يمثل القيادة. أما في النظام الجمهوري، فيجب إيجاد آلية تضمن وصول قادة متعلمين ومفكرين وأكفاء إلى السلطة. وفي النظام الملكي، لا يبقى للمرء سوى أن يأمل وجود قيادة صالحة.

وقد يُحالف الحظ بعض هذه الأنظمة فتترسخ فيها ثقافة قيادة راشدة تتوارثها الأجيال. وهذا ما يتجسد في دول الخليج التي تعيش جيلها الثاني من القيادة وتستعد لاستقبال جيلها الثالث، وتشير الدلائل إلى استمرارية هذا النهج القيادي المتميز لثلاثة أجيال متتالية، وهو أمرٌ ليس مضمونًا على الإطلاق في نظامٍ ملكي وراثي، إذ من الوارد جدًا أن يكون الجيل اللاحق غير كفء.

تكمن المشكلة في العالم العربي كما في الولايات المتحدة، في افتقار الجمهور إلى المعرفة والنضج المؤسسي والتعليم اللازم لإرساء عملية تصويت مستقرة. والدليل على ذلك أن عددًا قليلاً فقط من الدول العربية أجرى انتخابات حرة ونزيهة بالفعل. ففي مصر، كانت النتائج كارثية، مما أدى إلى انتهاء التجربة بشكل سريع وفاشل، وأحد الدروس المستفادة من ذلك هو أن الآلية التي أُجريت بها الانتخابات لم تُصمم بشكل صحيح.

Chatbot with AI (Artificial Intelligence), search engine, businessman using laptop connection to AI, use command prompt for generates idea something or solve problems, digital transformation, SEO. شترستوك
ما يقلق بالذكاء الاصطناعي هو أن يصل بنا الاعتماد عليه إلى درجة نصبح معها أقل ذكاءً وقدرة على التفكير النقدي (شترستوك)

ومن هنا يتضح أن تصميم الدستور أمرٌ مهم، لكن الأهم منه هو الوعي الجمعي والحالة الذهنية للناخبين. وهذا يدفعنا للتساؤل حول جدوى الانتخابات في أماكن مثل مصر والولايات المتحدة حاليًا، فالأخيرة لا تزال تشهد نتائج انتخابية صادمة تلو الأخرى. أما تونس، التي كانت الجمهورية الوحيدة التي شهدت انتخابات حرة ونزيهة، فقد صوّت شعبها في النهاية على مسارٍ يبدو وكأنه تراجع عن تلك التجربة الديمقراطية.

ولهذا السبب، فإن تجربة العالم العربي مع "الديمقراطية" -بمفهومها الشائع الذي نطلقه بانتظام وبشكل غير دقيق على دول مثل ألمانيا واليابان- كانت تجربة محدودة النطاق وقصيرة الأمد ومحلية الطابع. ومن ثم، فمن السابق لأوانه إصدار حكم نهائي عليها، ويبقى الأمل مع مرور الوقت في ألا يتلاشى هذا التوجه في العالم العربي.

تُفقدنا التقنية تدريجيًا بعض قدراتنا الأساسية، ويتجلى هذا بوضوح في اعتمادنا مثلاً على نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)؛ فلم يعد أحد تقريبًا يحفظ خريطة مدينته، إذ يكفي إدخال الوجهة في الهاتف للوصول إليها دون بذل أي جهد عقلي يُذكر في تعلم معالم المكان. ونتيجةً لذلك، تراجعت ملكة حفظ الطرق لدى الكثيرين، بمن فيهم أنا شخصيًا؛ فبعد أن كنت أحفظ خرائط المدن وأتنقل بين نقاطها دون تفكير، أجد نفسي اليوم أميل إلى استخدام الخرائط تلقائيًا حتى في مساراتي المعتادة، ربما لمتابعة حركة المرور وتجنب الازدحام. لكن هذا السلوك جعلنا أكثر اعتمادية على الأجهزة، وكأننا نقلنا جزءًا من وظائف أدمغتنا إليها.

إعلان

ويكمن خوفي في أننا سنواصل هذا النهج مع الذكاء الاصطناعي، فننقل إليه المزيد من قدراتنا العقلية. لا شك أن استخدام الذكاء الاصطناعي في إنجاز المهام الرتيبة والمملة -كتسجيل السيارة، أو تجديد التأمين، أو دفع الفواتير، أو تنظيم الصور- سيكون أمرًا رائعًا. لكن ما يقلقني هو أن يصل بنا الاعتماد عليه إلى درجة نصبح معها أقل ذكاءً وقدرة على التفكير النقدي. وبدلًا من أن يحررنا الذكاء الاصطناعي، قد يدفعنا إلى التوغل أعمق في نظريات المؤامرة والمعتقدات غير العقلانية، مثل فكرة أن الأرض مسطحة، مما يجعل إمكانية قيام ديمقراطية فاعلة في المستقبل أمرًا أقل احتمالًا.

نحن نرى هذا التوجه حتى في المجتمعات التي كنا نعتقد أنها مستقرة. ففي السويد على سبيل المثال، كانت نتائج الانتخابات الأخيرة مقلقة، حيث حقق اليمين المتطرف نتائج متقدمة، وهذا مؤشر على أن النظام السويدي يواجه تحديًا. ورغم أنه لم يصل إلى حد الفشل، فإن هناك مؤشرات تحذيرية واضحة على وجود خلل ما. ومن المؤسف أن هذا يبدو هو التوجه العام الذي يسير فيه العالم بأسره. لذلك، فإن النقاش حول شكل الحكومة الأنسب، سواء أكانت جمهورية انتخابية أم غيرها، هو في حقيقته إشكالية عالمية لا تقتصر على العالم العربي وحده.

صلاح الدين الأيوبي إفتحه لبيت المقدس- المصدر: ميدجيرني - الجزيرة
نجح صلاح الدين في قلب موازين الحروب الصليبية وترويضها، ليس عبر الانتصارات العسكرية، بل من خلال الرحمة والتفاوض والتسوية، وهي سمات قيادية غير مألوفة (الجزيرة)

بالنظر إلى حاجتنا لاستلهام نماذج قيادية من التاريخ، كيف يمكن للقائد المعاصر أن يتعامل مع الإشكالية الجوهرية المتمثلة في أن هذه النماذج تبدو أحيانًا متناقضة ومرتبطة بسياقاتها المحددة؟ وهل تكمن القيادة الحقيقية في استنساخ نموذج بعينه، أم في امتلاك الحكمة المرنة لاختيار الاستراتيجية الأنسب من التاريخ لمواجهة كل تحدٍ؟

نعم، إن النظر إلى الماضي لاستلهام نماذج القيادة الناجحة وتعلم الدروس منها هو أمرٌ مفيد وقوي على الدوام، لكن مدى إمكانية تطبيق نموذج معين لقائد تاريخي يظل موضع تساؤل. ولتوضيح ذلك، لنأخذ مثال صلاح الدين الأيوبي؛ فهو لم يكن قائدًا عسكريًا خارقًا، بل تعرض لهزائم عديدة يمكن سردها بسهولة، مثل معركة تل الجزر ومعركة أرسوف ومعركة يافا.. صلاح الدين لم يكن ببراعة خالد بن الوليد العسكرية الذي كان يسحق خصومه في كل معركة، ولكن صلاح الدين انتصر في النهاية سياسيًا وثقافيًا.

ولهذا، فرغم أن الحروب الصليبية استمرت قرابة قرن من الزمان بعد وفاته، فإن وهجها قد خبا، فلم يتمكن الصليبيون من تجاوز سيطرتهم على المدن الساحلية، ولم يستعيدوا القدس أبدًا، كما أن نفوذهم القائم على الترهيب قد تلاشى إلى حد كبير.

في الواقع، نجح صلاح الدين في قلب موازين الحروب الصليبية وترويضها، ليس عبر الانتصارات العسكرية، بل من خلال الرحمة والتفاوض والتسوية، وهي سمات قيادية غير مألوفة. لذا فإن محاولة قائد اليوم تطبيق هذه المبادئ قد تقوده إلى النجاح، وقد تكون هي بالضبط ما يتطلبه الموقف الراهن. لكن المشكلة تكمن في أنها قد تكون أيضًا الاستراتيجية الخاطئة تمامًا في سياق مختلف.

أنا معجبٌ جدًا بأسلوب صلاح الدين الأيوبي في القيادة، وأعتقد أن العالم سيكون مكانًا أفضل لو حاول المزيد من القادة تطبيقه. ولكن، يظل التحدي قائمًا في المواقف الحرجة، فكيف يمكن لقائد يتعرض لهجوم أن يتبع هذا النهج؟ قد يكون من الأفضل في تلك اللحظة تبني أسلوب خالد بن الوليد، الذي يركز على حسم المعارك عسكريًا الواحدة تلو الأخرى، بدلًا من التفاوض.

بعبارة أخرى، يجب أن ننظر إلى الماضي باعتباره سجلًا حافلًا بنماذج مختلفة لكيفية التصرف، لكي نتمكن من تطبيق أسلوب القيادة المناسب في اللحظة المناسبة، فالأمر أشبه بصندوق أدوات يحتوي على المطرقة والمنشار والمفك والمثقاب، ويتطلب معرفة الأداة الصحيحة لكل موقف. لكن معظم الناس، لا القادة السياسيين فقط، يميلون إلى استخدام أداة واحدة في كل الظروف، مما يفقدهم المرونة اللازمة. وهنا تكمن قيمة التاريخ، فهو يمنحنا الإلهام ويعلمنا طرقًا جديدة للتصرف والفعل.

لنأخذ مثال الخليفة الأول أبي بكر الصديق، الذي هاجم الإمبراطورية الفارسية والرومانية في وقت واحد، وهما أعظم إمبراطوريتين عرفهما العالم حتى ذلك الحين. من منظور عقلاني بحت، يبدو هذا القرار ضربًا من الجنون، ولكنه رغم ذلك تَكلل بنجاحٍ باهر. لا يبدو أن عالمنا المعاصر يمتلك مثل هذه الجرأة، فالمكافئ لذلك اليوم هو أن تقدم دولة مثل مصر على مهاجمة الصين والولايات المتحدة معًا، وهي نتيجة من المستحيل أن تكون إيجابية، بل إنها فكرة تتجاوز حدود الإمكان.

وهنا يكمن التحدي في كيفية استلهام هذا الدرس وتطبيقه اليوم. ربما لا يكون التطبيق عسكريًا، بل في مجال التكنولوجيا؛ كأن يقوم طرف صغير، لا يمتلك بالضرورة موارد ضخمة، بإطلاق ابتكارات جريئة تستقطب أفضل المواهب. وبهذه الطريقة، وبدلًا من الغزو العسكري، يمكنه أن يحقق الريادة في المجال التكنولوجي. هذا هو السبيل الذي يمكن من خلاله تطبيق ذلك الدرس التاريخي.

خلاصة القول، يجب أن ننظر إلى الماضي كمصدر إلهام ونموذج للقيادة، ولكن لا ينبغي أن نحاول تطبيق تلك النماذج حرفيًا إلا عندما يتناسب ذلك تمامًا مع اللحظة وظروفها. فالقيادة الحقيقية مرنة وقادرة على التكيف مع المتغيرات، وسواء استلهمت من الماضي أم لا، فإنها تبتكر دائمًا وتأخذ بزمام المخاطر المحسوبة.

فلا نجاح يتحقق دون مجازفة، لكن البعض يقع في فخ التمسك بفكرة "الحفاظ على ما لدي فقط"، وهذا النهج لا يقود إلى النجاح أبدًا، إذ لا بد من تحمل قدر من المخاطرة المحسوبة لتحقيق التقدم.

صلاح الدين الأيوبي حروبه مع الصليبيين - المصدر: ميدجيرني - الجزيرة
لا تكمن عظمة خالد بن الوليد في كثرة انتصاراته العسكرية فحسب، بل في ميزة فريدة تميز بها عن غيره، وهي قدرته على ابتكار تكتيك مختلف في كل معركة (الجزيرة)

ركزت في أبحاثك على قادة محددين في الإسلام، وقدمت طرحًا لافتًا بوضعك خالد بن الوليد ضمن أعظم ثلاثة استراتيجيين في التاريخ العسكري.. على أي أسس بنيت هذا التقييم؟ وهل يكمن السبب في سجله الحربي الخالي من الهزائم، أم في عبقريته الاستراتيجية الفريدة، أم أن هناك أبعادًا أخرى وراء هذا التصنيف؟

لطالما فتنتْني الحرب والاستراتيجية وكل ما يتعلق بهما، لذلك أركز اهتمامي عند دراسة التاريخ على الفائزين: ماذا فعلوا لينتصروا؟ وكيف حققوا ذلك؟ وإلى جانب خالد بن الوليد، يبرز اسمان آخران هما الإسكندر الأكبر، وتحتمس الثالث. للأسف، لا نعرف الكثير عن تحتمس الثالث، فقد كان المصريون القدماء مقصّرين في تدوين تفاصيل الأحداث في ذلك العصر، لكن ما نعرفه أنه خاض 17 حملة عسكرية دون أن يُهزم في معركة واحدة، فلو افترضنا أنه خاض ثلاث معارك في كل حملة، فإن مجموع انتصاراته يتجاوز 50 انتصارا، وهو ما يضعه في نفس المرتبة مع خالد بن الوليد.

ولا نعرف على وجه الدقة عدد معارك خالد بن الوليد، لكنها تقدر بما لا يقل عن 28، وقد تصل إلى 50 معركة، مما يجعل عدد انتصاراته قريبًا جدًا من انتصارات تحتمس الثالث. ومن المفارقات أن أول معركة تم تسجيل تفاصيلها بدقة في التاريخ هي معركة قادش بقيادة رمسيس الثاني (عام 1274 ق.م)، والتي وقعت بعد قرن من عهد تحتمس، مما حرم المؤرخين من تفاصيل إنجازاته.

كما يشترك الإسكندر الأكبر وخالد بن الوليد في سمة العظمة أيضًاـ إذ بالرغم من أن الإسكندر لم يخض نفس عدد المعارك، فإنه غزا مناطق شاسعة امتدت من الهند إلى اليونان. وفي المقابل، ورغم أن خالدًا لم يغز مساحة بهذا الحجم بنفسه، فإنه مهّد الطريق لفتوحات أكبر بكثير من إمبراطورية الإسكندر. فهؤلاء القادة الثلاثة يشتركون في سجلٍّ خالٍ من الهزائم، ونجاح عسكري مذهل، وبناء إمبراطوريات.

لا تكمن عظمة خالد بن الوليد في كثرة انتصاراته العسكرية فحسب، بل في ميزة فريدة تميز بها عن غيره، وهي قدرته على ابتكار تكتيك مختلف في كل معركة. فمن بين 28 معركة موثقة له، استخدم ما يقرب من 23 استراتيجية متمايزة، وهو أمرٌ يلامس حد الجنون، خاصة عند مقارنته بالقادة الذين يعتمدون "أداة واحدة" فقط، بينما امتلك هو العشرات في جعبته.

والأدهى من ذلك، أنك حين تظن أنه قد أرسى مبدأ عسكريًا، كان يحطمه في المعركة التالية مباشرةً وينتصر. فعلى سبيل المثال، بعدما خاض ثلاث معارك ليلية متتالية ليمنع الجيوش الفارسية من التجمع ضده، وهو مبدأ استراتيجي سليم، قام في المعركة التي تلتها بعكس ذلك تمامًا، إذ سمح لعدوه بالتجمع في مكان واحد ثم سحقه.

عند هذه النقطة، قد يصل المرء إلى استنتاج مفاده أنه لا توجد مبادئ ثابتة للحرب، بل هناك فقط الإجراء الصحيح الذي يجب اتخاذه في اللحظة المناسبة لتحقيق النصر. لقد ارتقى خالد بفن الحرب إلى مستوى رفيع، فكان أشبه بالرسام الذي يتقن أساليب فنية متعددة، مما يجعل فهم عبقريته العسكرية أمرًا عسيرًا.

غير أن جانبًا آخر في شخصيته يثير الإعجاب أكثر، وهو ما تجلى في موقفه حين خُفّضت رتبته، فبدلًا من أن يقود تمردًا، وهو ما كان في مقدوره، آثر الامتثال للأوامر وقَبِل القرار. وبعد فترة، وتحديدًا إثر فتح الشام، لم يتردد القائد أبو عبيدة بن الجراح في إعادته إلى القيادة لمواجهة مصيرية، حيث كانت أربعة جيوش رومانية تزحف لسحق جيش المسلمين بأعداد تفوقهم بأربعة أو خمسة أضعاف.. لقد أيقنوا أن خالدًا هو الوحيد القادر على تحقيق النصر في مثل هذه الظروف شبه المستحيلة.

وعندما تولى القيادة مجددًا، كان أول أمرٍ أصدره مفاجئًا، حيث قال: "أعيدوا الضرائب التي جمعناها إلى أهل الشام". وحين استفسر قادته عن السبب، أوضح منطقه قائلًا: "إنما أخذنا منهم الجزية لأننا وعدناهم بالحماية، فإذا هُزمنا في المعركة، سيستولي الرومان على أموالنا ولن يردوها إليهم، وبذلك نكون قد أخلفنا وعدنا. أما إذا انتصرنا، فسنعود ونفرضها عليهم مجددًا. لذا، فلنُعِد إليهم أموالهم الآن، حتى إذا كُتبت لنا الهزيمة، نموت رجالًا شرفاء".

تكشف هذه الحادثة عن جوهر شخصيته الحقيقية، فالقائد العادي في مثل هذا الموقف الحرج، وهو على شفا معركة قد تكون الأخيرة في حياته، لن يكترث لمصير المدنيين أو لمسائل الشرف. لكن في منطق خالد، كان الاحتفاظ بذلك المال في تلك الظروف ضربًا من الخيانة ونقضًا للعهد. وهذا المستوى الرفيع من النزاهة هو ما يثبت أنه كان إنسانًا من طراز فريد. لم تكن عبقريته تقتصر على العقل العسكري الذي يعمل أسرع من غيره، بل كان يمتلك حسًا إنسانيًا عميقًا يجعله يهتم لأمر المدنيين ويحرص على الصدق معهم، وهذا هو السبب الجوهري الذي يجعله شخصية جديرة بكل هذا الإعجاب.

الأساليب المبتكرة التي قاتل بها خالد لم تندثر، بل انتقلت عبر العصور لتؤثر في واحدة من أعظم الآلات العسكرية في التاريخ الحديث من حيث الكفاءة الفردية، وهي الجيش الألماني (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة)

ما هي أبعاد العبقرية العسكرية الفذة لخالد بن الوليد التي جعلت من عقيدته القتالية -المصممة لهزيمة جيوش تفوقه عددًا- تتجاوز حدود زمانها ومكانها؟ وكيف يمكن لفكرة عسكرية وُلدت في صحراء القرن السابع أن تسافر عبر الإمبراطورية العثمانية لتجد صداها في مأزق بروسيا الاستراتيجي في القرن 18، وتُشكل في النهاية جوهر إحدى أقوى العقليات العسكرية الحديثة؟

تُجمع المصادر التاريخية على أن كل جيش جاء بعد خالد بن الوليد؛ درس خططه وتكتيكاته. ومن السمات اللافتة في مسيرته أنه خاض كل معاركه تقريبًا وهو أقل عددًا من خصومه. ففي بعض الأحيان، لم يكن الفارق كبيرًا، كما في معاركه ضد الفرس التي كانت بنسبة أربعة إلى ثلاثة تقريبًا، لكن في أحيان أخرى كانت الفجوة العددية هائلة. وفي كل الأحوال، كان هدفه الدائم هو زعزعة توازن العدو واستخدام تفوقه العددي ضده، وذلك عبر زرع الفوضى في صفوفه حتى لا يتمكن من شن هجوم متماسك.

وقد تبنت جيوش أخرى هذا النهج، مثل الفايكينغ الذين اعتمدوا على هذه الاستراتيجية في هجماتهم عبر العالم بعد قرون من عهد خالد، مما يرجح احتمال تأثرهم بتكتيكاته. إلا أن الأثر الأوضح يظهر في الاستراتيجية العسكرية البروسية، التي تطورت لاحقًا لتصبح العقيدة العسكرية الألمانية. ففي القرن 18، واجهت مملكة بروسيا مأزقًا استراتيجيًا، حيث كانت محاطة بإمبراطوريات تفوقها حجمًا وقوة من كل جانب: النمسا جنوبًا، وروسيا شرقًا، وفرنسا غربًا.

طرح البروسيون على أنفسهم سؤالاً جوهريًا: كيف لجيش أقل عددًا أن يهزم أعداءً متفوقين عليه؟ وقد وجدوا الجواب في ضرورة تحقيق تفوق نوعي في كفاءة القادة والجنود يعوّض النقص العددي. ولتحقيق هذا الهدف، أرسلوا ضباطهم للتدريب مع القوات الإنكشارية في الدولة العثمانية.

وبذلك، فإن ما يُعرف اليوم بالاستراتيجية العسكرية الألمانية النموذجية قد تشكّل وتأثر مباشرةً بالمدارس العسكرية العثمانية، التي يُعرف أنها درست تكتيكات خالد بن الوليد. وعند عودتهم، صاغ الضباط البروسيون عقيدتهم القتالية الجديدة، جاعلين من مبدأ "مهاجمة العدو الأكبر لزعزعة توازنه" حجر الزاوية فيها، وهو جوهر استراتيجية خالد.

ورغم غياب الدليل المباشر الذي يثبت هذا التسلسل، فإن خط التأثير الذي يمتد من خالد إلى العثمانيين ثم إلى البروسيين، يبدو منطقيًا ومحتملًا إلى حد كبير. فالأرجح أن الأساليب المبتكرة التي قاتل بها خالد لم تندثر، بل انتقلت عبر العصور لتؤثر في واحدة من أعظم الآلات العسكرية في التاريخ الحديث من حيث الكفاءة الفردية، وهي الجيش الألماني.

ومع أن الألمان خسروا في النهاية بسبب التفوق العددي الساحق لخصومهم، فإن براعتهم القتالية كانت عبقرية، وتبقى مأساة قصتهم في وقوفهم بالجانب الخطأ من التاريخ. ورغم ذلك، يظل واضحا أن تأثير خالد بن الوليد قد تجاوز حدود الزمان والجغرافيا.

كيف أدى الصراع الممتد لقرون بين الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية، والذي بلغ ذروته في حالة من الإنهاك المتبادل والغرور الإمبراطوري بعد انتصار هرقل؛ إلى تهيئة المسرح بشكل مثالي لصعود قوة جديدة وغير متوقعة بقيادة خالد بن الوليد؟ وإلى أي مدى يمكن اعتبار معركة الفِرَاض -وما شهدته من تحالف بين العدوين اللدودين- اللحظة التاريخية الحاسمة التي كشفت عن فوات أوان صحوة العالم القديم وأعلنت عن بداية انهياره؟

تصارعت الإمبراطوريتان الفارسية والرومانية لقرون طويلة، وعندما ظهر خالد بن الوليد على الساحة، كان الصراع بينهما قد امتد لنحو 680 عامًا. وقبل ظهوره بسنوات قليلة، وتحديدًا في عام 628م، كانتا قد أنهكتا بعضهما في حرب مدمرة استمرت قرابة ربع قرن. لكن المثير للاهتمام في تلك الحرب أن الإمبراطور الروماني هرقل حقق إنجازًا لم يسبقه إليه أي قائد روماني من قبل، حيث هزم الفرس على أعتاب عاصمتهم طيسفون، وأجبرهم على الاستسلام.

أصاب الغرور هرقل بعد هذا النصر التاريخي، فظن نفسه إسكندرًا أكبر جديدًا، وأفضل من كل قادة روما العظام مثل يوليوس قيصر، فلم يسبق لأي روماني أن ألحق بالفرس هزيمة كهذه. ولكي يعبّر عن عظمة انتصاره، تخلى عن الألقاب الرومانية التقليدية مثل "قيصر" و"أغسطس"، واتخذ لنفسه اللقب الفارسي "باديشاه"، ثم غيّره لاحقًا إلى اللقب اليوناني "باسيليوس".

لكن فجأة، برز خالد بن الوليد على الساحة ليدكّ الإمبراطوريتين معًا في معركة الفِرَاض (634م)، التي شهدت أول مواجهة كبرى له مع الرومان. ففي تحول تاريخي لافت، وجد العدوّان اللدودان، الروم والفرس، نفسيهما متحالفين بعد 6 سنوات فقط من حربهما الطاحنة، إدراكًا منهما لخطورة هذا التهديد الجديد الذي لم يعد ممكنًا تجاهله.

لقد دفعتهم قوة خالد إلى الاتحاد قرب الحدود السورية العراقية، ولكن الأوان كان قد فات، فبانتصاره الساحق في الفِرَاض، أصبح الطريق أمامه ممهدًا لفتح الشام ومهاجمة الرومان مباشرة في عقر دارهم.

ميدان - علماء مستشرقون تاريخ تراث إسلامي
قدّم العلماء المسلمون استنتاجات فكرية تبدو شبه مستحيلة في عصرهم (مواقع التواصل)

بالنظر إلى المسار التاريخي الذي شهد انتقال شعلة المعرفة من العالم الكلاسيكي الذي دمر مكتباته، إلى الحضارة الإسلامية التي حفظتها وطورتها، ثم أعادتها بشكل مغاير إلى أوروبا لتشعل عصر النهضة، كيف يعيد هذا السرد تشكيل فهمنا التقليدي للانقسام بين حضارة "غربية" وأخرى "شرقية"؟ والأهم من ذلك، كيف أنقذت الحضارة الإسلامية المعرفة وساهمت في تأسيس الحضارة الغربية التي نعرفها اليوم؟

بعد اعتناقها المسيحية في القرن الرابع الميلادي، تبنت الإمبراطورية الرومانية نهجًا محافظًا أدى إلى توقف الابتكار فيها، بل بلغ الأمر أقصى درجات التشدد حين أصدر الإمبراطور ثيودوسيوس الأول مرسومًا بحظر جميع الأديان باستثناء المسيحية. وعند تطبيق هذا المرسوم في الإسكندرية، التي كانت مجتمعًا متعددًا يضم أغلبية مسيحية وأقليتين يهودية ووثنية، هاجمت حشودٌ مسيحيةٌ منظمةٌ الأحياءَ الأخرى، فقتلت وطردت معظم سكانها.

ثم بلغت المأساة ذروتها بإضرام النار في مكتبة الإسكندرية العظيمة، التي كانت آنذاك أكبر مستودع للمعرفة على وجه الأرض. لقد كان حرق المكتبة كارثة حضارية لا تقل في فداحتها عن فقدان ثلاثة أرباع شبكة الإنترنت بما تحويه من معلومات في يومنا هذا.

وبدلًا من التراجع عن هذا المسار المدمر، مضى الرومان في تدمير المؤسسات العلمية والفكرية بشكل ممنهج، وبلغ ذلك ذروته بإغلاق أكاديمية أثينا (الأكاديمية الأفلاطونية) عام 529م. دفع هذا الإجراء آخر علماء أثينا إلى الفرار بكتبهم القيمة نحو الإمبراطورية الفارسية، حيث مُنحوا اللجوء السياسي وأودعوا كنوزهم المعرفية في مدرسة جُنْدَيْسَابُو.

وعندما فتح العرب المسلمون بلاد فارس بعد قرن من الزمان، وجدوا هذه الثروة العلمية، وفي تحول تاريخي، قرروا الحفاظ عليها بدلًا من تدميرها. وبعد نحو قرن آخر، وتحديدًا في أواخر القرن الثامن الميلادي، بدأ العلماء العرب والفرس، وفي طليعتهم الكندي والخوارزمي، بدراسة محتويات تلك المكتبة والبناء عليها.. انطلقوا من الرياضيات والفلسفة، وسرعان ما أثمرت جهودهم عن تطوير أفكار جديدة كليًا، حيث أرسوا أُسس مفاهيم الطب الحديث، وعلم الجبر، وبدؤوا بحساب التفاضل والتكامل، وابتكروا المنهج العلمي التجريبي لأول مرة في التاريخ.

لم يأتِ هذا التحول العلمي فجأة، بل كان نتاج تطور تدريجي امتدت فيه الاكتشافات الكبرى بين القرنين 8 و11. شهدت تلك الفترة ثورة زراعية قائمة على تدوير المحاصيل، واستخدام النواعير المائية لتشغيل الطواحين. كما قدّموا القهوة للعالم، بعد اكتشاف حبوب البن في إثيوبيا وزراعتها في ميناء المخاء باليمن، وهو ما منح القهوة اسم "أرابيكا" ومشروب "الموكا". بل أسسوا أيضًا ما يشبه صناعة الأغذية العالمية، حيث ابتكروا طرقًا لنقل الطعام الطازج عبر سفن محملة بالثلج.

على الصعيد النظري، قدّم العلماء المسلمون استنتاجات فكرية تبدو شبه مستحيلة في ذلك العصر، فقد توصل ابن الهيثم إلى أن جميع الأجسام في الكون تمارس قوة الجذب، وأن للضوء سرعة محدودة تسير في الموجات، وهي خلاصات لا يمكن استنتاجها من الملاحظات اليومية المعتادة، مما يرجح أنه كان يُجري تجارب متقدمة لا نملك سجلًا لها. وبفضل هذه الجهود الجبارة، لم يتم الحفاظ على المعرفة التي أنتجها العالم القديم من مصريين وفرس ويونان ورومان وهنود وصينيين فحسب، بل تم تطويرها والبناء عليها.

عندما دمر المغول بغداد وبيت الحكمة عام 1258م، لم تواجه الحضارة الإسلامية نفس مصير العالم القديم الذي انهار فكره باعتماده على مستودع واحد للمعرفة. فقد كان المشروع الحضاري الإسلامي، الذي شارك فيه العرب والفرس والمسلمون والمسيحيون واليهود، يعتمد على شبكة واسعة من المراكز العلمية التي امتدت من قرطبة وسمرقند، وصولًا إلى القاهرة وتمبكتو. وبفضل هذا الانتشار اللامركزي، لم تضِع المعرفة إلى الأبد بسقوط بغداد.

ومن المفارقات التاريخية المذهلة أن هذه المعرفة عادت إلى أوروبا من بوابة الهزيمة، فعندما استعاد المسيحيون السيطرة على الأندلس، أمر البابا بتدمير الكتب العربية، لكن الرهبان المكلفين بالمهمة عصوا الأوامر، فحافظوا على الكتب وبدؤوا بترجمتها إلى اللاتينية واليونانية، ليعيدوا بذلك إحياء فكر أفلاطون وأرسطو في القارة. كما جلب الصليبيون العائدون معهم الكثير من هذه المعارف، مما أشعل فتيل عصر النهضة الأوروبية، حيث لم تكن "النهضة" (Renaissance) في جوهرها سوى "إعادة ميلاد" للعالم الكلاسيكي، وقد أدرك الأوروبيون أن السبيل الوحيد لإحيائه هو بالرجوع إلى ما حفظته مكتبات العرب والمسلمين.

blogs العلماء المسلمين
الحضارة الغربية ليست نتاجًا أوروبيًا خالصًا، بل هي شرق أوسطية في مهدها، فقد وُلدت على ضفاف النيل والفرات ودجلة، وطوّرها اليونان والرومان، ثم حفظتها وأعادت إحياءها الحضارة الإسلامية عبر العرب والفرس (مواقع التواصل)

وقد تجسد هذا التلاقي الحضاري في شخصيات فريدة مثل فريدريك الثاني، إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة وملك صقلية، الذي كان يتحدث 6 لغات، ويضم بلاطه علماء يهودًا ومسلمين، ويسكّ عملات ثنائية اللغة بالعربية واللاتينية، حتى إنه مُنح لقب "ملك القدس" الفخري تقديرًا لعلاقاته الطيبة مع العالم الإسلامي. وبالمثل، بنت مدينة البندقية ثروتها على التجارة مع الإسكندرية، وانبهر أهلها بتقدم العالم العربي في مجالات كالصرف الصحي وإنارة الشوارع ليلًا، فسعوا جاهدين لنقل مظاهر هذه الحضارة إلى ديارهم.

وهكذا، يمكن القول إن الحضارة الإسلامية أنقذت الحضارة الغربية فعليًا. ويجدر بنا أن نتذكر أن الحضارة الغربية ليست نتاجًا أوروبيًا خالصًا، بل هي شرق أوسطية في مهدها، فقد وُلدت على ضفاف النيل والفرات ودجلة، وطوّرها اليونان والرومان، ثم حفظتها وأعادت إحياءها الحضارة الإسلامية عبر العرب والفرس. وبعد أن دخل العالم العربي في مرحلة من التدهور لأسباب متعددة، انطلقت أوروبا لتسود العالم، وها نحن نعيش اليوم في حضارة عالمية واحدة ومترابطة، هي نتاج مسيرة تطور بدأت قبل 6500 عام.

اليوم، لم يعد هناك معنى للحدود المصطنعة بين الشرق والغرب، فنحن جميعًا نملك هواتف محمولة ونسافر على نفس الطائرات، ونعيش في حضارة عالمية متكاملة أشبه بالجسد الواحد، إذا تضرر جزء منه، تألمت سائر أجزائه، وهذا هو الدرس الجوهري الذي يبدو أن الكثيرين قد نسوه.

فالوضع المأساوي الذي يعيشه العالم العربي اليوم لا يضر به وحده، بل يضر بالكوكب كله. فالحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق، على سبيل المثال، لم تقتصر خسائرها على مقتل أكثر من مليوني إنسان وتكلفة 4 تريليونات دولار على أميركا، بل تشير التقديرات إلى أنها دمرت ما يعادل 10 تريليونات دولار من ثروة الاقتصاد العالمي.

لقد وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها تصرف طرف واحد بشكل سلبي يؤثر على كل فرد على هذا الكوكب، وقد حان الوقت لأن نبدأ بالتفكير وفقًا لهذا المنطق، فهذه هي حقيقة العالم الجديد الذي نعيش فيه.

كيف يمكننا فهم التناقض الظاهري في الحضارة الإسلامية، التي يُقال إنها حاربت علماء كبارا مثل ابن رشد وابن سينا، بينما هي نفسها تحتفي بهم كأبرز منجزاتها الحضارية، حيث أنقذ الأول الفلسفة اليونانية وقدمها للغرب، وأرسى الثاني أسس الطب الحديث؟ وهل يكمن مفتاح حل هذا التناقض في التمييز بين "الدولة" ككيان سياسي وبين "الأمة" أو "المجتمع" كحاضنة فكرية أنتجت هؤلاء العلماء واحتضنتهم؟

هذا سؤال جيد.. يُظهر التاريخ وجود ازدواجية معقدة في التعامل مع العلماء في العالميْن العربي والفارسي، فهناك وقائع قمع مثبتة، وفي المقابل هناك نماذج ساطعة للدعم والرعاية. ولنأخذ مثال ابن سينا، وهو عالم فارسي قضى مسيرته المهنية بأكملها في الأراضي الفارسية متنقلًا بين الدولة السامانية (دولة إسلامية فارسية أسسها أربعة إخوة من سلالة "سامان بن خدا" عام 819م) وجرجان والري وأصفهان، التي كانت آخر محطاته. وقد دفعه انخراطه في السياسة إلى هذا الترحال الدائم، حيث توفي في همدان أثناء خدمته وزيرًا لحاكم أصفهان. والمفارقة هنا أن ابن سينا سُجن في همدان على يد حاكم مسلم، لكن حاكم أصفهان، علاء الدولة محمد بن رستم دشمنزیار، قاد جيشًا وحرر ابن سينا من سجنه بعد فتحه لهمدان، ثم أصبح راعيه واعتنى به. إننا نميل أحيانًا عند قراءة التاريخ إلى التركيز على جانب واحد، ونتناسى أن الحقيقة غالبًا ما تكون أكثر تعقيدًا، فمقابل كل قصة اضطهاد لعالِم، هناك قصة دعم ورعاية له.

ولا يقتصر هذا النمط المزدوج على الحضارة الإسلامية وحدها، بل نجده في أوروبا والصين كذلك. ففي الصين، تقرر في مرحلة تاريخية تدمير كافة المعارف باستثناء تعاليم كونفوشيوس، وجرى محو إنجازات العلماء بشكل ممنهج، ومنهم "لاوتزه" الذي يُنسب إليه اختراع الكاميرا المظلمة، التي أعاد ابن الهيثم اختراعها بعد قرون. ولحسن الحظ، نجت بعض أعماله بفضل حفظها في المكتبات العربية.

وفي أوروبا، لم يكتفِ الرومان بتدمير مكتبة الإسكندرية، بل واصلوا إتلاف المكتبات الأخرى. وحتى في العصر الحديث، ورغم أن الإيطاليين والبروسيين عُرفوا برعايتهم الكبيرة للعلم، فإن ذلك لم يمنع وقوع حوادث قمع مروعة، ولعل أبرزها إجبار العالم غاليليو على إنكار حقيقة دوران الأرض حول الشمس والتوسل لنيل المغفرة أمام البابا، تحت تهديد عقوبة الإعدام.

خلاصة القول؛ أن كل حضارة إنسانية مرت بفترات متناقضة من قمع العلماء ودعمهم في آن واحد، فالعلاقة بين السلطة والعلم ليست خطية، بل تتسم بالفوضوية عبر التاريخ. ويتجسد هذا الواقع حتى في الولايات المتحدة اليوم، التي تُقدم نفسها كمنارة لحرية التعبير، بينما يُقمع فيها العلماء والأكاديميون وتُدمر مسيراتهم المهنية إذا انتقدوا الرأسمالية، أو السياسات الإمبراطورية كحرب العراق، أو عبروا عن آراء تدعم حقوق الفلسطينيين.

ابتكر العلماء عبر التاريخ استراتيجيات متنوعة للنجاة من القمع ومواصلة أعمالهم، فابن الهيثم -أحد أعظم علماء العرب- الذي وُلد في البصرة وأجرى أبحاثه في مصر، لجأ إلى التظاهر بالجنون ليفلت من بطش الحاكم، ورغم ذلك، نجح في تأليف أكثر من 120 كتابًا.

أما العالم الفارسي الفارابي، فقد اتبع حيلة أخرى، حيث تحايل على الرقابة بأن أوصى بنشر كتبه بعد وفاته، مما منحه حرية مطلقة في الكتابة عن الدين والقيادة دون خوف من عقاب. وهناك حل ثالث لجأ إليه الكثيرون عبر العصور، وهو مغادرة أوطانهم، كما فعل إنريكو فيرمي الذي فرّ من إيطاليا، وحنة آرنت وهربرت ماركوزه، اللذان فرّا من ألمانيا، حيث وجدوا جميعًا في الولايات المتحدة ملاذًا آمنًا لمواصلة أبحاثهم.

0 تعليق