كالغاري- يصل عديد من المهاجرين العرب والمسلمين إلى مدينة كالغاري في مقاطعة ألبرتا الكندية محمّلين بآمال واسعة لمستقبل أفضل، لكنهم يجدون أنفسهم أمام تحدٍ مزدوج يتمثل في الحفاظ على هويتهم الدينية والثقافية داخل مجتمع يشكل غير المسلمين فيه نحو 93% من السكان. وهنا تصبح المدارس الإسلامية بالنسبة لهم ملاذا آمنا يضمن تعليم أبنائهم القيم الإسلامية ويصون لغتهم الأم.
غير أن انطلاقة العام الدراسي الجديد 2026/2025 تكشف عن صعوبات متزايدة، فالأسر تواجه قوائم انتظار طويلة للقبول، إلى جانب رسوم دراسية مرتفعة تثقل كاهل ذوي الدخل المحدود. وهو ما يثير تساؤلات ملحة حول كيفية تحقيق التوازن بين الاندماج في المجتمع الكندي والحفاظ على الهوية الإسلامية، في ظل معضلة القبول وارتفاع التكاليف، بما يضمن بقاء الأجيال الجديدة متصلة بجذورها وقيمها الأصيلة.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listنشأة المدارس الإسلامية
بدأت المدارس الإسلامية في مدينة كالغاري بالظهور في بداية التسعينيات مع زيادة الهجرة من الدول العربية والإسلامية، تلبية لاحتياجات المجتمعات المسلمة المتنامية، حيث تأسست مدرسة عمر بن الخطاب عام 1992 لتكون أول مدرسة إسلامية، تحت إشراف الجمعية الإسلامية في كالغاري، تقدم تعليما يجمع بين المنهج الكندي والتعليم الإسلامي، وتستهدف الطلاب من المرحلة التمهيدية وحتى الصف التاسع، ثم تبعتها مدارس أخرى أنشأتها جمعيات ومؤسسات إسلامية.
وقبل عام 1992، كانت الجالية المسلمة تعتمد على برامج تعليمية جزئية في المساجد والجمعيات، مثل تعليم القرآن واللغة العربية في عطلة نهاية الأسبوع، ولم تكن في تلك الفترة مدرسة إسلامية كاملة الوقت معترفا بها من وزارة التعليم الكندية.

بيئة محافظة وتجنب لثقافة مخالفة للفطرة البشرية
في حديثهم مع الجزيرة نت، أكد عدد من أولياء أمور المهاجرين العرب والمسلمين أن دافعهم الأول لإلحاق أبنائهم بالمدارس الإسلامية هو الحفاظ على الهوية الدينية والثقافية للأبناء، مع الإشارة إلى وجود عوامل أخرى أسهمت في اتخاذ هذا القرار.
إعلان
عدنان الشايب (45 عاما)، فلسطيني الأصل، انتقل إلى كندا عام 2016 قادما من لبنان ليستقر في مدينة لم تتجاوز نسبة المسلمين فيها آنذاك 4%. وكغيره من القادمين الجدد، التحق أبناؤه في البداية بالمدارس الحكومية العامة لعدم معرفته بطبيعة المجتمع الجديد. لكن مع وصولهم إلى الصف السابع، اتخذ قرارا بنقلهم إلى مدرسة إسلامية خاصة.
وعن دوافعه، أوضح عدنان –بينما كان ينتظر خروج ابنته من مدرسة ماك الإسلامية– أن أبرز ما دفعه لذلك هو ملاحظته إدراج موضوعات تتعلق بثقافة مجتمع "الميم" (الشواذ) والتربية الجنسية ضمن المناهج الدراسية، إلى جانب تشجيع الطلاب على الإبلاغ عن أي اعتداء لفظي أو جسدي من الوالدين عبر الشرطة، وهو ما أثار قلقه. وأضاف أنه أراد أن يتلقى أبناؤه تعليما في القرآن الكريم وأساسيات العقيدة الإسلامية واللغة العربية، حفاظا على هويتهم الدينية والثقافية.

وأوضح -في حديثه للجزيرة نت- أن ولديه أتما المرحلة الابتدائية في المدارس الإسلامية، قبل أن ينتقلا لاحقا إلى المدارس الحكومية العامة لاستكمال دراستهما الإعدادية، بعد أن جرى إعدادُهما جيدا وغُرست فيهما قيم الهوية الإسلامية. وبيّن أن هذه الخطوة ساعدتهما على الاندماج في المجتمع الكندي مع الحفاظ على عقيدتهما، وتمكينهما من مواجهة الانفتاح الثقافي وأي أفكار أو معتقدات مغايرة لما يؤمنان به، بأسلوب علمي وتربوي متوازن.
واختتم عدنان حديثه قائلا: "أنا راضٍ تماما وسعيد بما حصده أبنائي من تجربة المدارس الإسلامية، وأنصح الأسر العربية الوافدة حديثا إلى كندا بأن تبادر بتسجيل أبنائها في هذه المدارس منذ البداية دون تردد، خاصة أن بعض المدارس الخاصة تقدّم دعما لتخفيف أعباء الرسوم الدراسية".
تُعتبر مدرسة ماك الإسلامية (MIS)، المعتمدة من حكومة ألبرتا، واحدة من بين 12 مدرسة تابعة لجمعية المسلمين في كندا (MAC) منتشرة في عدد من المدن الكندية. وتجمع هذه المدارس بين تقديم المناهج التعليمية الكندية وتعليم اللغة العربية والعلوم الدينية، استجابة لاحتياجات المجتمع المسلم المتنامي هناك.

أما أحمد زقوت، الوافد الجديد إلى مدينة كالغاري قبل نحو عام، فقد بدأ منذ وصوله رحلة البحث عن مدرسة إسلامية برسوم مناسبة لتسجيل أبنائه. لكنه سرعان ما اصطدم بتحدٍ آخر إلى جانب الرسوم، وهو طول قوائم الانتظار وصعوبة القبول نتيجة الإقبال الكبير من العائلات المسلمة على هذه المدارس.
ويقول للجزيرة نت: "لدي ابنة تبلغ من العمر 10 سنوات وابن عمره 6 سنوات، وفي مثل هذا العمر يندمج الأطفال سريعا في المجتمع ويتقنون لغته، لكنني لا أريدهم أن ينسوا لغتهم الأم أو قيمهم الإسلامية. أسعى إلى تنمية هذه القيم وترسيخها في نفوسهم، حتى يكونوا قادرين على مواجهة المعتقدات الخاطئة في المجتمع المحلي. لذلك، أنا مصمم على تعليمهم في مدرسة إسلامية".

غرس القيم والعقيدة
التقت الجزيرة نت مدير المدرسة، الأستاذ مازن الجشي، الذي أوضح أن رسالة المدرسة لا تقتصر على تدريس اللغة العربية والعلوم الدينية فحسب، بل تمتد لتشمل بناء شخصية الطالب وتنمية مهاراته عبر أنشطة تعليمية وثقافية متكاملة تنطلق من القيم والعقيدة الإسلامية.
إعلان
وأكد الجشي أن مظاهر الانتماء إلى الإسلام في المدرسة ليست مجرد مظاهر شكلية، بل تُترجم إلى ممارسة تربوية منظمة تهدف إلى غرس القيم في نفوس الطلاب. ويتجلى ذلك من خلال أنشطة داخل الصفوف وخارجها، وإحياء المناسبات الإسلامية، وإقامة صلاة الجماعة، إلى جانب برامج وأنشطة أخرى متنوعة.
وفي ما يتعلق بالحفاظ على التوازن بين الثقافة الإسلامية والاندماج بالمجتمع المحلي، شدد مدير المدرسة على أن مؤسسته التعليمية تُعد جزءا أصيلا من النسيج المجتمعي. ولهذا، تولي الإدارة أهمية كبيرة للمشاركة في الفعاليات الوطنية والأنشطة المجتمعية وتبادل الثقافات، فضلا عن تنظيم زيارات دورية لدور رعاية المسنين، والمساهمة في الأعمال التطوعية وحملات النظافة بالمنطقة المحيطة بالمدرسة.
ونفى الجشي، تعرض المدرسة لأي تمييز عنصري من المجتمع المحلي، قائلا: "نحظى بترحاب واسع من الجميع، ونسعى دائما لإظهار صورة إيجابية تعكس القيم الإسلامية".

جودة تعليم وبناء شخصية ونمط تربوي
وعند سؤاله عن أسباب طول قوائم الانتظار في المدارس الإسلامية، أوضح الجشي أن ذلك يعود إلى عدة عوامل رئيسية، أبرزها:
جودة التعليم المقدَّم، الذي يلبي في كثير من الأحيان ويتجاوز مستوى التعليم الحكومي. تخصيص حصص يومية لدراسة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية واللغة العربية. التركيز على بناء شخصية الطالب وفق نهج تربوي سليم. توفير بيئة تحمي الطلاب من بعض التجارب أو الممارسات التي قد تتعارض مع معتقداتهم وقيمهم. إعداد الخريجين ليكونوا مواطنين فاعلين ومندمجين في مجتمعاتهم.أما بخصوص ارتفاع الرسوم الدراسية الذي يحد من قدرة بعض الأسر ذات الدخل المحدود على تسجيل أبنائها، فقد أوضح الجشي أن الرسوم تختلف من مدرسة إلى أخرى تبعا لحجم الدعم الحكومي المتاح. وأشار إلى أن تكاليف المعيشة المرتفعة في كندا تفرض على بعض المدارس وضع رسوم أعلى لتغطية نفقاتها التشغيلية، نافيا في الوقت ذاته أن يكون هدف شبكة المدارس الإسلامية تحقيق الربح المادي.
وفي ختام حديثه، عبّر الجشي عن سعادته برضا أولياء الأمور عن مستوى أبنائهم وتطورهم بعد التخرج، مؤكدا أن معظم الخريجين يحافظون على صلة مستمرة بالمدرسة، التي بدورها تواصل دعمهم وتمكينهم ليكونوا عناصر فاعلة في المجتمع.

طلاب: لا نشعر بعزلة عن المجتمع
وخلال جولة الجزيرة نت داخل مرافق المدرسة، التقت عددا من الطلاب. فقد عبرت الطالبة مريم مراد (14 عاما)، في الصف التاسع ومن أصول سورية، عن سعادتها بالانتساب إلى المدرسة الإسلامية، قائلة: "في هذه المدرسة نتعلم تلاوة القرآن واللغة العربية والعلوم الإسلامية، ونحافظ على أداء الصلاة، كما نشارك في الإفطارات الجماعية وقيام الليل خلال شهر رمضان".
وأشارت مريم، المولودة في كندا والمتقنة للعربية والإنجليزية، إلى أنها لا تشعر بأي عزلة أو اختلاف عن أقرانها في المدارس الحكومية الكندية، مؤكدة رغبتها في مواصلة تعليمها داخل المدارس الإسلامية حتى نهاية المرحلة الثانوية، ثم الالتحاق مستقبلا بكلية الصيدلة.
من جانبه، تحدث الطالب عبد العزيز عريب (13 عاما)، في الصف الثامن ومن أصول عراقية، عن تجربته بعد 7 سنوات قضاها في المدرسة. وقال: "يبدأ يومي بحصص المناهج الدراسية المعتادة، إلى جانب حصص القرآن واللغة العربية والعلوم الإسلامية، ثم نجتمع جميعا عند الظهر لأداء صلاة الجماعة".
وعبّر عبد العزيز عن اعتزازه بالدراسة في المدرسة الإسلامية، مؤكدا رغبته في استكمال تعليمه فيها حتى المرحلة الجامعية، إذ يطمح أن يصبح طبيبا متخصصا في مجال الجراحة.

مواجهة تحديات الانفتاح
في ختام الجولة داخل المدرسة، التقت الجزيرة نت المنسقة التربوية ديانا رحال، وهي من أصول لبنانية وتقيم في كندا منذ 23 عاما. وأوضحت أن المنهاج الأكاديمي المطبق في المدرسة هو نفسه المستخدم في المدارس العامة، مع إضافة مقررات اللغة العربية والقرآن الكريم والتربية الإسلامية، مؤكدة أن الطلاب هنا لا يعيشون في عزلة عن المجتمع كما يعتقد بعض أولياء الأمور.
إعلان
وبيّنت ديانا أن ما يميز "مدارس ماك" ليس المنهج وحده، بل النهج التربوي القائم على أسلوب حياة مستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية، حيث يُغرس في الطلاب نموذج عملي للتربية الإسلامية. وأكدت أن هذا النهج يمنح الطلاب، خصوصا في المراحل العمرية الانتقالية نحو الإعدادي والمراهقة، القدرة على مواجهة تحديات المجتمع المفتوح والقضايا الحساسة، فضلا عن التعامل مع المحتوى المتنوع والضخم على وسائل التواصل الاجتماعي، بثبات وثقة بالنفس.
يُذكر أنه في العاشر من يوليو/تموز 2025 أعلنت وزارة التعليم في حكومة ألبرتا عن توجيه رسمي يلزم جميع مكتبات المدارس، من الصف الأول حتى الـ12، بإزالة الكتب التي تحتوي على "محتوى جنسي صريح" قبل الأول من أكتوبر/تشرين الأول المقبل، سواء كانت نسخا ورقية أو رقمية.

قانون تأسيس وتشغيل المدارس الخاصة والإسلامية في مقاطعة ألبرتا:
تحصل المدارس المعتمدة على تمويل جزئي من الحكومة الكندية، يصل إلى نحو 70% من التمويل المخصص للمدارس العامة عن كل طالب، وذلك شريطة الالتزام بتطبيق المنهج الأساسي.
وتُلزم المدارس الإسلامية بتدريس المنهج الرسمي لمقاطعة ألبرتا في المواد الأكاديمية الرئيسية، مثل: الرياضيات، والعلوم، والدراسات الاجتماعية، واللغة الإنجليزية، مع إمكانية إضافة مواد دينية أو ثقافية ضمن المنهج الإضافي، بشرط أن تكون متوافقة مع القيم الكندية ومعايير التعليم، وألا تؤثر على التوازن مع المقررات الأساسية.
كما تخضع المدارس الخاصة لإشراف وتفتيش دوري من وزارة التعليم لضمان التزامها بالمعايير الأكاديمية والإدارية المعتمدة. ويُشترط أن تكون هذه المدارس مؤسسات غير ربحية أو تابعة لمنظمات دينية أو ثقافية مسجلة بشكل رسمي.
0 تعليق