تحت القباب الموشاة للسوق المسقوف في إسطنبول، وبين الأزقة المضيئة برائحة البحر في أنطاليا، يتجول السياح ببطء، تتبعهم نظرات الباعة وأصواتهم التي تعرض الحلوى والسجاد والتوابل. حقائبهم تمتلئ بقطع من الذاكر، راحة الحلقوم بألوانها، سجاد منسوج بخيوط الحكايات، تمائم زرقاء تقي من الحسد، ومغناطيسات صغيرة تحمل وجوه المدن.
هذه المقتنيات، التي تبدو في ظاهرها تذكارات شخصية، تحولت إلى ظاهرة اقتصادية لافتة، إذ كشفت بيانات رسمية أن إنفاق السياح على الهدايا التذكارية في تركيا تجاوز المليار دولار خلال النصف الأول من عام 2025، في رقم يسجل للمرة الأولى في تاريخ السياحة التركية، ويعكس شغف الزوار باقتناء جزء من الثقافة المحلية ليحملوه معهم إلى أوطانهم.
جزء من تجربة السفر
ليست الهدايا التذكارية في تركيا مجرد مقتنيات صغيرة يشتريها السائح ثم يركنها في ركن بعيد، بل هي ذاكرة قابلة للحمل تختزن لحظات الرحلة وتلخص تجربة الزائر في بلد تتقاطع فيه الثقافات والتواريخ.

وبالنسبة لمن تطأ قدماه تركيا للمرة الأولى، يصبح التذكار جزءا أصيلا من طقوس السفر، شاهدا ماديا على المغامرة، وامتدادا للحكايات التي ستروى بعد العودة. يشعر الكثير من الزوار أن اقتناء قطعة من الحرف اليدوية أو منتج محلي، هو أشبه بحمل جزء من روح البلاد إلى الوطن – جزء من تاريخها وفنها وثقافتها.
وتؤكد وزارة السياحة التركية هذا البعد الإنساني، مشيرة إلى أن الحرف اليدوية التركية تعد لدى كثير من المسافرين رمزا لتجارب لا تنسى يمكنهم اصطحابها إلى ديارهم. فمجرد تذوق قطعة من راحة الحلقوم الممزوجة بعبق ماء الورد والفستق، أو ارتشاف الشاي في فنجان مزخرف اشتراه السائح من بازار إسطنبول، يكفي لاستحضار مشاهد الضيافة التركية الدافئة التي تبقى حية في الذاكرة.
توثيق الرحلة
ولا يقتصر الأمر على البعد الشخصي، إذ تمتد قيمة التذكار لتصبح جزءا من الثقافة المادية للسفر. فحين يتجول الزائر بين أروقة الأسواق التاريخية أو مشاغل الحرفيين في القرى الأناضولية، فإنه يشارك في تقليد إنساني قديم بقدر قدم الرحلات نفسها: اقتناء رموز من الأماكن التي يزورها.

تلك القطع – من مغناطيس صغير يحمل صورة آيا صوفيا أو كابادوكيا، إلى سجادة يدوية أو تميمة زرقاء – ليست مجرد منتجات، بل هي شواهد صامتة على شغف الاكتشاف ورغبة التعرّف على الآخر.
إعلان
بهذا المعنى، تمثل الهدايا التذكارية في السياحة التركية أكثر من تجارة أو نشاط جانبي؛ فهي جسر يربط الزائر بالمكان، تمزج بين المتعة الحسية التي تمنحها الألوان والنكهات، والقيمة الثقافية التي تخلّدها كل قطعة، لتغدو جزءا محوريا من التجربة السياحية الحديثة في البلاد.
تنوع حسب المناطق
يزخر المشهد السياحي التركي بسوق تذكارات نابض بالحياة، يقدم لوحة فسيفسائية تعكس تنوع البلاد الثقافي والجغرافي. لكل مدينة وبلدة بصمتها الخاصة التي تتجسد في منتجاتها المميزة، فتروي كل قطعة حكاية المكان الذي خرجت منه.

في إسطنبول، تتلألأ المصنوعات النحاسية المحفورة يدويا ومصابيح الفسيفساء الملونة في أروقة البازار الكبير، بينما تحمل خزفيات كبادوكيا وفخارها الأحمر – المصنوع من ترابها البركاني – عبق التاريخ العريق لوسط الأناضول.
وأما في الجنوب، فتغري أنطاليا وموغلا زوارهما بشواطئهما الذهبية، لكن الهدايا التي تخرج من هناك غالبا ما تكون منسوجات قطنية مطرزة أو قطعا فنية مصنوعة من خشب الزيتون المحلي.
وتحتل الحلوى الشرقية، وفي مقدمتها راحة الحلقوم والبقلاوة، مكانة خاصة بين خيارات الزوار، بما تحمله من رمزية الضيافة التركية وحلاوة المذاق الأصيل.
التوابل والمكسرات
كما تشكل التوابل والمكسرات المجففة من أسواق إسطنبول وغازي عنتاب نافذة على نكهات المطبخ العثماني، فيما تبرز الأوشحة المزركشة وقطع الدانتيل من بورصة كجزء من إرث النسيج التركي. أما السجاد والكليم اليدوي، الذي يتنافس السياح على اقتنائه من متاجر كبادوكيا وإسكي شهير، فيظل رمزا للجودة والفن الموروث عبر الأجيال.
ولا تخلو رفوف المتاجر من القطع الصغيرة ذات الرمزية الشعبية، مثل التمائم الزرقاء (خرزة العين) التي تتجذر في موروث درء الحسد، أو المجسمات التذكارية للمساجد والقلاع التي تختزل هوية المدن. وتظهر في قائمة أكثر المبيعات شعبية مزيج من المنتجات التقليدية ذات البعد الثقافي الواضح: من المغناطيسات المزخرفة بصور المعالم الشهيرة، إلى السجاد الفاخر، وصولا إلى صناديق راحة الحلقوم التي باتت جزءا من صورة تركيا لدى زوارها.

كما تحظى الصناعات الحرفية بإقبال واسع، إذ يجد السائح في الخزف المزجج بزخارف عثمانية من كوتاهية، والتحف المطعمة بالصدف من غازي عنتاب، وسيوف ياتاغان التقليدية من دنيزلي، ما يعكس تنوّع المهارات الحرفية في البلاد. وبهذا التنوع المذهل، يجد كل زائر ما يلائم ذوقه الشخصي، فيحمل معه قطعة تحمل روح المكان، وتخلد ذكرى الرحلة بطابع فريد.
عائدات قياسية
لم تكن الطفرة في مبيعات التذكارات مجرد مؤشر جانبي في موسم سياحي ناجح، بل واجهة لقصة اقتصادية متكاملة تعكس قدرة السياحة التركية على تنويع مصادر دخلها.
فخلال النصف الأول من العام الجاري، استقبلت البلاد أكثر من 25 مليونا و500 ألف سائح، بزيادة بلغت نحو 1.7% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، ما انعكس مباشرة على أسواق المنتجات التقليدية والحرف اليدوية التي شهدت انتعاشا ملحوظا.
إعلان
وتشير البيانات الرسمية إلى أن إنفاق الزوار على الهدايا التذكارية تجاوز مليارا و48 مليونا و518 ألف دولار في ستة أشهر فقط، مسجلا قفزة بنسبة 15% عن العام السابق، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ السياحة التركية.
بهذا الأداء، ترسخت التذكارات كأحد أكثر القطاعات ربحية في منظومة السياحة، وأسهمت في رفع إجمالي عائدات القطاع إلى نحو 25 مليارا و780 مليون دولار، وهو أعلى مستوى نصف سنوي تسجله البلاد على الإطلاق.

ويرى خبراء السياحة أن هذه الأرقام لا تعكس فقط قوة الطلب على المنتجات المحلية، بل تشير أيضا إلى رغبة متزايدة لدى الزوار في الانخراط المباشر باقتصاد الوجهة من خلال اقتناء ما يمثل هويتها الثقافية.
الاقتصاد الثقافي
غير أن الأهمية الحقيقية لهذه السوق تتجاوز الجانب المالي، إذ تحولت صناعة التذكارات إلى نموذج حي لما يمكن وصفه بـ"الاقتصاد الثقافي المصغر"، حيث تتشابك السياحة مع الحرف التقليدية لتوفير مصدر دخل ثابت لآلاف العائلات من الحرفيين والتجار في شتى المحافظات.
فكل سجادة يدوية يغادر بها سائح إلى بلده، هي استثمار في استمرار حرفة متوارثة عبر الأجيال. وكل علبة راحة حلقوم أو صندوق بهارات تقليدية، يشتريها الزائر، تدعم متجرا عائليا قد يمتد تاريخه لعقود.
ووفق تقارير متخصصة، أصبحت الهدايا التذكارية التركية مصدر دخل حيويا يعزز بقاء الحرف اليدوية، ويدفع بعجلة السياحة المحلية نحو مزيد من التنوع والاستدامة. وتؤكد هيئة الإحصاء التركية أن ارتفاع الإنفاق على السلع ذات الطابع الثقافي كان من أبرز العوامل وراء تسجيل هذه العائدات القياسية، ما يجعل سوق التذكارات لاعبا أساسيا في مشهد السياحة التركية اليوم.
0 تعليق