من خيمة إلى مستوطنة.. كيف يوظف الاحتلال الماشية للسيطرة على الضفة؟ - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

منذ احتلال الضفة الغربية عام 1967، بدأ مستوطنون إسرائيليون باستخدام الماشية وسيلة للاستيلاء على الأرض، حيث كانت الفكرة بسيطة في ظاهرها بجلب الأغنام إلى أراض قريبة من المستوطنات، ونصب خيام أو كرفانات، ثم تحويل المكان تدريجيا إلى حظيرة ومزرعة.

ومع مرور الوقت، تتحول البؤرة المؤقتة إلى مستوطنة معترف بها، مدعومة بالبنية التحتية والحماية العسكرية من الاحتلال.

اقرأ أيضا

list of 2 items end of list

خلف هذه الصورة يختبئ مشروع استيطاني منظم يعرف بـ"الاستيطان الرعوي"، يلتهم الأرض الفلسطينية بصمت ويقصي أصحابها الأصليين.

نرصد في هذا التقرير كيف تحوّل الرعي إلى أداة توسع صامتة، ونستعرض منهجية هذا الأسلوب ومحطاته، ونوثق أرقامه الصادمة وتأثيراته على التجمعات البدوية الفلسطينية، مع نماذج لمزارع تحولت إلى بؤر توسعية.

مراحل الاستيطان الرعوي

تعتمد إستراتيجية الاستيطان الرعوي على مراحل متدرجة، تبدأ بفكرة بسيطة وتتحول إلى واقع مفروض، حيث يختار المستوطنون أراضي فلسطينية بالقرب من مستوطنات قائمة أو على طرق إستراتيجية، ثم ينصبون عليها خياما أو كرفانات ويجلبون قطعانهم، تتطور هذه الخيام بمرور الوقت إلى حظائر ومزارع، حيث يُمنع وصول الفلسطينيين إلى أراضيهم عبر التضييق أو التهديد المباشر.

وللوقوف على تفاصيل هذه الإستراتيجية تواصلنا مع المشرف العام لمنظمة البيدر للدفاع عن حقوق البدو حسن مليحات، حيث قال إن الاستيطان الرعوي أحد أبرز الأساليب التي تعتمدها إسرائيل للسيطرة على الأراضي الفلسطينية، خاصة في مناطق "ج" التي تخضع للسيطرة المدنية والأمنية الإسرائيلية، وهو جزء من إستراتيجية أوسع تهدف إلى تهويد الأرض وخلق واقع ديمغرافي جديد يصعب تغييره مستقبلا.

وأضاف مليحات أن ذلك يبدأ بالتدريج عند اختيار المستوطنين لأراض فلسطينية بالقرب من مستوطنات قائمة أو على طرق إستراتيجية، ويتم إدخال قطعان الأغنام والمواشي مع إقامة خيام وحظائر مؤقتة دون تصاريح رسمية، وبعد الاستقرار الأولي يبدأ المستوطنون بتثبيت وجودهم عبر بناء بركسات ومخازن زراعية صغيرة، وتوسيع المساحة المستخدمة للرعي، في وقت يتم فيه منع الفلسطينيين من الوصول إلى الأراضي المجاورة، سواء بالقوة المباشرة أو التهديد أو التضييق على استخدام الموارد الطبيعية.

إعلان

وتابع "ينتقل المستوطنون فيما بعد للسعي خلف الاعتراف القانوني والتسوية، وبعد فرض السيطرة الفعلية، تتدخل الحكومة الإسرائيلية عبر إصدار تصاريح للبناء الزراعي أو الرعوي، واعتبار البؤر قانونية ضمن ما تسمى "مزارع نموذجية"، ويتم أحيانا تسجيل الأراضي باسم المستوطنين أو تحويلها إلى أراض للدولة، مما يسهل استمرارية السيطرة القانونية حتى تصبح البؤر الرعوية مدعومة رسميا، وتستفيد من حماية الشرطة والجيش.

وفي المرحلة الأخيرة تتحول بعض البؤر الرعوية إلى مستوطنات صغيرة مستقلة، أو تدمج ضمن مستوطنات قائمة، وتبنى على الأرض مرافق دائمة تشمل حظائر كبيرة وطرقا وشبكات مياه وكهرباء.

إحصائيات مرعبة

بحسب تقارير منظمة البيدر، بلغت مساحة السيطرة الرعوية حتى عام 2025 نحو 786 ألف دونم، أي ما يعادل 14% من الضفة الغربية، وأسفر ذلك عن تهجير أكثر من 66 تجمعا رعويا وتشريد ما يزيد على 7 آلاف فلسطيني منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.

كما وثقت المنظمة أكثر من 100 بؤرة رعوية، تركزت في الأغوار والقدس والخليل ورام الله ونابلس وسلفيت، وفي الأغوار وحدها يسيطر المستوطنون على نحو 80% من الأراضي الصالحة للرعي، مما حوّل المجتمعات البدوية الفلسطينية إلى كانتونات معزولة ومحاصرة بالقيود العسكرية والإدارية.

 

مزارع استيطانية

لم تعد المزارع الرعوية مجرد نقاط صغيرة لرعي المواشي، بل تحولت إلى أدوات إستراتيجية لإعادة رسم الخريطة الاستيطانية في الضفة الغربية، حيث يجري تسويقها كأماكن للحياة الريفية، في حين تعمل فعليا على طرد الفلسطينيين وتوسيع المستوطنات القائمة.

مزرعة "غفن عامي"

في أغسطس/آب الماضي، أعلن المستوطن إليشع يارد -المتهم بقتل شاب فلسطيني- عن إنشاء مزرعة غفن عامي في قلب مستوطنة غوش عتصيون بالخليل، واعتبر أن المزرعة تمثل "خلاصا حقيقيا" بفضل جهود المستوطنين "الرواد".

لم يقتصر المشروع على الوجود الميداني فقط، بل رافقه نشاط دعائي واسع عبر الإنترنت، بل تم الترويج له عبر مقاطع مصورة على فيسبوك وإنستغرام تظهر عائلات تتنزه وتغزل الصوف وتعد الطعام.

تقود هذه الحملة الدعائية آيلا بن باروخ، زوجة أحد مؤسسي المزرعة، والتي قدمت المشروع باعتباره "عملا مقدسا يرسخ أرض إسرائيل المقدسة"، وأنها نقاط جديدة تعزز "العمل المقدس" لاحتلال الأرض واستيطانها.

مزرعة مواشي نغوهوت

أُنشئت مزرعة مواشي نغوهوت في مطلع عام 2018 على يد مستوطن وجندي سابق يُدعى "حجاي"، قرب مستوطنة نغوهوت التي تعود إلى عام 1982 جنوب غرب الخليل، في خطوة تهدف إلى توسيع رقعة السيطرة وربط مساحات جديدة بالمستوطنة الأم.

تقول منظمة "ييش دين" الإسرائيلية إن هذه المزرعة ليست مجرد مشروع زراعي، بل أداة استيطانية تهدف لخلق تواصل على نطاق يزيد عن ألف دونم عبر إبعاد الفلسطينيين وحصرهم داخل مساحات مسورة.

 

الدعاية لم تتوقف عند الأرض، فقد روّجت شركة "الجبال الذهبية" المتخصصة في بناء الأحياء والمستوطنات للمزرعة عبر مقاطع مصورة تحمل شعار "تحويل الحلم إلى حقيقة"، تظهر المواشي والمناظر الطبيعية بهدف استقطاب عائلات للاستثمار والانتقال إلى المنطقة، في عملية تسويق تستغل الطابع الريفي لتغطية البعد الاستيطاني.

إعلان

وقدم

">حجاي نفسه المزرعة كخطوة "لتخليد ذكرى زميله الذي قتل في حرب غزة"، وقال إنه أصبح "جنديا للزراعة"، في حين أعلنت زوجته "أمونا" لاحقا عن إقامة مزرعة إضافية في المنطقة لحماية نحو 7 آلاف دونم ومنع أي تواصل جغرافي بين البلدات الفلسطينية القريبة، مؤكدة أن ذلك يتم بالتنسيق مع الجيش والجهات الرسمية، مما يكشف عن الغطاء المؤسسي الذي يحظى به المشروع الاستيطاني.

مزرعة عيمق ترتساه

في عام 2020، أنشأ المستوطن موشيه شارفيت وزوجته موريا مزرعة عيمق ترتساه شمال مستوطنة حمرا في الأغوار، وهي منطقة حساسة من الناحية الجغرافية، ولم يمر وقت طويل حتى شيّد في المزرعة نحو عشرة مبان على مساحة 20 دونما، في وقت تولّت فيه آليات ثقيلة شق طريق يصل طوله إلى كيلومترين لربطه مباشرة بالمستوطنة، في إشارة واضحة إلى الهدف الأوسع، وهو توسيع حمرا وتعزيز التواصل الاستيطاني في غور الأردن.

منظمة "ييش دين" الإسرائيلية أوضحت أن المستوطنين في المزرعة لا يكتفون بالوجود الزراعي، بل ينشطون يوميا لطرد الرعاة الفلسطينيين من أراضيهم التاريخية، مستخدمين أحيانا طائرات مسيرة لإخافتهم، في حين يتلقى المستوطنون دعما مباشرا من الجيش الذي يوفر الحماية ويستخدم مركبات عسكرية لإبعاد الفلسطينيين عن المراعي.

حسب "ييش دين"، يستخدم المستوطنون الطائرات المسيرة لإخافة الرعاة الفلسطينيين، في وقت يوفر فيه الجيش الدعم المباشر لهم لطردهم من أراضيهم.

تصف وسائل إعلام إسرائيلية مزرعة "عيمق ترتساه" بأنها نقطة إستراتيجية لحماية غور الأردن، فقد نشرت القناة السابعة تقريرا موسعا دعا الإسرائيليين إلى دعم عائلة شارفيت ماليّا ومساندة المزرعة لتوسعتها، مما يربط المشروع المحلي بإستراتيجية أوسع تهدف لتكريس الوجود الاستيطاني في الأغوار باعتبارها خط دفاع جغرافي حاسم.

وعلى المنصات الرقمية، تحولت المزرعة إلى واجهة اجتماعية جديدة للاستيطان؛ إذ نشرت مقاطع فيديو وصور توثق حفلات زفاف وأنشطة ترفيهية في مرافقها، في محاولة لاستقطاب عائلات يهودية للانتقال والعيش فيها.

هذه الدعاية تعكس نهجا مشتركا بين جميع المزارع الاستيطانية الجديدة وهي تقديم صورة "الحياة الريفية" البسيطة لإخفاء مشروع استيطاني منظم يهدف إلى إقصاء الفلسطينيين وإحكام السيطرة على الأرض.

حركة  أمانا

ومن دون الدعم المالي والحكومي لا يمكن لأي مشروع استيطاني التوسع، وهو الدور الذي تلعبه حركة "أمانا" التي يرأسها زئيف حيفر الذي يوصف بأنه "الروح الحية للاستيطان غير القانوني"، وتأسست الحركة عام 1979 بهدف الاستيطان في أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان السوري والجليل والنقب.

وقال حيفر في تصريحات سابقة إنه يسعى لإنشاء العديد من المزارع حول المستوطنات، حيث إن المزارع أداة أكثر فاعلية وقوة من المستوطنات وتسيطر على مساحات أكبر بكثير.

وفقا لتحقيق صحيفة "هآرتس"، تعمل "أمانا" بشكل غير قانوني أحيانا وتلعب دورا رئيسيا في إقامة بؤر استيطانية زراعية غير قانونية، وفي السنوات الأخيرة أصبحت هذه المناطق مرتبطة بعنف المستوطنين ضد الفلسطينيين.

وتقدر حركة "السلام الآن" الإسرائيلية أن أصول "أمانا" تبلغ 600 مليون شيكل (نحو 161 مليون دولار)، وفق هآرتس. وفرضت الولايات المتحدة عقوبات على حركة "أمانا" الاستيطانية قبل عام، ورغم ذلك تواصل عملها.

إلى جانب "أمانا"، يحظى "الاستيطان الرعوي" بتمويل من وزارة الزراعة الإسرائيلية تحت بند "منح المراعي"، وقد بلغ حجم الدعم نحو 3 ملايين شيكل بين عام 2017 ونهاية 2024، في وقت تخصص فيه الحكومة سنويا نحو 54 مليون شيكل لتعزيز الحماية الأمنية للمستوطنين العاملين في هذه البؤر، وفق وسائل إعلام إسرائيلية.

اعتداءات بلا رادع

بالتوازي مع هذا التوسع الاستيطاني والحماية والدعم المالي، يتعرض الفلسطينيون لاعتداءات وانتهاكات وسلب للأرض يوميا بهدف نزعهم من أرضهم.

إعلان

وقال حسن مليحات لـ"الجزيرة تحقق" إن الفلسطينيين يتعرضون لعدة انتهاكات منها التهجير القسري بفقدان أراضيهم وتهجير العائلات، والحرمان من الموارد الطبيعية ومنع الوصول للمراعي والمياه وأراضي الزراعة، والاعتداءات المباشرة من مستوطنين يهاجمونهم ويقيدون حركتهم تحت حماية الجيش.

واعتبر مليحات أن هدم شرطة الاحتلال كل فترة بعض المزارع الاستيطانية أو البؤر يندرج تحت "المراوغة والازدواجية"، حيث تهدم الشرطة أحيانا حظائر أو خياما تعتبر "غير قانونية"، خاصة إذا كانت محل انتقاد دولي أو محلي، وغالبا ما تكون هذه العمليات شكلية وتستهدف البؤر الصغيرة فقط، مضيفا أن حكومة الاحتلال تدعم البؤر الأكبر وتسمح لها بالتمدد، مما يعكس سياسة مزدوجة بتقديم مظهر قانوني دوليّا، مع استمرار الدعم الفعلي للاستيطان.

 

وهكذا يتكرر النمط نفسه من الخليل جنوبا إلى الأغوار شمالا، حيث يبدأ المشروع بخيمة أو حظيرة صغيرة، ثم مزرعة مواشٍ، يتبعها دعم دعائي عبر المنصات الرقمية، قبل أن يتحول إلى بؤرة استيطانية مدعومة بالبنية التحتية والحماية العسكرية. وبينما يقدّم للمجتمع الإسرائيلي كحياة ريفية عائلية، يترسخ في الميدان كأداة إحكام للسيطرة على الأرض الفلسطينية وإقصاء سكانها الأصليين.

0 تعليق