موسم النبي موسى من أكبر المواسم الدينية في فلسطين، وقد بدأت جذوره في العهد الأيوبي. ويُقام في مقام النبي موسى الواقع في برية القدس على طريق أريحا، ويتضمّن احتفالات شعبية واسعة وطقوسا دينية مميزة تجمع بين الروحانية والموروث الثقافي.
ومع دخول الاحتلال البريطاني إلى فلسطين، بدأ الموسم يكتسب بُعدا سياسيا واضحا، إذ تحوّل إلى منصة للتعبير عن الرفض الشعبي للاستعمار والصهيونية، وبلغ هذا الطابع ذروته عام 1920 أثناء ما عُرف بـ"هبة النبي موسى" التي شكّلت واحدة من أبرز مظاهر المقاومة الفلسطينية المبكرة ضد الاحتلال البريطاني والدعم المتزايد للمشروع الصهيوني.
منطقة المقام
يوجد مقام النبي موسى في برية القدس، وهي منطقة جغرافية تقع إلى الشرق من مدينة القدس، على بُعد نحو 28 كيلومترا منها. ويبعد حوالي 7 كيلومترات عن مدينة أريحا.
الجذور التاريخية لموسم النبي موسى
تشير معظم الكتابات الحديثة إلى أن موسم النبي موسى، إلى جانب مواسم فلسطينية أخرى مشابهة، نشأ زمن القائد صلاح الدين الأيوبي.
ويُقال إن صلاح الدين رتّب هذه المواسم أو أمر بتنظيمها بهدف مواجهة التجمعات الصليبية التي كانت تقام في عيد الفصح المسيحي، مما جعل الموسم مناسبة دينية وشعبية ذات بعد إستراتيجي.
وفي القرن السادس الهجري، أثناء فترة الاحتلال الصليبي، كان هناك اعتقاد شائع بوجود قبر للنبي موسى ﷺ في منطقة أريحا. وآنذاك، اقتصرت الزيارات إلى المقام على بعض الأفراد، دون أن تكون فيها طقوس موسمية منظمة أو موعد محدد.

ومع انتهاء الاحتلال الصليبي وبداية العصر الأيوبي، تحولت تلك الزيارات الفردية المتفرقة إلى زيارات جماعية منتظمة، وأصبح للمقام موسم سنوي متعارف عليه، واكتسب الاحتفال طابعا دينيا وترفيهيا معا، إذ كانت تقام فيه الصلوات والمواكب والولائم والفعاليات الشعبية.
وقد وثّق شمس الدين السيوطي في كتابه "إتحاف الأخصام بفضائل المسجد الأقصى" هذا التحول قائلا "وقبره مقصود بالزيارة في القبة التي تقدم ذكرها، والناس يتحملون مشقة الذهاب إليه ويبيتون عنده، ويبذلون الأموال في عمل المآكل والمشارب وأجرة الدواب، يفعل ذلك الرجال والنساء من أهل بيت المقدس وغيرهم من الواردين عليه بقصد الزيارة، لا يخلون بذلك حتى الآن".
إعلان
وبلغت شعبية مقام النبي موسى ذروتها في العصر المملوكي، خاصة القرن التاسع وأوائل القرن العاشر الهجري، إذ بدأ المقام يكتسب طابعا إسلاميا عاما يتجاوز حدود فلسطين، ليصبح مقصدا للزوار من مناطق أوسع في العالم الإسلامي.
وخلال فترة الحكم العثماني، ازداد الاهتمام بالأضرحة والمقامات والمقدسات، ومنها مقام النبي موسى. وارتبط هذا الاهتمام بسياسات عثمانية عامة هدفت إلى تعزيز حضور الدولة في المجال الديني لمواجهة التغلغل الأوروبي المتزايد.
ومنتصف ونهاية القرن الـ19، تصاعد النفوذ الأوروبي في فلسطين، لا سيما في القدس، وتزايدت البعثات التبشيرية والأديرة والمستعمرات التي أسسها الهيكليون الألمان ضمن مساعٍ لإحياء مشروع "مملكة صليبية" جديدة.
وفي ظل هذه التحولات، بدأت بريطانيا تقديم الدعم لليهود بهدف إعادة توطينهم في "أرض الميعاد" وتدفقت قوافل الحجاج الروس والفرنسيين والنمساويين. كما بدأ قناصل الدول الأوروبية التدخل المباشر في الشؤون المحلية.
ومع المناخ المضطرب، أصبح موسم النبي موسى أكثر من مجرد احتفال ديني؛ بل اتخذ طابعا سياسيا بارزا، يعكس الهوية الوطنية الفلسطينية ويعبر عن رفض الوجود الاستعماري والصهيوني.
وكان يرأس احتفالات النبي موسى أوائل القرن الـ19 نقيب الأشراف عمر بن عبد السلام الحسيني، ويبدو أن الإشراف على الموسم انتقل بعد ثورة الحسيني وابن عمه طاهر المفتي على المصريين سنة 1834 إلى المفتين المتعاقبين من آل الحسيني، وصولا إلى مفتي القدس الحاج أمين الحسيني الذي بلغت الاحتفالات في عهده ذروتها واكتسبت طابعا وطنيا وسياسيا موجّها ضد الاستعمار والصهيونية.

بدايات القرن العشرين.. الصدامات الأولى
مع تفاقم التغلغل الأوروبي والاستفزازات الصهيونية أوائل القرن العشرين، بدأت تظهر لأول مرة أحداث تعكر صفو مواكب النبي موسى.
ففي عام 1910 أثارت بعثة بريطانية بقيادة مونتغيو باركر، التي أجرت حفريات في المسجد الأقصى وتحت قبة الصخرة موجة غضب عارمة.
وعندما عاد موكب النبي موسى إلى القدس، تحولت المناسبة إلى مظاهرات وهتافات غاضبة ضد المسؤولين العثمانيين، بعدما أشيع أن الوزارة العثمانية أجازت تلك الحفريات.
موسم 1920.. أول انفجار شعبي واسع
شهد موسم عام 1920 أحداثا دامية غير مسبوقة. وبينما كان الموكب يسير في طريقه بأهازيج وأناشيد، وبصحبته كوكبة من فرسان البوليس، قيل إن أحد اليهود بصق باتجاه علم من أعلام الموكب، مما أدى إلى اشتباك عنيف تدخل فيه الطرفان.
وقد أسفرت الاشتباكات عن 7 قتلى و200 جريح من اليهود، و5 شهداء و25 جريحا من العرب. وأُغلقت المدينة أياما عدة، وتصاعد التوتر في أنحاء البلاد.
وعندما تنبّه الاحتلال البريطاني إلى الدور الذي يضطلع به موسم النبي موسى في حشد الجماهير، أوقف الاحتفالات به عام 1937. وبعد نكبة عام 1948، توقفت الفعاليات مؤقتا، لكنها استؤنفت في خمسينيات القرن العشرين.
ومع ذلك، ما لبث أن تنبّه الاحتلال الإسرائيلي للأبعاد ذاتها، فأوقف إحياء الموسم مجددا من عام 1967 وحتى 1993.

احتفالات موسم النبي موسى بالقرن العشرين
كان موسم النبي موسى في القرن العشرين بمثابة عيد شعبي ووطني عام، شارك فيه أهالي المدن والقرى الفلسطينية، خاصة من القدس ونابلس والخليل، وقرى جبال فلسطين الوسطى.
إعلان
وقد تميّز الموسم بطابع ديني وتراثي، وتحول إلى مناسبة جماهيرية ذات تنظيم دقيق ومراسم متبعة بدقة كل عام.
موعد الموسم وبرنامجه
كان توقيت الموسم يتحدد وفق عيد الفصح لدى المسيحيين الأرثوذكس، ويقع عادة في الأسبوع الذي يسبق عيد الفصح، وتحديدا تبدأ الاحتفالات الخميس الذي يسبق "الجمعة الحزينة" بفترة 8 أيام، وتمتد على مدار أسبوع كامل.
تسلسل الأيام والوفود المشاركة
الخميس (بداية الموسم): يبدأ بوصول موكب من أهالي نابلس إلى القدس. الجمعة (زفّة العلم): وتنطلق من المسجد الأقصى باتجاه مقام النبي موسى، يتقدّمها علم النبي موسى، وتُعتبر هذه الزفّة الإعلان الرسمي عن بدء الموسم. الأحد: يصل موكب الخليل وقراها إلى القدس. الاثنين: تتوجّه أعلام القدس ونابلس والخليل نحو المقام، حيث تبدأ الاحتفالات وتستمر حتى الخميس التالي. الخميس (العودة إلى القدس): يعود الموكب من المقام إلى مدينة القدس في احتفال ختامي كبير. الجمعة الأخيرة (جمعة العليمات): تُعاد الأعلام إلى أماكن حفظها الأصلية، وهي: علم النبي موسى، علم المسجد الأقصى، علم النبي داود. وتُقام احتفالات رسمية بهذه المناسبة، تتبعها مغادرة الوفود للقدس." frameborder="0">
زفّة العلم ومراسم رفعه
تُعد زفّة العلم من أهم العادات الرمزية في الموسم، وتبدأ بـ:
إحضار علم النبي موسى من مكان حفظه، في "الدار الكبيرة" المسماة "دار البيرق" وتقع في عقبة المفتي. يجتمع في هذا المكان الوجهاء وكبار الموظفين والمشاركون في الزفة. يُسلّم العلم إلى المفتي على طبق نحاسي، ثم تُقرأ الفاتحة. ينشر المفتي العلم ويثبته في الزانة، وهي العصا الطويلة التي تُحمل عليها الراية. تتحرك الزفّة ببطء نحو المسجد الأقصى، وتدخل من باب الحبس. بعد صلاة الظهر تترك الزفة المسجد الأقصى ويمضي المفتي الأكبر وحملة الأعلام و"خدام النبي موسى" الآخرون قدما إلى خارج الأقصى. وعندما يتركون المسجد الأقصى يمتطون الخيل ويتحركون ببطء على الطريق الممتدة من طريق الآلام، ويتركون المدينة من باب الأسباط. يحمل الجمهور أعلاما كثيرة تمثل الأولياء المختلفين في المدينة والقرى المجاورة وكل علم له أتباعه، فيكون علم الشيخ عاطف، والشيخ القزاز، والشيخ علي الشريف، وعلم النبي صمويل، ويرافق كل هذه الأعلام علم النبي داود وعلم المسجد الأقصى وعلم النبي موسى حتى تصل الزفة إلى رأس العامود. يواصل الوجهاء رحلتهم بالسيارات أو العربات ويتبعهم قسم من الجمهور.مواصفات علم النبي موسى
مصنوع من المخمل الأخضر. مطرّز من جميع الأطراف بخيوط ذهبية. وسط كل جانب منه قطعة حرير سوداء عليها كتابات مطرزة. مثل: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وكلم الله موسى تكليما. يُثبّت على زانة طويلة تنتهي من الأعلى بهلال ذهبي، يُستخدم لحمله في الزفّة.وعند وصول الوفود إلى المنطقة، تكون أول محطة للزيارة هي مزار الراعي، حيث يتجمع القادمون قبل أن يتوجهوا جماعيا إلى مقام النبي موسى.
ومع اقتراب الموكب من الفناء الخارجي للمقام، تبدأ الزفّة بالتقدم ببطء شديد وسط تصاعد الحماسة والاحتفال. وأثناء المسير من مزار الراعي إلى المقام، تُطلق الأعيرة النارية بكثافة تعبيرا عن الفرح وإعلانا لوصول الموكب.
ويسير في مقدمة الزفّة حامل العلم، يليه العازفون على الآلات الموسيقية، ثم مجموعة من الشباب يحيطون بقائدهم الذي يحدد إيقاع الرقص مستخدما سيفا أو عصا أو منديلا، ويرقص معهم وفق الإيقاع الذي يفرضه، ويغني مقطعا من أنشودة يردده الآخرون من بعده.

وأحيانا ينضم الموسيقيون إلى حلقة الرقص، ويصفق الجميع بشكل منتظم حتى يصل الموكب إلى المقام حيث تستقبل النساء القادمين بالزغاريد والأهازيج.
ومن أبرز الرقصات المؤداة في الموسم السحجة والدبكة، وفي بعض الحالات تُقدَّم عروض بالسيف والترس.
إعلان
وتُستخدم في هذه الفعاليات مجموعة من الآلات الموسيقية التراثية، منها الطبس والكاسات والمزهر والشبابة والأرغل والناي والزمارة والمجزر والدرقة والنُويّة.
أما "خدام النبي موسى" فهم من عائلة الحسيني ويونس وقليبو وبزبزت، ولكل عائلة من العائلتين الأوليين مطبخ في المقام تطبخ فيه كميات هائلة من الطعام، وتوزع على الزوار مرتين في اليوم.
وكانت عائلة الحسيني تطبخ يوميا نحو 300 كيلوغرام من اللحم، إلى جانب طهي اليخاني وكل يوم تقدم وجبتين.
وكانت تُذبح المواشي وغالبيتها من الأغنام والخرفان، في مكان مخصص خارج المقام على الطريق المؤدي إلى طريق العربات.
وكانت هذه المناسبة تجذب العديد من التجار وبائعي ألعاب التسلية، وتمتلئ الساحة بالباعة الذين يبيعون الحُلى والملابس والفواكه المجففة والمناديل والأحزمة القماشية والأواني الزجاجية والأساور والخواتم والسلاسل والمسابح والجرار والكتيبات والكراريس وعلب الكبريت والشموع، وغير ذلك من السلع.
وعلى الرغم من الأجواء الاحتفالية كان الجانب الديني حاضرا بقوة، إذ يستجيب الناس لنداء المؤذن ويؤدّون الصلاة في المقام أو المسجد أو في غرف وخيام مخصصة لذلك، وتُعقد حلقات الذكر التي يُرتّل فيها شيخ حسن الصوت آيات من القرآن الكريم، وكان الختان أيضا من الممارسات الشائعة أيام الموسم وفي هذا الموقع بالذات.
0 تعليق