النزوح والتجويع ونقص الدواء تخطف أطفال غزة قبل الولادة - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

غزة- في ردهات مجمع ناصر الطبي بخان يونس جنوبي قطاع غزة، يسود صمت ثقيل يقطعه بين الحين والآخر أنين الأمهات وصوت أجهزة التنفس المتقطع. وعلى مقعد بلاستيكي مهترئ، جلست ريم عبد الله تحدق في بطانية وردية كانت قد أعدتها لطفلتها المنتظرة، لكن الرحلة انتهت قبل أن تبدأ.

تقول ريم للجزيرة نت "كنت أعد الأيام لأحتضنها، لكن الجوع والخوف خطفاها مني". وقد نزحت من حي الشجاعية شمالي القطاع قبل أسابيع بعدما فقدت منزلها في قصف عنيف، ووصلت إلى خان يونس منهكة القوى، بلا غذاء ولا دواء، لتكتشف أن جنينها توقف عن الحركة قبل أيام من موعد ولادته.

على بعد خطوات، كانت دعاء المصري تتكئ على جدار قرب باب قسم الولادة. لا تزال ترتدي ثوب العمليات الأخضر وقد فقدت طفلها الخديج بعد دقائق من ولادته. وتروي للجزيرة نت "وُلد حيا لكنه لم يجد حليبا ولا حضانة تعمل بكامل طاقتها. انقطع التيار الكهربائي مرتين أثناء الولادة، ولم نستطع إنقاذه".

رضيع يعاني سوء تغذية حاد داخل حضانة مستشفى ناصر.
رضيع يعاني سوء تغذية حادا داخل حضانة مجمع ناصر الطبي (الجزيرة)

انهيار كامل

في غرفة مجاورة، تمددت مها الحسن على سرير معدني وقد أجهضت جنينها في شهره السابع بعد معاناة نزوح سيرا على الأقدام من حي الدرج غرب مدينة غزة حتى خان يونس جنوبا. وتوضح للجزيرة نت "مشيت ساعات طويلة بلا ماء ولا طعام، كنت أشعر بآلام غريبة في بطني، لكن لم يكن هناك سيارة إسعاف أو طريق آمن. حين وصلت كان الجنين قد فارق الحياة".

داخل قسم الولادة يسابق الأطباء الزمن في ظروف توحي بانهيار كامل؛ فغرفة العمليات تفتقر إلى التعقيم، والمعدات تتشاركها أكثر من حالة في الوقت نفسه، وفي إحدى الزوايا تحاول ممرضة تهدئة أم أخرى فقدت للتو توأميها قبل ولادتهما. وقد اختلط نحيبها بصفير أجهزة التنفس الذي لا يغطي أصوات القصف، وكأن المستشفى ساحة حرب بلا مدافع.

هذه المشاهد هي واقع متكرر في مجمع ناصر. فخلال 24 ساعة فقط، سجّل 13 وفاة لأطفال حديثي الولادة، بينهم 10 أجنة فقدوا حياتهم في أرحام أمهاتهم قبل أن يروا النور، و3 خدج رحلوا داخل الحضانات بعد صراع قصير مع أجهزة تنفس شبه معطلة.

يقول طبيب النساء والولادة في المجمع عمر أبو محسن، للجزيرة نت، إن معظم الأمهات اللواتي فقدن أجنتهم كنّ نازحات من شمال القطاع، يعانين إجهادا شديدا وسوء تغذية حادا، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الإجهاض والولادة المبكرة.

إعلان

ويضيف أن انقطاع التيار الكهربائي ونقص وحدات الدم والأدوية السريرية جعل إنقاذ الأجنة شبه مستحيل، و"حتى العمليات القيصرية الطارئة تُجرى في ظروف بدائية"، مشيرا إلى وفاة 10 أجنة داخل أرحام أمهاتهم الجائعات المُرهقات في ليلة واحدة.

أما أسعد النواجحة اختصاصي الأطفال وحديثي الولادة، فيروي للجزيرة نت تفاصيل مأساوية عن وفاة الأطفال الخدج، حيث "كانت الحضانات تعمل بطاقة ناقصة، أجهزة التنفس متوقفة لساعات، وحليب الأطفال غير متوفر. كنا نكافح بكل وسيلة بدائية، لكننا فقدنا ثلاثة أطفال في يوم واحد".

طبيبة مستشفى ناصر تقيس النبض لرضيع حالته الصحية متدهورة
طبيبة في مستشفى ناصر الطبي تقيس نبض رضيع حالته الصحية متدهورة (الجزيرة)

دور المجاعة

تصف الممرضة شذا أشرف تلك الليلة بأنها "الأطول في حياتها المهنية"، وقالت للجزيرة نت "كنا نتنقل بين الأمهات لإخبارهن بوفاة أجنتهن، إذ نسمع في الخارج صوت طائرات كواد كابتر، كأننا في إذاعة للموت حصريا".

يرى محمد الراعي، استشاري التغذية العلاجية في غزة، أن المجاعة التي تضرب القطاع أحد أبرز أسباب ارتفاع وفيات الأجنة والأطفال. ويشرح أن الحوامل اللواتي يعشن على وجبات تفتقد البروتينات والفيتامينات يعانين نقصا حادا في الحديد وحمض الفوليك، ما يضاعف أخطار الإجهاض والولادة المبكرة.

ويضيف للجزيرة نت، أن غياب الحليب المدعّم للأمهات والأطفال، وانقطاع إمدادات الخضراوات والفواكه الطازجة، يجعل أجساد الحوامل غير قادرة على مواجهة الحمل، وأن استمرار الحصار ومنع دخول المساعدات الغذائية "يعني المزيد من الأرواح المهددة".

ويحذر الراعي من أن استمرار هذه الحالة "سيقود إلى أجيال تعاني أمراضا مزمنة، فحتى من ينجو من الأطفال يواجه خطر التقزم وفقر الدم الحاد"، مؤكدا أن تغذية الأم والرضيع أصبحت قضية حياة أو موت لا تحتمل الانتظار.

كارثة مركّبة

من جانبه، يصف محمد زقوت، مدير عام المستشفيات بوزارة الصحة، ما يجري في القطاع الصحي بـ"الانهيار الكامل". ويوضح أن المشافي تعمل بأقل من 20% من طاقتها، والمخازن فارغة من أدوية الطوارئ وأجهزة التنفس. ويعاني مجمع ناصر نقصا كارثيا في حاضنات الأطفال، وهناك عجز تام في وحدات الدم اللازمة لإنقاذ الحوامل.

ويقول للجزيرة نت إن المجمع كان يُعد منذ سنوات خط الدفاع الصحي في الجنوب، لكنه الآن يُعاني الأمرّين من استهداف مباشر، ونقص في الأدوية والمحاليل، و"ضغط غير مسبوق من المرضى القادمين من شمالٍ مدمر، وآلاف النازحات، بعضهن تهرب من القصف دون طعام ومأوى ودواء، يصلن المستشفى بعد أن يكون الجنين قد توقف قلبه".

ويشير زقوت إلى أن القطاع الصحي فقد أكثر من نصف طاقمه بسبب الاستهداف المباشر والنزوح القسري والاعتقال، ما يجعل أية استجابة طبية محدودة للغاية، وأن استمرار القصف يمنع وصول الإمدادات، ويحوّل كل ولادة إلى معركة للبقاء. ويؤكد "نحن أمام كارثة مركبة، حصار وقصف ونزوح ومجاعة، تترجَم جميعها إلى وفيات يومية في صفوف الأمهات والأطفال".

رضيع يواجه الموت في حضانة مستشفى ناصر بسبب نقص الأدوية.
بكاء رضيع داخل حضانة مستشفى ناصر بسبب نقص الحليب العلاجي (الجزيرة)

جريمة حرب

من جهته، يؤكد مدير شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية أمجد الشوا، أن ما يحدث "جريمة حرب مكتملة الأركان"، وأن القانون الدولي يحظر استهداف المدنيين ومنع الغذاء والدواء. ويضيف "حرمان الحوامل من العلاج والمغذيات الأساسية يعد شكلا من أشكال الإبادة البطيئة".

إعلان

ويضيف للجزيرة نت أن استهداف البنية التحتية الصحية وحرمان النساء الحوامل من الرعاية يمثل انتهاكا صارخا لاتفاقيات جنيف، وأن التأخير المتعمد في إدخال الوقود والمساعدات الطبية يرقى إلى جريمة ضد الإنسانية.

وفي الثاني من مارس/آذار الماضي، أغلقت سلطات الاحتلال المعابر أمام المساعدات الغذائية والطبية. ومع بعض الضغوط الدولية اضطرت لفتحها جزئيا في أغسطس/آب الماضي، ولكن ما تُدخله منذ ذلك الحين لا يتجاوز 15% من الاحتياجات الفعلية للسكان، وفقا لمكتب الإعلام الحكومي في غزة.

وبحسب مدير وحدة المعلومات الصحية في وزارة الصحة زاهر الوحيدي، سجل القطاع أثناء الأسبوع الأخير أكثر من 180 حالة وفاة لأجنة في الأرحام و45 وفاة لأطفال خدج في مختلف مشافي غزة. وأوضح أن هذه الأرقام مرشحة للارتفاع مع استمرار انقطاع الكهرباء ونقص الوقود والغذاء والدواء.

وأضاف للجزيرة نت، أن أقسام الولادة تعمل اليوم بأقل من نصف طاقتها الفعلية، إذ تتكدس عشرات الحوامل في غرف انتظار بلا أجهزة مراقبة. وأكد أن معدلات الإجهاض ارتفعت بنسبة 60% منذ بدء الحصار الأخير، بينما انخفضت نسبة الولادات الآمنة إلى أقل من 30%.

ويحذر الوحيدي من أن غياب المواد المخدرة وأكياس الدم والفيتامينات الأساسية يجعل كل عملية ولادة محفوفة بالموت للأم والطفل على حد سواء. وأكد "إذا استمرت الظروف الحالية، قد نشهد انهيارا كاملا لخدمات الولادة خلال أيام قليلة".

وسجلت وزارة الصحة -وفقا له- خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري أكثر من 4200 حالة إجهاض في مختلف مشافي القطاع، معظمها بين نساء نازحات يعانين سوء التغذية والإرهاق الجسدي والنفسي.

بدوره، وثّق تقرير حديث لصندوق الأمم المتحدة للسكان انخفاض عدد الولادات إلى نحو 17 ألف ولادة فقط أثناء النصف الأول من العام الحالي، وهو رقم أدنى بكثير من المعدلات السنوية المعتادة في غزة.

كما رصد "تراجعا واضحا في نسبة الأطفال المولودين بصحة جيدة، وانخفاضا في عدد الرضّع القادرين على الوصول إلى الحاضنات ووحدات العناية المركزة نتيجة نقص المعدات والكوادر".

ويحذر الوحيدي من أن هذه المؤشرات "ليست مجرد أرقام جامدة، بل هي إنذار بانهيار كامل في المنظومة الصحية"، لافتا إلى أن الفجوة بين الحاجات الطبية الفعلية والإمكانات المتاحة تتسع يوما بعد آخر مع استمرار الحصار والقصف.

0 تعليق