الوظيفة العمومية في المغرب قبلة الكفاءات أم عبء على الميزانية؟ - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الرباط – كشفت دراسة حديثة شملت أكثر من ألف خريج من المدارس الكبرى في المغرب عن أن الوظيفة العمومية لا تزال الوجهة الأولى للشباب، رغم جاذبية الشركات متعددة الجنسيات.

وأظهرت نتائج الدراسة التي أجرتها مبادرة "المسارات المهنية" أن الوزارات والمؤسسات العمومية تقدم استقرارا وظيفيا ورواتب ومزايا اجتماعية باتت أكثر تنافسية مقارنة بالقطاع الخاص، خصوصا بعد الزيادات الأخيرة في الأجور، مما قلص الفجوة بين القطاعين.

وتصدرت المؤسسات ذات المشاريع الإستراتيجية والجاذبية المالية قائمة الوجهات المفضلة، سواء تعلق الأمر بالوزارات، إذ احتلت وزارة الاقتصاد والمالية المرتبة الأولى (43%)، تلتها وزارة الداخلية (32%)، ثم وزارة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة (14%)، أمْ بالمؤسسات العمومية مثل المجمع الشريف للفوسفات، والمكتب الوطني للسكك الحديدية، والمكتب الوطني للمطارات ووكالات توزيع الماء والكهرباء.

وازدادت جاذبية الوكالات المرتبطة بالمشاريع التقنية مثل الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات والمكتب الوطني المغربي للسياحة، بينما يظل نجاح هذه المؤسسات في استقطاب الكفاءات مرهونا بتوفير مسارات مهنية محفزة وفرص ترقية.

مؤسسة العمران في مراكش_ وزارة السكنى من المؤسسات العمومية المستقطبة للكفاءات
وزارة السكنى من المؤسسات العمومية في المغرب التي تستقطب الكفاءات (الجزيرة)

مخصصات الأجور

يظل القطاع العام في المغرب قوة جاذبة للكفاءات بسبب ما يوفره من أمن وظيفي واستقرار اقتصادي، وهو ما ينعكس على مخصصات الأجور وإنفاق الدولة، ويؤثر على توازن الميزانية العامة، إذ تظل نسبة كتلة الأجور من الناتج الداخلي الخام مرتفعة نسبيا مقارنة مع دول أخرى مجاورة.

ويقول الباحث المغربي المشرف على الدراسة حمزة إدريسي للجزيرة نت، إن الاستقرار الوظيفي يمثل شكلا من أشكال الأمن النفسي للشباب، إذ يقلل من القلق المرتبط بالمستقبل ويمكّنهم من الانخراط في بيئة عمل متوقعة ومطمئنة، حتى لو كان الراتب أو فرص التطور المهني مهمة، فإنها تظل في المرتبة الثانية.

إعلان

لكن الباحث في المالية العمومية رشيد عميرو يقول إن ارتفاع مخصصات الأجور يزيد الضغط على ميزانية الدولة ويحد من المرونة المالية اللازمة للاستثمار في مشاريع إستراتيجية تتعلق بتحسين الخدمات العمومية.

ويضيف عميرو في تعليق للجزيرة نت أن عدد موظفي الدولة المدنيين بلغ حوالي 570 ألفا سنة 2024 ما يمثل 1.53% من مجموع الساكنة (مقابل 1.7% سنة 2014)، مسجلا تراجعا بحوالي 1.24% خلال العقد الأخير.

ومع ذلك ارتفعت نفقات الموظفين خلال الفترة ذاتها لتصل إلى أكثر من 161 مليار درهم (حوالي 16 مليار دولار) سنة 2024، أي ما يعادل 10.5% من الناتج الداخلي الخام، و32.44% من الميزانية العامة و57.8% من ميزانية التسيير، وهو ما يشكل عائقا في توجيه بعض الهوامش نحو ميزانية الاستثمار وتقليص الدين العمومي.

نزوح

يشكل نزوح الكفاءات نحو الوظيفة العمومية تحديا إستراتيجيا، إذ يضعف تنافسية الشركات الخاصة ويحرمها من موارد بشرية مؤهلة أساسية للتوسع والابتكار.

ويقول أستاذ علوم الاقتصاد والتدبير بجامعة شعيب، الدكالي المهدي الزعيم إن هذا التوجه يعود إلى ما توفره الوظيفة العمومية من استقرار وأمن اجتماعي، في مقابل هشاشة القطاع الخاص.

الباحث المهدي الزعيم_ أذن باستعمالها
المهدي الزعيم: ينبغي على القطاع الخاص إعادة النظر في ممارساته، عبر معاملة موارده البشرية ببعد إنساني واجتماعي (الجزيرة)

ويضيف للجزيرة نت أن هذا الوضع يرفع كلفة الاستقطاب والتدريب، ويزيد من فجوة التنافسية، موضحا أنه لتجاوز هذا الخلل، ينبغي على القطاع الخاص إعادة النظر في ممارساته، عبر معاملة موارده البشرية ببعد إنساني واجتماعي قبل اعتبارها أدوات إنتاج، بما يعزز جاذبيته ويكرس الابتكار بصفته رافعة للتنمية.

بدوره يبرز إدريسي أن المقاولات الخاصة قادرة على جعل مساراتها المهنية أكثر جاذبية إذا وفرت فرصا واضحة للتطور، وبرامج للتدريب المستمر والإشراف والاعتراف بالكفاءات، ما يقلل من معدل دوران الموظفين (الاستقالات والإقالات) ويجعلها منافسا حقيقيا حتى للشركات متعددة الجنسيات، بل يزيد قدرتها على استقطاب كفاءات المغاربة في العالم.

اختلال

يشكل اختلال التوازن بين القطاعين تهديدا لريادة الأعمال والمبادرات الفردية، إذ يقلل من الحوافز للمغامرة والاستثمار الذاتي ويضعف دينامية الاقتصاد المحلي، وفق الأكاديمي المغربي الزعيم.

ويبرز الزعيم أن هذا الاختلال في سوق العمل يشكل خطرا حقيقيا على بروز المبادرات الفردية وريادة الأعمال، إذ يؤدي استقطاب الكفاءات نحو الوظيفة العمومية إلى إضعاف الحوافز المرتبطة بالمغامرة والمبادرة الحرة.

ويؤكد أن هذا الوضع يقلل من الإقبال على الاستثمار ويعزز ثقافة البحث عن الاستقرار الوظيفي بدلا من الابتكار والمخاطرة المحسوبة، ونتيجة لذلك، تتراجع ديناميكية خلق القيمة المضافة، ويتأثر النسيج الاقتصادي المحلي بضعف المشاريع الريادية.

ويقترح الزعيم دعم الدولة للشباب ومرافقتهم عبر برامج طويلة الأمد، مستمرة وغير موسمية، لتعزيز قدرتهم على الابتكار وإرساء بيئة مواتية لريادة الأعمال المستدامة.

وتقترح دراسة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي إتاحة الإمكانية لحركية الموظفين والأجراء بين القطاعين العمومي والخاص، بما يسمح بنقل الكفاءات والخبرات والمهارات الوظيفية والمهنية من قطاع إلى آخر ومن مؤسسة إلى أخرى، مع الحرص على الحفاظ على المكتسبات الاجتماعية.

رشيد عميرو_ أذن باستعمالها
يقترح الباحث عميرو إصلاح نظام أجور يتماشى مع الإنتاجية والعائد في إطار تنافسي جذاب وشفاف (الجزيرة)

توازن

وبالرغم من هذه الجاذبية نحو الوظيفة العمومية، يواجه المغرب تفاقم ظاهرة هجرة الموارد البشرية المؤهلة نحو الخارج، إذ يحتل المرتبة الثانية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجال هجرة الكفاءات، وفق مؤشر خروج الكفاءات وهجرة الأدمغة الدولي لسنة 2022.

إعلان

ويقترح الباحث عميرو إصلاح نظام أجور يتماشى مع الإنتاجية والعائد في إطار تنافسي جذاب وشفاف، مع خلق ثقافة الإنجاز والتقييم، وتشجيع الكفاءات على تحمل المسؤولية في المناصب المناسبة بعيدا عن البيروقراطية القاتلة للابتكار والإبداع.

ويرى عميرو أن هذه الإصلاحات تهدف الى دعم الشباب والمواهب الوطنية، وتقليل الهجرة للخارج، لتعزيز قدرة المغرب على المنافسة الدولية.

ويكمن التحدي أمام المغرب اليوم في صياغة توازن دقيق بين تعزيز جودة الخدمات العمومية وضمان استدامة المالية العامة، وبين تشجيع القطاع الخاص على الابتكار والاستثمار في الكفاءات، كما يبقى الرهان على بناء سوق عمل مرن، يشجع على المبادرة الفردية ويعزز تنافسية الاقتصاد الوطني في مواجهة التحولات العالمية.

0 تعليق