في قلب الريف الكيني، كانت الموسيقى -منذ قرون لغة الحياة اليومية- تعبر عن الفرح والحزن، وتوحد المجتمعات في المناسبات الاجتماعية والدينية.
ومن حفلات الزفاف إلى طقوس الحصاد، شكّلت الأغاني والرقصات الشعبية تراثًا حيًا يعكس القيم والمعتقدات والهويات المتعددة في بلد يضم أكثر من 42 قبيلة.
وفي الماضي، تميزت الموسيقى الشعبية الكينية بتعدد اللغات والإيقاعات التقليدية، خاصة في المناطق الساحلية، حيث ازدهرت أنماط موسيقية متنوعة نتيجة التفاعل الثقافي والتجاري بين المجتمعات المحلية والزوار من مختلف أنحاء أفريقيا والعالم.
وأسهمت هذه التفاعلات في ظهور أشكال موسيقية مميزة، رافقتها آلات ورقصات تعبر عن هوية كل منطقة وروحها الفريدة.
دور الاستعمار
ومع دخول الحقبة الاستعمارية، شهد المشهد الموسيقي الكيني تحولات عميقة، فقد ساهم إنشاء القاعات الاجتماعية والنوادي ومحطات الإذاعة وانتشار أجهزة الغرامافون في إعادة تشكيل الذائقة الموسيقية، في الوقت الذي فرضت بعض القوانين قيودًا على أداء أنماط معينة من الموسيقى والرقص.
ومع ذلك، استمر تطور الآلات والألحان، لتندمج معها التأثيرات العالمية الحديثة، حيث برزت أنماط مثل الهيب هوب والريغي والسول والروك، مع إيقاعات عصرية صاخبة باتت تهيمن على النوادي الليلية في العاصمة نيروبي.
أنماط الموسيقى التقليدية الكينية
لم تكن الموسيقى في كينيا مجرد وسيلة للتسلية، بل شكّلت عبر قرون طويلة جوهر الحياة الاجتماعية والروحية للمجتمعات المحلية.
فقد عكست الأغاني والإيقاعات تاريخ القبائل وقيمها ومعتقداتها، وأسهمت في الحفاظ على هوياتها الثقافية وتعزيز روابطها الاجتماعية.
ففي حفلات الزفاف، والجنازات، ومواسم الحصاد وجميع المناسبات الاحتفالية، كانت الألحان والرقصات الجماعية تعبّر عن الفرح والحزن والانتصار، وتؤكد على وحدة المجتمع وتماسكه.
وحين نتحدث عن الموسيقى والرقص "الأصيل" في كينيا، فإننا نقصد تلك الممارسات الثقافية التي تناقلتها الأجيال قبل الحقبة الاستعمارية.
إعلان
لكن حتى في فترات الاضطراب السياسي، بقيت الموسيقى أداة مقاومة، إذ استخدمت حركة "الماو ماو" ألحانها لنقل رسائل الأمل والحرية والرفض للاستعمار البريطاني، وكان ألبوم "نييمبو سيا ماو ماو" شاهدًا فنيًا على ذلك النضال وما يحمله من رمزية تاريخية وثقافية.
ومن بين الأنماط الموسيقية التقليدية التي حظيت بشهرة واسعة، يبرز نمط "موغيثي" في كينيا الوسطى، حيث شكّل الحب محوره الرئيسي بأغانيه المتنوعة بين الفرح والحزن.
ويعني اسم "موغيثي" القطار، ومن هنا جاء أسلوب الرقص الذي يتضمن التمسك بأرداف بعضهم بعضا والتلوي أثناء سيرهم في دوائر، ويُعد الفنان الراحل جون دي ماثيو أحد أبرز رموز هذا الفن الشعبي.
وعلى الساحل، ظهر نمط "بني نغوما" الذي مزج بين موسيقى الفرق العسكرية الاستعمارية والإيقاعات المحلية، عبر تكييف آلات مثل الطبول والأبواق، ليحمل هذا النمط في طياته ردًا فنيًا وشعبيًا على الحكم البريطاني، ويحافظ في الوقت نفسه على خصوصيته الثقافية.
" frameborder="0">
انتفاضة الماو ماو شرارة الثورة ضد الاستعمار
في الفترة ما بين عامي 1952 و1960، شهدت كينيا إحدى أعنف حركات المقاومة المسلحة في تاريخها الحديث، وعرفت بانتفاضة "الماو ماو" أو تمرد الماو ماو، بقيادة شعوب الكيكويو والميرو والإمبو، وانضم إليها "جيش الحرية والأرض الكيني" والذي ضمّ مقاتلين من قبائل الكامبا والماساي أيضا.
وكانت هذه الانتفاضة القومية المسلحة تهدف إلى إنهاء الحكم الاستعماري البريطاني واستعادة الأراضي المصادرة من المستوطنين الأوروبيين البيض.
وتحت مسمى "حالة الطوارئ الكينية"، خاض مقاتلو جيش كينيا للأرض والحرية حرب عصابات شرسة ضد القوات البريطانية وحلفائها المحليين، في صراع دامٍ انتهى عام 1956 باعتقال قائد المتمردين المشير ديدان كيماثي، بعد قمع دموي خلّف أكثر من 11 ألف قتيل، بينهم نحو 1090 شخصًا أُعدموا، في أكبر عملية إعدام تنفذها بريطانيا في تاريخها في فترة الحرب.
ولكن القمع العسكري لم يطفئ جذوة الثورة، فقد كشفت الفظائع المرتكبة في معسكرات الاعتقال البريطانية عن الوجه القمعي للاستعمار، ما زاد تأجيج النضال الوطني الذي تُوّج باستقلال كينيا عام 1963، ليصبح الزعيم جومو كينياتا -أحد أبرز رموز الحركة- أول رئيس للبلاد.

لعبت الموسيقى دورًا مهمًا في تلك المرحلة، إذ استخدم مقاتلو الماو ماو الأغاني لنقل رسائل المقاومة والأمل وسط القمع الاستعماري.
ومن أبرز تلك الأغاني، أغنية "سنحطم قوتهم السياسية" التي قدّمها الفنان الكيني جوزيف كامارو، المعروف بلقب "ملك موسيقى البينغا الكيكويو"، لتصبح إحدى الأيقونات الفنية التي جسّدت روح النضال في تلك الحقبة.
وتتميز الأغنية بكلماتها القوية التي تدعو إلى مواجهة السلطة السياسية والظلم، مما جعلها تُعتبر نشيدًا شعبيًا في فترات الاحتجاجات السياسية في كينيا.
وتظهر الأغنية تأثير الفن في التعبير عن القضايا السياسية والاجتماعية، وتبزر دور الفنانين في التأثير في الوعي العام وتحفيز التغيير.
أيقظوا الشباب
استولوا على القيادة من الكبار،
فإن ترددتم، سيستولي العدو الأجنبي
على المزيد من أراضينا وثرواتنا
موسيقى الاحتجاج: من ألحان المقاومة لأصوات التغيير
في حقبة ما بعد الاستعمار، شهدت كينيا تحوّلًا لافتًا في ملامح المشهد الموسيقي. فبعد الاستقلال، تبدّلت ألحان المقاومة التي كانت ترافق مسيرة التحرّر من المستعمر إلى أغانٍ احتفالية تمجّد الحرية، لكن سرعان ما استعادت الموسيقى دورها كمنبر للاحتجاج والتعبير عن هموم الناس.
إعلان
وحتى بعد الاستقلال، لم تصمت الموسيقى أمام المظالم المستمرة، مثل استيلاء النخبة على الأراضي ومعاناة سكان المدن.
فقد وثّقت الأغاني هذا الواقع، واستعادت قصص الكفاح والصمود، لتكون ذاكرة حيّة تنقل التاريخ من جيل إلى جيل، وتحافظ على جذوة المقاومة متقدة في الوعي الجمعي.
وبرز في تلك المرحلة فنانون أمثال جوزيف كامارو، الذين لم يقتصروا على تناول القضايا الاجتماعية والعلاقات الإنسانية فحسب، بل كشفوا من خلال موسيقاهم خيبات الأمل بعد الحرية، مسلطين الضوء على فساد النخب واستيلائها على الأراضي، لتصبح موسيقى الكيكويو الشعبية منصة للنقد السياسي والاجتماعي، ومرآة تعكس نبض الشارع وتطلعاته.
ومع تطور الأشكال الموسيقية، برزت أنماط حديثة مثل الهيب هوب، التي حملت شعارات التمكين والوحدة ومقاومة الظلم الاقتصادي والتفاوتات السياسية، لتواصل المسيرة الاحتجاجية بصوت أكثر جرأة وحداثة.
ولقد تجاوزت أغاني المقاومة كونها ألحانًا تُطرب لها الآذان، لتصبح أرشيفًا ثقافيًا يوثّق النضال الأفريقي عامةً والكيني خاصةً، حيث شكّلت رواية القصص في متن الأغاني شكلًا فنيًا من أشكال المقاومة، ووسيلة للتعبير عن الغضب والأمل في آن واحد.
جوزيف كامارو "ملك موسيقى الكيكويو" وصوت المقاومة
يُعدّ جوزيف كامارو أحد أبرز الأسماء في المشهد الموسيقي الكيني، إذ جمع بين موهبته الفنية ونشاطه السياسي، ليترك بصمة لا تُمحى في تاريخ الموسيقى الأفريقية.
وُلد كامارو عام 1939 في منطقة كانجيما بمقاطعة مورانغا، ورحل عن عالمنا في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2018 بنيروبي، بعد مسيرة حافلة امتدت لعقود.
وبدأ رحلته الفنية منتصف ستينيات القرن الماضي، عقب انتقاله إلى العاصمة نيروبي عام 1957 وهو في سن المراهقة.
وعمل كامارو بدايةً في وظائف بسيطة مثل تنظيف المنازل، لكنه نجح لاحقا في شراء أول غيتار له، ليبدأ مسيرته في النوادي المحلية، حيث صقل موهبته ولفت الأنظار إليه.
" frameborder="0">
وفي السبعينيات والثمانينيات، حقق كامارو شهرة واسعة، ليصبح "ملك موسيقى الكيكويو" بلا منازع، بفضل أغانيه التي مزجت بين موسيقى البينغا والجاز والساوكس الكيني التقليدي، مضيفًا إليها نكهة سياسية واجتماعية جعلت صوته يتجاوز حدود الفن ليصبح صدى لقضايا الشعب.
ولم تكن أغانيه مجرد أعمال ترفيهية، بل تحوّلت إلى منابر للتعبير عن قضايا مصيرية، من الفساد والظلم إلى المطالبة بالمساواة.
ففي عام 1975، كتب أغنية تنتقد مقتل الناشط السياسي جوسيا موينجي كاريكي، مما أدى إلى توتر علاقته بالرئيس جومو كينياتا.
ورغم تحسّن علاقته بالرئيس دانيال آراب موي لاحقًا، فإن كامارو لم يتردد في انتقاده بسبب رفضه الديمقراطية متعددة الأحزاب أواخر الثمانينيات.
وفي عام 1993، أعلن كامارو تحوّله إلى المسيحية، موجّهًا نشاطه نحو الموسيقى الدينية، وإن واصل أحيانًا تقديم عروض علمانية أعادت جمهوره إلى ذكريات بداياته.
وطوال مسيرته، سجّل كامارو ما يقرب من ألفي أغنية، وبيع من ألبوماته نحو نصف مليون نسخة، ليصبح رمزًا موسيقيًا وثقافيًا بارزًا في كينيا، وأحد أهم الأصوات التي مزجت بين الفن والنضال عبر الأجيال.
وقلت لك: "هل ما زلت على قيد الحياة"؟
من أين أنت؟
آه.. عام 1952 هو عام ملوك كينيا،
سأمنحك قلبي،
الشعب هو من يقوم بالعمل، وهذا عمل جيد
سأمنحك قلبي

العصر الحديث.. الهيب هوب وإرث الاحتجاج
مع تطور المشهد الفني، باتت أنماط مثل الهيب هوب والريغي منصات للشباب الكيني للتعبير عن طموحاتهم ورفضهم للظلم الاقتصادي والسياسي.
ولم تعد الأغاني مجرد ألحان، بل أصبحت توثيقًا حيًا للتاريخ، تحمل بين طياتها قصص الأجيال المتعاقبة، وتؤكد أن الموسيقى في كينيا لم تكن يومًا للترفيه فقط، بل كانت وما زالت جزءًا من حركة المقاومة والوعي الجمعي.
إعلان
0 تعليق