لم يحظَ خبر إصدار دولة الاحتلال تصاريح جديدة لسكان ثلاث مناطق تقع شمال غربي القدس داخل أراضي الضفة الغربية بتغطية إعلامية تليق بطبيعة هذه الحركة الأخيرة.
وربما كان ذلك عائدا لحقيقة أن المواطنين الفلسطينيين في هذه المناطق الثلاث كانوا يحملون بالفعل تصاريح إسرائيلية تمكنهم من دخول أراضيهم ومنازلهم سابقا، أو بسبب عدم وضوح طبيعة التغيير الذي حدث في هذه التصاريح، وأثره القانوني مستقبلا.
المناطق المقصودة هنا هي؛ حي الخلايلة في بلدة الجيب، وبلدة بيت إكسا، وبلدة النبي صموئيل، وهي تقع على بعد حوالي 9 كيلومترات شمال غربي مدينة القدس، لكنها لا تعتبر جزءا من أراضي المدينة المقدسة، بمعنى أنها لا تقع ضمن حدود بلدية القدس الكبرى الإسرائيلية، وإنما تقع ضمن أراضي الضفة الغربية.
تبلغ مساحة حي الخلايلة ببلدة الجيب حوالي 200 دونم، بينما تبلغ مساحة بلدة بيت إكسا حوالي 9 آلاف دونم، والنبي صموئيل حوالي ألف دونم، وبذلك يكون مجموع الأراضي في هذه المناطق يصل إلى 10 آلاف و200 دونم، أو حوالي 10 كيلومترات مربعة، وأغلب أراضيها تقع ضمن ما يعرف بالأراضي (ج) حسب اتفاقية أوسلو.
أما عدد سكان هذه المناطق حسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فهو يصل إلى حوالي 700 مواطن في حي الخلايلة ببلدة الجيب، وحوالي 2100 في بلدة بيت إكسا، وحوالي 270 في بلدة النبي صموئيل، أي أن مجموع السكان في هذه المناطق الثلاث حوالي 3 آلاف مواطن فلسطيني، وبذلك تكون هذه المناطق الثلاث من الأراضي منخفضة الكثافة السكانية.
لكن هذه البلدات الثلاث تتميز بشيء غير معهود في الضفة الغربية، فبالرغم من أنها جميعا كانت دائما تعتبر جزءا من أراضي الضفة الغربية المحتلة عام 1967، فإن إسرائيل عندما بدأت عام 2003 ببناء جدار الفصل العنصري المحيط بالقدس، والذي تسميه الحكومة الإسرائيلية "غلاف القدس"، جعلت مسار الجدار ينحرف شرقا ليصبح خلف هذه البلدات الثلاث.
إعلان
لذا، أصبحت جميعها محاطة بالجدار العازل من ناحية، والخط الأخضر (أو خط الهدنة) الذي يفصل بين الأراضي التي احتلت 1948 و1967 من الناحية الأخرى، فحُصر سكان هذه المناطق الثلاث بين هذين الحاجزين، ولم يعد بإمكانهم لا التواصل مع محيطهم في الضفة الغربية، ولا التواصل مع مناطق الخط الأخضر، ولا الاتصال بمنطقة مدينة القدس!
وأصبح السكان مضطرين للتحرك عبر بوابات خاصة وضعها الاحتلال، وبموجب تصاريح خاصة يصدرها جيش الاحتلال تتيح لهم التنقل بين بلداتهم ومناطق الضفة الغربية الأخرى.
الجديد الذي حصل قبل عدة أيام أن الإدارة المدنية بجيش الاحتلال قامت بإجراء تعديلات طفيفة في التصاريح التي تمنحها لسكان هذه البلدات، وبالذات في البند الثالث من شروط التصريح المذكورة فيه، والذي ينص الآن على هذه العبارة: (يسمح لحامل هذا التصريح بالدخول إلى إسرائيل، ولكن إلى المكان المعيَن والغرض المعيَن فقط).
علما بأن التصريح يتعلق بالوصول إلى البلدات المذكورة فقط، وليس إلى داخل مناطق الخط الأخضر التي تعتبر أراضي الدولة.
ما الذي يعنيه ذلك؟
هذه العبارة التي تبدو بسيطة في ظاهرها تحمل دلالات سياسية وقانونية كبيرة، حيث إنها تعني أن بيت إكسا والنبي صموئيل وحي الخلايلة بالجيب أصبحت الآن جزءا من إسرائيل، وضمت عمليا إلى أراضي الدولة، وتنظر إليها سلطات الاحتلال كما تنظر إلى حيفا، وعكا، ويافا التي احتلت 1948، وتتعامل مع أرضها وسكانها كما تعاملت مع أحياء مدينة القدس التي ضمتها إسرائيل إبان احتلالها 1967.
حيث ضمت إسرائيل يومها الأرض دون السكان، واعتبرت أن السكان المقدسيين مجرد "أجانب" يقيمون داخل إسرائيل بسبب ظروف سياسية محددة. أي أن هذا يعني أن إسرائيل ضمت هذه المناطق الثلاث إليها دون إعلان رسمي.
الأمر فعلا بهذه الخطورة، وينضوي عليه عدد كبير من التبعات والنتائج على المديين؛ القصير والبعيد، فيما لو مر بهدوء ودون رد فعل محلي ودولي يتناسب مع خطورته.
يمكننا القول هنا إن الحكومة الإسرائيلية ربما كانت تحاول بهذا القرار أن تقوم بتجربة عملية لعملية الضم المستقبلية في الضفة الغربية، والتي ينادي بها تيار الصهيونية الدينية الحاكم في إسرائيل، ويعتبرها الرد العملي الأقوى على موجة الاعترافات الغربية بالدولة الفلسطينية.
فإسرائيل هنا ضمت الأرض في هذه البلدات الثلاث بهدوء دون ضجة، وهي تترقب كيفية تعامل الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية أولا والرأي العام العالمي ثانيا، مع هذه الخطوة.
فإن لم يكن هناك رد فعل عملي حقيقي على هذه الخطوة فإن ذلك سيفتح شهية إسرائيل لتطبيق العملية في أراضي الضفة الغربية على نطاق مشابه أو أوسع.
أولى المناطق التي تستهدفها إسرائيل في هذا النطاق في الضفة الغربية لابد أن تكون مناطق (ج) التي تقع تحت سيطرتها الإدارية والأمنية، حيث إنها تعتبر أراضي منخفضة الكثافة السكانية بالرغم من أنها تشمل أغلب أراضي الضفة الغربية.
فمناطق (ج) تشغل أكثر من 60٪ من مساحة الضفة الغربية، يسكنها ما لا يزيد على 300 ألف مواطن، من أصل 3.4 ملايين مواطن فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية.
إعلان
وانخفاض الكثافة السكانية في هذه الأرض يرجع بطبيعته إلى أن أغلبها أراضٍ زراعية، وجزء منها يقع ضمن ما يعرف بصحراء الضفة الغربية وغور الأردن. ولك أن تتخيل شهية إسرائيل لضم أرض تصل مساحتها لأكثر من 60٪ من الضفة يسكنها أقل من 10٪ من مجموع السكان الفلسطينيين.
إذن، فنحن أمام ما يمكن أن نسميه تجربة إسرائيلية عملية لضم أراضي الضفة الغربية وتبعات ذلك على الدولة داخليا وخارجيا. وإسرائيل بهذه العملية قد فتحت بابا خطيرا لبدء الضم التدريجي لأراضي الضفة الغربية، وهو ما تتوعد به الحكومة الإسرائيلية الآن ردا على موجة الاعترافات بالدولة الفلسطينية.
وقد ألمح نتنياهو إلى هذه العملية أيضا في تصريح له قبيل مغادرته إلى الولايات المتحدة للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، فيما يبدو أنه تحضير لترتيب هذا الرد مع الإدارة الأميركية؛ خوفا من الاصطدام بالرأي العام العالمي الذي يشهد تحولا واضحا لا يمكن أن تخطئه عين في غير صالح إسرائيل.
لذلك، فإن الواجب في هذه المرحلة أن يكون الرد على هذه العملية متناسبا مع حجمها الحقيقي لا تجاهلها أو التخفيف من خطورتها.
فمن المعروف أن الاحتلال الإسرائيلي عندما يقوم بتحرك صغير على الأرض يتوقف فترة ليراقب ردود الفعل، وفي حال غياب هذه الردود فإنه يفسر ذلك على أنه ضوء أخضر للمزيد من الخطوات في اتجاه تنفيذ أجندته الإستراتيجية.
ومسألة ضم الضفة الغربية الآن تعتبر ملفا إستراتيجيا أساسيا تحاول حكومة نتنياهو تنفيذه بشكل لا يتسبب لها بأي خسارة على المدى القريب، كخسارة ملف التطبيع، أو توسيع الاتفاقيات الأبراهامية على سبيل المثال، أو استثارة المزيد من دول العالم ودفعها للاعتراف بالدولة الفلسطينية ردا على أي خطوة إسرائيلية بهذا الحجم، كما حصل مع الدول العشر التي اعترفت بها مؤخرا.
وفي المقابل، إذا شعر المستوى السياسي الإسرائيلي بأن هذه الخطوة قد تسببت له بآثار سلبية كبيرة على المدى القريب فإنه سيجد نفسه مضطرا على الأقل لتأجيل عملية الضم وفتح جبهات أخرى للحفاظ على وحدة هذه الحكومة.
وفي كل الحالات، فإن أي تراجع على الجانب الإسرائيلي في ملفات الصدام مع الفلسطينيين أو الجبهات المفتوحة في الإقليم يعني بالضرورة انتقال المواجهة إلى داخل المجتمع الإسرائيلي المنقسم بعمق على نفسه، وهو ما يحاول نتنياهو تجنبه بأي ثمن.
إسرائيل مفسخة من الداخل، وهي تشعر أن الوقت ليس في صالحها، فإذا وجد الاحتلال نفسه مضطرا للتراجع في ملفاته الإستراتيجية، وعلى رأسها ملف ضم الضفة الغربية، فإن ذلك يعني أن الصراع سيتفاعل أكثر وأكثر في الداخل الإسرائيلي، وهو أمر في مصلحة الطرف الفلسطيني بلا ريب.
والطريق الأفضل لهذا الأمر هو إجبار الاحتلال على التراجع في مختلف الملفات وكسب معركة الوقت في مواجهته.
والرد بقوة على عملية ضم أراضي هذه البلدات الثلاث قرب القدس يقع ضمن هذه المعادلة، فهل يعي الساسة العرب ذلك؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق