في العقد الأخير تغيّر مفهوم السفر جذريا؛ فلم يعد يقتصر على الجلوس على الشواطئ أو الإقامة في الفنادق الفاخرة، بل بات يرتبط بالبحث عن التجربة الأصيلة، كالسير في الغابات، وتذوّق الأطعمة المحلية، أو مشاركة سكان القرى في أنشطتهم اليومية.
هذا التحول أفرز ما يُعرف بسياحة المغامرات (Adventure Travel)، وهي نوع من السياحة المتخصصة يقوم على الاستكشاف مع درجة من المخاطرة، وقد يتطلب مهارات خاصة وجهدا بدنيا.
ووفق تعريف جمعية تجارة سياحة المغامرات (ATTA)، تقوم هذه السياحة على عنصرين على الأقل من ثلاثة، هي: الانغماس الثقافي، والبيئة الطبيعية، والنشاط البدني، ويسعى كثير من السياح إلى تحقيقها مجتمعة.
وتنقسم بدورها إلى مغامرات صعبة عالية المخاطر تحتاج إلى استعداد ومهارة كالقفز المظلي والغوص وتسلق الجبال واستكشاف الكهوف، ومغامرات سهلة منخفضة المخاطر تتطلب قدرا أقل من التحضير والالتزام. ومع اتساع الاهتمام بهذا النوع من التجارب، تحوّل إلى صناعة عالمية تتجاوز قيمتها التريليون دولار.

نمو عالمي
تقرير صادر عن منظمة تجارة السفر المغامر (Adventure Travel Trade Association – ATTA)، بدعم من "إي إف أدفنتشرز" (EF Adventures) و"سي بي آي" (CBI)، كشف أن قيمة السوق العالمية لسفر المغامرات الخارجي بلغت عام 2024 نحو 1.16 تريليون دولار.

وذلك مقارنة بـ683 مليار دولار في عام 2017، كما بلغ معدل النمو السنوي المركب نحو 8%، مما يجعل هذا القطاع من أسرع قطاعات السياحة نموا.
ويُصنَّف سفر المغامرات الآن كجزء من اقتصاد الخبرات (Experience Economy) الذي تتراوح قيمته عالميا بين 1.1 و1.3 تريليون دولار.
من هم المسافرون؟
التقرير يوضح أن 67% من المسافرين الدوليين يعتبرون أنفسهم "منفتحين على المغامرة" (Open to Adventure). ومن بينهم فئة أساسية تُسمى "المغامرون أولا" (Core Adventure-First Travelers) تمثل حوالي 40% من جميع المسافرين، وهم الذين يضعون الطبيعة والثقافة والأنشطة الأصيلة في قلب رحلاتهم.

المغامرة لم تعد تعني فقط القفز الحر أو تسلق الجبال الشاهقة، بل أصبحت تشمل التجارب اليومية الصغيرة كجولة بالدراجات، أو زيارة سوق محلية، أو تناول وجبة منزلية مع أسرة ريفية.
إنفاق مرتفع
من الناحية الاقتصادية، يكشف التقرير أن المسافر المنفتح على المغامرة ينفق في المتوسط 265 دولارا في الليلة، وإذ تصل مدة الرحلة عادة إلى 11 يوما فإن الإنفاق الإجمالي للشخص الواحد يقترب من 3 آلاف دولار.

اللافت أن 76% من هذا الإنفاق يذهب مباشرة إلى المجتمعات المحلية، سواء عبر الإقامة في نُزُل صغيرة، أو شراء منتجات تقليدية، أو تناول الطعام في مطاعم الأسر، هذا يجعل سفر المغامرات وسيلة فعالة لدعم الاقتصاد المحلي، وليس مجرد نشاط ترفيهي.
أعداد أقل
ورغم الصورة المشرقة، تكشف دراسة أخرى عن سفر المغامرات 2025 (Adventure Travel Study 2025) منشورة على موقع Travel Market Report أن عدد المسافرين تراجع في عام 2024 إلى متوسط 4141 مسافرا لكل شركة تنظيم رحلات، بعدما كان نحو 6553 مسافرا في 2023، أي بانخفاض يقارب 37%.
إعلان
والمفارقة أن هذا الرقم قريب جدا من مستويات ما قبل الجائحة عام 2019 حين بلغ المتوسط 3974 مسافرا، بل وأعلى بقليل مما سُجِّل في 2022 (4243 مسافرا).
وللوهلة الأولى يبدو هذا التراجع حادا، لكنه لا يعكس ضعفا في السوق بقدر ما يكشف عن تحول في طبيعة الطلب.

نمو المغامرة
فالمغامرة، بعكس غيرها من أنماط السفر، لم تفقد بريقها، بل واصلت النمو لأنها باتت تمثل التجربة الجوهرية التي يبحث عنها السائح.

المسافرون اليوم قد يكونون أقل عددا، لكنهم أكثر استعدادا للإنفاق على جودة التجربة، من جولات طهو (Culinary Adventures)، إلى رحلات أكثر استدامة، وتخطيط طويل الأمد.
ولهذا تظل صناعة سفر المغامرات قادرة على التوسع حتى في ظل انخفاض أعداد الرحلات، لأنها ببساطة تقدم ما يبحث عنه العالم بعد الجائحة، مغامرة أصيلة تترك أثرا عميقا.
أنماط مختلفة
التقرير يقسم المسافرين المغامرين إلى 4 فئات:
المغامرون الكثيفون (Adventure Intensives): يبحثون عن نشاط بدني قوي وتجارب زاخرة بالتحديات. عشاق الطبيعة (Nature Enthusiasts): يسافرون بدافع حب البيئة والتواصل مع المناظر الطبيعية. المستكشفون الثقافيون (Cultural Explorers): يهتمون بالتراث والتقاليد والفنون المحلية. متذوقو التجارب (Experience Samplers): يرغبون في مزيج متوازن يجمع بين الثقافة، والنشاط، والراحة، والطعام.هذا التصنيف يُظهر أن المغامرة اليوم لم تعد محصورة في نمط واحد، بل باتت تجربة مرنة يمكن لكل شخص أن يجد نفسه فيها.

الاستدامة أولا
واحدة من أبرز النتائج أن المسافرين أصبحوا أكثر وعيا بالاستدامة. فالوجهات التي تدعم البيئة والمجتمعات المحلية تكسب ثقة أكبر. والممارسات المتوقعة تشمل تقليل النفايات، ودعم الحرفيين والمزارعين المحليين، والسفر في مواسم أقل ازدحاما لتخفيف الضغط على الموارد الطبيعية.
قوة الرقمنة
من أسباب توسع هذه السوق الثورة الرقمية، فمن خلال تطبيق على الهاتف يمكن للمسافر أن يحجز تجربة تسلق في جبال الأنديز (Andes)، أو درس طبخ تقليدي في المغرب، أو جولة بالدراجات في فيتنام.

فالاكتشاف الرقمي (Digital Discovery) جعل هذه التجارب في متناول ملايين الأشخاص، ومنح مقدمي الخدمات المحليين فرصة للوصول إلى أسواق عالمية من دون وسطاء.
آفاق جديدة
تقرير المنظمة يؤكد أن الفرصة أمام الوجهات ومشغلي الرحلات كبيرة إذا ركزوا على تقديم تجارب أصيلة، وحضور رقمي فعّال، وممارسات مستدامة.

فالمغامرة اليوم ليست مجرد نشاط بدني بل عقلية سفر جديدة، وبهذا المعنى سفر المغامرات لم يعد نشاطا جانبيا، بل صناعة ضخمة تُعيد تعريف علاقة الإنسان بالسفر.
إعلان
لم يعد الهدف هو التقاط صور للذكرى، بل عيش التجربة بكامل تفاصيلها؛ الطبيعة، والثقافة، والناس، ومع استمرار نموه بهذا المعدل، يبدو أن العقد المقبل سيكون عقد "السائح المغامر" الذي يكتب قصته في كل مكان يزوره.
0 تعليق