بروكسل- انطلقتُ بعد شروق الشمس بقليل إلى محطة قطار “ميدي” في بروكسل، دفعتُ عشرة يورو ببطاقتي البنكية، ثم سحبتُ تذكرتي من الجهاز المخصص للتذاكر.
وعندما قفزت إلى داخل العربة، جلست على مقعدي وتسللت إلى ذاكرتي ذكرى أول رحلة قطار في حياتي، كنتُ يومها أمني نفسي بأن تمنحني الرحلة لحظات ساحرة، حلم غذّته أفلام الغرب الأميركي وحكايات القرن الماضي.
العربة بدت حديثة وأنيقة، نظيفة ومضاءة جيدا، لكنها لم تكن تماما كما تخيلتها في ذلك الحلم القديم. شيء ما كان ينقصها (ذلك الإيقاع المترنح للعجلات على السكك الذي يلامس الروح، ورائحة الدخان الدافئ، وصفارات القطار المميزة) لم أجده.
لا تشبه القطارات البلجيكية اليوم "قطار الشرق السريع" في أناقته المخملية ودخانه الرومانسي، لكنها لا تزال تحتفظ ببعض من سحرها القديم.
جينت وتعليم العالم
ما إن وصلتُ إلى محطة "سان بيترس" بوابة وجهتنا الأولى مدينة "جينت" أو خينت بالهولندية، حتى شعرت أنني دخلت خلية نحل تضج بالحركة. طلاب من كل الجنسيات والألوان يركضون بين الأرصفة، عمال يتبادلون التحايا، وسياح يسألون عن الاتجاهات.

جينت أو جنت هي عاصمة مقاطعة شرق فلاندرز كانت في القرون الوسطى من أكبر مدن أوروبا، في القرون الوسطى، خاصة القرن الـ 14، كانت واحدة من أكبر مدن أوروبا (تفوقت على لندن في بعض الفترات)، وقاعدة لصناعة النسيج وتجارة القماش.
عُرفت بروحها الثورية، وقادت انتفاضات ضد ملوك، وبرزت كمركز ثقافي وفني، حيث وُلدت فيها أعمال خالدة مثل لوحة عبادة الحمل الصوفي لفان آيك.
أما محطتها التي شُيدت في مطلع القرن الـ20، فلا تزال تحتفظ بهندستها القوطية، رغم أعمال الترميم الجارية، بقيت روح المكان واضحة.
الدراجة الهوائية
رغم وجود الترام أمامي، اخترتُ الدراجة الهوائية (10 يورو لليوم)، في جينت الدراجة ليست وسيلة نقل فحسب، بل أسلوب انتماء، سرعان ما وجدت نفسي وسط سيل من الدراجات يقوده طلاب وسكان وسياح، مدينة تنبض بحياة مستمرة، لكنها لا تفقد هدوءها الداخلي.

بدأت رحلتي بزيارة قلعة "غرافنستين"، حصن حجري يعود للقرن الـ12 الدخول مقابل (10 يورو)، أحسست بأن الهواء في الداخل كان باردا، والجدران مشبعة برائحة الحديد والرطوبة.
إعلان
بعد ساعة ركبت دراجتي مجددا وتوجهت نحو جسر القديس ميخائيل هناك، وقفت أمام مشهد يسرق الأنفاس، الأبراج الـ3: برج الجرس، كاتدرائية بافو، وكنيسة نيكولاس. المنظر مهيب، لم أتمالك نفسي كنت مسلوب المشاعر لدقائق وأنا أنقل بصري بين الأبراج.
الاحتفال بالمهرجان السنوي
وفي ساحة يمرّ بها الترام ذهابا وإيابا، والمطاعم والمقاهي على ضفاف نهر "لييه" تعجّ بالحركة، والمدينة كانت تحتفل بمهرجانها السنوي، كل شارع بدأ كخشبة مسرح، والعمال يزيلون آثار ليلة البارحة بينما يُنصب المسرح التالي.
انعطفتُ إلى شارع "ويريخارِنسترات"، شارع الغرافيتي الشهير هنا، كانت الجدران تصرخ بالألوان، بشعارات برسومات حديثة تعبّر عن قلق جيل شاب، يصرخ دون صوت في جينت، الفن لا يسكن المتاحف فقط، بل الجدران أيضا.
ثم وصلت إلى ساحة "كورينماركت"، قلب المدينة التجاري قديم المباني المحيطة، بواجهاتها الفلمنكية المذهبة، بدأت كأنها نُحتت من الضوء، فندق قديم، متجر كتب عمره 3 أجيال، وسيدة تبيع الزهور بابتسامة دافئة.
جلست في إحدى الزوايا، طلبت قهوة، وتركت لجينت أن تتحدث بلغتها الخاصة لغة حجر نجا من الحربين، ونوافذ تتذوق الشمس، وناس يعيشون الحياة ببطء محسوب.
الطعام في جينت يعكس تنوع سكانها كربوناد فلمنكي (18يورو)، مطاعم عربية وآسيوية بأسعار طلابية، وسندويشات فلافل أو كريب لا تتجاوز 7 يورو.
أما السكن فتجده متنوعا، فنادق 3 نجوم (90–110 يورو)، نُزل طلابي (30–45 يورو)، وشقق "إير بي إن بي" (Airbnb) ورغم هذا التنوع، فإن جينت تُعد من الأغلى في بلجيكا بسبب كثافة الطلاب.
في نهاية اليوم عدت إلى غرفتي الصغيرة، في نُزل بسيط حجزته مسبقا ثم أغلقت النافذة، لكنّي تركت باب القلب مفتوحا… لأن جينت لا تُغادر بسهولة.
بروج بندقية أو فينيسيا الشمال
غادرت جينت وفي ذاكرتي ما يكفي من الصور، لكن القطار الذي حملني إلى بروج، في رحلة استغرقت قرابة الساعة (بتذكرة تقارب 10 يورو)، بدأ وكأنه يعبر بي من الحاضر إلى مشهد مرسوم على قماش من القرون الوسطى.
في الـ6 و58 دقيقة صباحا وصل قطاري إلى محطة بروج، أقدم محطات القطارات في بلجيكا (شيدت في عام 1838)، والتي تحتفظ برصانتها الكلاسيكية وسقفها العالي الذي يملؤه الضوء الطبيعي، بروج المدينة التي تشعر أنها تقول لك منذ اللحظة الأولى، تمهل فأنت في حضرة التاريخ.

من المحطة، سرت باتجاه المركز القديم. لم أحتج إلى خريطة، في بروج كل مبنى أو سور هو تحفة تاريخية، فالأزقة المرصوفة بالحجارة والجسور الصغيرة فوق القنوات المائية تقودك وحدها. النوافذ الخشبية المزهرة، والواجهات الفلمنكية الملوّنة، تنقلك إلى زمن آخر.
في ساحة السوق الكبرى، ارتفع أمامي برج الجرس "بلفري"، أحد أشهر معالم بروج، بُني في القرن الـ13.
دفعت 15 يورو، وصعدت السلّم الحلزوني الضيق، حيث تقودك 366 درجة إلى الأعلى كان الصعود متعبا، لكن المشهد من القمة جعل كل خطوة تستحق العناء، فالمدينة تتفتح أسفل قدميك بلون القرميد الأحمر، تحيطها القنوات كخيوط ماء تحفظ شكلها القديم.
إعلان
جولة عبر القارب
ثم حان موعد جولة القارب (12 يورو) عبر القنوات التي جعلت بروج تُلقب بـ"فينيسيا الشمال". صعدت إلى القارب مع مجموعة من السياح، وانطلقنا ببطء وسط ماء يعكس واجهات البيوت الفلمنكية وشرفاتها.

المرشد كان يحكي عن التجار الإيطاليين الذين جاؤوا في العصور الوسطى، وكيف أحضروا أول أعمال لمايكل أنجلو خارج إيطاليا، وعن كيف كانت بروج مركزا عالميا للتجارة، حيث ربطت شمال أوروبا بجنوبها.
لاحقا، زرت كنيسة السيدة العذراء، التي تحتفظ بتمثال "مادونا والطفل" لمايكل أنجلو.
دخول الكنيسة مجاني، لكن الاقتراب من التمثال يكلف 6 يورو. الضوء المتسلل من النوافذ الملوّنة يحيط التمثال بهالة من السكون، وكأن الفن والدين والعاطفة اجتمعت في لحظة واحدة.
الغداء كان في مطعم محلي يطل على قناة جانبية، طلبت طبق المحار الطازج على الطريقة الفلمنكية (22 يورو)، جاء طريا، بتوابل خفيفة، ونكهات تليق بمدينة بحرية.
خيارات الإقامة في بروج تناسب مختلف الميزانيات: فنادق 4 نجوم قرب المركز (110–140 يورو لليلة)، نُزل شبابي أو شقق "إير بي إن بي" (Airbnb) في الأطراف (35–60 يورو)، وشقق فندقية للعائلات، وبعضها في بيوت تراثية تطل على القنوات.
ويمكن استئجار دراجة بـ 10 إلى 15 يورو، أو القيام بجولة في عربة تجرها الخيول (50 يورو لـ 30 دقيقة)، وهي تجربة شاعرية تعيدك لزمن آخر.
أنتويرب وتقاطع الأساطير
غادرت بروج وفي قلبي امتنان لحجارة تحفظ الهمس، بعد ساعة ونصف بالقطار (14 يورو)، وصلت إلى أنتويرب، المدينة التي أصبحت أكبر ميناء في أوروبا ومركزا عالميا للتجارة والتمويل، في القرن الـ 16، حيث كانت يمر عبرها ثلث التجارة الأوروبية.

شهدت أنتويرب ازدهارا ثقافيا وفنيا، وخرج منها فنانون عظماء مثل بيتر بول روبنز، ورغم أنها تضررت من الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت.
ثم تضررت في الحربين العالميتين فإنها عادت لاحقا كميناء حيوي وحتى اليوم ميناؤها من أكبر الموانئ في العالم رغم أنه ميناء نهري.
أنتويرب هي القلب الاقتصادي الحديث لبلجيكا، ولها حضور تاريخي قوي كمركز للتجارة العالمية.

محطة أنتويرب المركزية، التي يسميها البلجيكيون "كاتدرائية السكك الحديدية"، بدت لي قصرا من الحجر والزجاج، حيث القبب العالية، أعمدة رخامية، وسلالم تتفرع كأنها تقود إلى عوالم مختلفة.
خرجت إلى قلب المدينة، وكان أول ما شدّني هو التباين، مبانٍ باروكية مزخرفة بجوار واجهات زجاجية حديثة، محلات قديمة تحتفي بالقرون الماضية، وأخرى تعرض أحدث خطوط الموضة.
في ساحة "غروت ماركت"، وقفت أمام مبنى البلدية بزخارفه الذهبية، وتمثال البطل الأسطوري "سيلفيوس برابو" الذي -كما تقول الحكاية- هزم العملاق "أنتيغون" وألقى بيده في النهر، ومن هنا جاء اسم المدينة.

لكن خلف الواجهات السياحية، يختبئ حي الماس، القلب النابض لتجارة الألماس في أوروبا هنا، تمشي بين مكاتب التقييم وصالات العرض التي تديرها عائلات تعمل في المهنة منذ أجيال.
تلتقي بتجار يهود أرثوذكس بقبعاتهم التقليدية، بجوار تجار لبنانيين وأرمن، ومحلات في شوارع قريبة يديرها مغاربة جاؤوا بعد الحرب العالمية الثانية. الحي يعكس تداخلا فريدا بين التجارة والثقافة، حيث يلتقي الشرق بالغرب في حجر كريم.
إعلان
معالم بالمدينة
تأسست أقدم حديقة حيوان في أنتويرب في 21 يوليو/تموز 1843، مما يجعلها بين الأقدم على مستوى العالم، حيث تمتد الحديقة على مساحة حوالي 10 هكتارات، وتضم أكثر من 5 آلاف حيوان تمثل حوالي 950 نوعا مختلفا.

في الثانية ظهرا زرت كاتدرائية السيدة العذراء في أنتويرب، أطول كنيسة قوطية في بلجيكا (12 يورو)، حيث تعرض لوحات "بيتر بول روبنز" التي تمزج القوة بالروحانية، بألوان زيتية كثيفة وتفاصيل دقيقة تجعل المشاهد أقرب إلى مسرح حيّ.
بعدها مررت بشارع "ميير" التجاري، حيث تمتزج العلامات العالمية بتصميمات أزياء بلجيكية مبتكرة، فهنا تكمن شهرة أنتويرب كعاصمة أزياء أوروبية صاعدة.
في المساء وقفت على رصيف قرب النهر، أراقب سفن الشحن وهي تغادر الميناء، أكبر ميناء بلجيكي وأحد أهم موانئ أوروبا.
في التاسعة مساء جلست في مطعم هندي صغير قرب سينما "أوتايم"، حيث تتجاور عشرات المطاعم، وتعطيك خيارات كثيرة للتنقل بين وجبات قادمة من الصين أو الهند، وحتى الأرجنتين، ولن نغفل مطاعم إيطاليا والعراق وغيرها، وتناولت طبق دجاج بالكاري مع نان ساخن (14 يورو).

المشهد يعكس روح المدينة، فسكانها وزوارها من ثقافات وألوان متعددة، وكلّهم يجدون مكانهم، لا أحد غريب هنا.
هناك أدركت أن أنتويرب ليست مجرد وجه سياحي أو مركز تجاري، بل مدينة تعيش على مفترق طرق بين الأسطورة والتجارة والفن، وتعرف كيف تحفظ ماضيها وتستثمره في صناعة مستقبلها، وهي مدينة لا تسأل من أين أتيت، بل ماذا تحب أن تفعل الآن.
0 تعليق