"إن وُجِد البشر، وُجِد الطريق".. مقولة تختصر كتاب "التاريخ الكامل لطريق الحرير"، حيث الإنسان هو جوهر الثقافة، فما يرويه لنا سرد التاريخ الثقافي والحضاري ما هو إلا قصص بشر.
بشر جابوا طريق الحرير، وأسهموا في فتحه وتنميته وازدهاره. ومنذ آلاف السنين، سار الملايين على حافة هذا الطريق، كم منهم دُفنت عظامه في الرمال، أو دُكَّت في قاع البحار! ملايين الضحايا لم يتأتَّ للتاريخ أن يذكر إلا أسماء القليل منهم.
وعلى الرغم من ذلك، نتبين في قصص هؤلاء القلة تدفُّقا لا نهائيا من المسافرين والتجار، والمبعوثين الذين أُرسلوا في مهام وطنية، ورجال الدين الذين تغمر قلوبهم مشاعر الإيمان، والطلاب المرتحلين، والمحاربين الذين سافروا في بعثات استكشافية، والعائدين إلى أوطانهم، والملاّحين والفنانين. ملايين مرّوا بالرمال المتحركة الصحراوية، وتسلقوا شواهق الجبال، وعبروا هوائج البحار، لم يثبطهم عناء ولم تُثقِلهم صعاب، جازفوا بأنفسهم في سبيل نصرة ولائهم وتحقيق مسعاهم، وفتح الطريق أمام التبادل الثقافي لمختلف الجماعات العرقية.
طريق الحرير هو شبكة طرق مرورية، تمتد من اليابسة إلى البحر، عبر عدد لا يُحصى من المدن والمراكز التجارية. طريق شهد قيام وانهيار إمبراطوريات العصر القديم، سافر عبره ملايين من الجنود المنتصرين والمهزومين، وبحارة وقراصنة، وقوافل ورهبان وسياح وعلماء وفنانون ومرتزقة ومبعوثون، مما أكسب هذا الطريق الممتد نوعا من الغموض.
في العصر اليوناني وصل الإسكندر الأكبر حتى بوابات الصين ثم ارتد راجعا، وفي العصر الروماني أبحرت سفن تجارية على ساحل البحر المتوسط لإيجاد طريق يقود إلى الشرق. ولذلك فإن طريق الحرير هو بلورة للتبادلات الثقافية بين الشرق والغرب، وأحد أهم إنجازات تطور الحضارات العالمية.
وكتاب "التاريخ الكامل لطريق الحرير"، الصادر عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، من تأليف الباحث الصيني والمؤرخ الثقافي الشهير "ووبِن"، الخبير في تاريخ التواصل الثقافي، والذي يعمل حاليا باحثا في معهد الدراسات المتقدمة في تبادل الحضارات والعلوم الإنسانية بجامعة بكين للدراسات الأجنبية، وترجمة ريهام سمير سعد.
إعلان
ويُعد الكتاب ملحمة تاريخية وثقافية، وقد اختير ضمن أفضل 30 كتابا صينيا عام 2018، إذ يقدم تاريخ طريق الحرير لأول مرة كاملا في التاريخ الصيني، ويعرض صورة بانورامية لشتى تفاصيله، ويلقي أضواء كاشفة على كل ما حدث، وكل من وطأت قدماه ممراته البرية المتشعبة، وكل من أبحر في مساراته البحرية الواصلة بين القارات منذ العصر الحجري القديم.

طريق الحوار
تجاوز مفهوم طريق الحرير كونه طريقا مروريا فقط، وأصبح معبرا للثقافات وناقلا للحضارات. قالت عنه منظمة اليونسكو: إن "طريق الحرير هو طريق الحوار، حوار جمع بين الشرق والغرب، حوار بين الثقافات العِرقية المختلفة في آسيا، حوار للبشرية جمعاء. فقد اكتسب طريق الحرير أهميته الثقافية جراء التبادلات المتنوعة التي تمت من خلاله بين الحضارة الصينية وحضارة البحر المتوسط".
ويرى الباحث الصيني جي شيان لين أن "طريق الحرير هو الشريان الرئيس الناقل للتبادلات الثقافية بين الشرق والغرب على فترات تاريخية طويلة، والذي أثَّر بعمق في البلاد الواقعة على امتداده، كما كان تأثيره كبيرا في الصين من حيث النواحي السياسية والاقتصادية والأدبية والفنية والدينية والفلسفية. فلو لم يكن هناك طريق الحرير، ما شهدت بلدان العالم هذا التطور الحاصل اليوم".
ويتمتع طريق الحرير في تاريخ الثقافة العالمية بمكانة وأهمية خاصة، إذ امتد من البر الصيني إلى ساحل البحر المتوسط، وجمع بين شعوب العصر القديم، وعاصر عددا لا يُحصى من الدول القديمة، وناهز الكثير من الإمبراطوريات، فكان "طريق الحرير" بمنزلة الشريط الذهبي الممتد عبر آسيا القديمة، الرابط بين الحضارات والواصل بين الشرق والغرب.
وأشار علماء الغرب إلى أن طريق الحرير "هو الطريق السريع ذو القوة التحويلية الأكبر في تاريخ البشرية"، وأنه لم ينشر البضائع فقط، بل نشر الأفكار المعرفية والتقنيات، وكان ناقلا للدين والفنون واللغات إلى جانب العلوم.
وقد فتح طريق الحرير الباب إلى عصر الملاحة الكبرى، الذي يُعد امتدادا وتوسّعا لطريق الحرير الذي ربط القارات القديمة بالجديدة، وأكد طرح كروية الأرض والثورة الفضائية. واتسعت معه محدودية النظرة إلى العالم في القرون الوسطى، فلم يعد الأمر يقتصر على اكتشاف الشعوب لإحداثيات الأرض فقط، بل أصبحوا أكثر وعيا بأنفسهم.
ومنذ بداية الثورة الصناعية في القرن الـ18، تواصل العالم بعضه ببعض ليدفع نحو عصر العولمة، حيث تُعَدّ مشاركة الحضارات الغاية الثقافية المثلى التي وفَّرها طريق الحرير. ولهذا، فإن طريق الحرير ليس طريقا ثقافيا أثَّر في الشعوب قديما فحسب، بل امتد تأثيره إلى العصر الحاضر، فهو الخلفية الثقافية التي تشكّل ما نحن عليه الآن، ومن خلاله نواكب العالم، وتتكوَّن لدينا نظرة عالمية ورؤية حضارية للبشرية.
والكتاب، بفصوله الـ16 الممتدة على 650 صفحة، يعرض الأساطير الصينية، وحراك البدو، وتواصل الثقافات، وتبادل المنتجات والتقنيات، والغزوات والمعارك والفتوحات، ونشر الأديان، وسَفَر الرهبان، ومبادرات السلام، موثقا كل ذلك بنصوص دلالية واقتباسات من سجلات كلاسيكية، ووثائق ومراسيم وكتب ومؤلفات، وأقوال صاغها أباطرة وملوك وقادة وعلماء وأدباء من شتى بلدان العالم.
إعلان
ويستعرض الكتاب، خلال الفترات المتعاقبة، تأثير التواصل والتبادل في مجرى التاريخ، كما يستدعي كل الأسر الصينية الحاكمة، وكل الأباطرة الذين مرّوا بطريق الحرير، وكيف كان يتم تبادل المنتجات وانتشار الأديان، وكيف كان حال الممالك والدول التي أُقيمت على امتداد طريق الحرير.

مسمى رومانسي
تصف صفحات الكتاب المعارك الحربية والفتوحات، وحملات الإسكندر الأكبر، ورحلات تشانغ خه السبع المهيبة، إلى جانب رحلات تشانغ تشيان، وشوان تزانغ، وابن بطوطة، وفاشيان، وماركو بولو، وكريستوفر كولومبوس، واكتشاف العالم الجديد.
وأول من استخدم مسمّى "طريق الحرير" حديثا هو الألماني فرديناند فون ريشتهوفن (1833-1905)، عالم الجغرافيا الشهير والجيولوجي، ومؤسس علم الجيومورفولوجيا الحديثة. ويُعَدّ ريشتهوفن أول عالم ألمّ بالجغرافيا الصينية، وربط بين جغرافيا آسيا الوسطى وتبادل الحضارات الشرقية والغربية منذ عام (114 ق.م حتى 127م)، حيث كان الطريق الممتد بين الصين وبلاد ما وراء النهر، وبين الصين والهند، وصولا إلى المناطق الغربية التي قامت أساسا على تجارة الحرير.
ويشير بعض المؤرخين إلى أن ريشتهوفن لم يكن أول من نَحَت مصطلح "طريق الحرير"، إذ سبقه الجغرافي مارينوس الذي عاش في مدينة صور قبل القرن الأول الميلادي، ثم تبعه عالم الجغرافيا اليوناني كلوديوس بطليموس (90-160م). وكانت المعلومات التي طرحها مارينوس مستمدة من أحد الرحالة اليونانيين الذين عملوا في تجارة الحرير مع الصينيين في أقصى الشرق في القرن الأول الميلادي.
وطريق الحرير، هذا المُسمّى الرومانسي الأنيق، يُعَدّ دليلا جغرافيا وافرا على أثر التبادلات الثقافية بين الصين والغرب. وبمجرد أن طُرِح مسمّى "طريق الحرير"، لقي قبولا فوريا من المجتمع الأكاديمي الدولي، وأصبح المصطلح الأكثر تداولا واستخداما لوصف العلاقات التاريخية بين الصين والغرب.

محور سوريا على طريق الحرير
وفي وقت لاحق قام المستشرق الألماني ألبرت هيرمان بتوسيع مفهوم طريق الحرير عبر مقالته "طريق الحرير القديم بين الصين وسوريا"، مشيرا إلى أن أحد امتدادات طريق الحرير جاوز بلاد ما وراء النهر، وامتد نحو الغرب البعيد باتجاه سوريا، حيث تقع سوريا على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وكانت جزءا من الإمبراطورية الرومانية في العصور القديمة.
وقد أسهمت سوريا من خلال شعب "تدمر" في دعم كينونة الدول العربية، وكانت تدمر في القرنين الثاني والثالث الميلاديين وسيطا نشطا للتجارة بين الشرق والغرب، مما جعل هيرمان يربط بين طريق الحرير وحضارة حوض البحر الأبيض المتوسط وصولا إلى أوروبا.
ومنذ العصر الحجري القديم، الذي استمر لفترة تتراوح بين مليون و3 ملايين سنة، وُجد طريق يربط بين مختلف المجموعات العِرقية، امتد من آسيا الوسطى إلى سيبيريا ومانشوكو (الوطن التاريخي لقومية المانشو) والصين والهند.
وهناك العديد من الأساطير الصينية التي تثبت وجود تبادلات ارتبطت بطرق مرورية خارجية، وهو ما تحكيه جولة الإمبراطور الأصفر الغربية. وفي العصر الحجري الحديث شاع العثور على الفخار المزخرف في مناطق مختلفة من العالم، إذ تُعَد صناعة الفخار تقدما إنسانيا بعد اكتشاف النار. لكن كيف وصل الفخار المزخرف إلى العديد من المناطق المختلفة؟ لقد استدعى ذلك استكشاف الطريق الذي انتشر من خلاله الفخار.
ومن خلال الترتيب الزمني للاكتشافات الأثرية في الصين ودول العالم، وُصف طريق الفخار بأنه طريق للتواصل الثقافي، إذ انتشرت تلك الاكتشافات الأثرية عبر أوراسيا بشكل متناثر وعلى امتداد هائل. وكان طريق الفخار يربط بين الشرق والغرب، إلى جانب طريق آخر مثّل الحركة التجارية الواعية للبشرية، وهو طريق اليشم. وإذا كان طريق الفخار امتد من الشرق إلى الغرب، فإن طريق اليشم امتد من الغرب إلى الشرق، فشكّلا معا صورة تقريبية للطريق الواصل بين الصين والغرب في وقت مبكر، قبل أن يظهر طريق السهوب.
إعلان
وفي تطور آخر لرحلة الإنسان بين الشرق والغرب، يُعَدّ إنتاج الحبوب الخمسة وتدجين الحيوانات الستة عبر السلالات الصينية الثلاث: شيا، وتشانغ، وتشو، نتيجة للتبادل الذي تم بين الصينيين والجماعات العرقية الأخرى في أوراسيا. وقد عبّر ذلك عن المزج الثقافي بين الثقافة الزراعية والمستوطنات الشرقية والثقافة البدوية الوافدة من الغرب. وبفضل هذه التبادلات المبكرة التي قام بها الأسلاف، أرست الحبوب والحيوانات أساسا راسخا لبقاء الأمة الصينية.

الثقافات الأصلية
وكان عصر أسرة تشانغ وأسرة تشو عصر انبثاق الحضارة الصينية الوطنية، وعصر تواصل الثقافات الصينية مع الثقافات الغربية. وتطورت الثقافات الأربع الأصلية جنبا إلى جنب في الصين ومصر وبلاد الرافدين والهند، من شرق إلى غرب أرض أوراسيا الشاسعة، كما عززت مع ثقافة الهنود الحمر في أميركا الوسطى والجنوبية نظمَ الحضارة البشرية، ووضعت النهج الأساسي للفترة البدائية للثقافة العالمية.
وحسب المؤرخ الأميركي ويليام ماكنيل، فقد انبعثت الحضارة أولا من الشرق الأوسط، من بلاد الرافدين، وأن الحضارة العالمية منذ عام 1700 ق.م إلى عام 500 ق.م تقريبا، قد تشكلت إثر تفاعل مختلف الحضارات مع الحضارة الرئيسية المهيمنة في الشرق الأوسط. وإلى جانب محيط الشرق الأوسط، تكوّنت في الصين والهند واليونان حضارات فريدة، إلى جانب حضارة شمال أفريقيا، لتشكّل معا حلقة الحضارة الأوراسية العظمى.
وكانت بوادر التواصل الصيني في عهد أسرة شانغ مع الغرب من خلال طريق الحرير، وكان تأثير الثقافات الأجنبية أكثر وضوحا في الثقافة البرونزية التي ظهرت في الصين في حوض النهر الأصفر. وأصبح سبك الأواني وتشكيلها وثيق الصلة بالعادات الحياتية والاجتماعية. وكانت الأدوات البرونزية لسلالتي تشانغ وتشو أحدَ الإنجازات البارزة التي حققتها الحكمة الصينية المبكرة، وتجسيدا مهما للتبادل الفني الذي تم عبر طريق الحرير. وقد اقترح بعض الباحثين تسمية الطريق الواصل إلى الغرب بـ"طريق البرونز" حوالي عام 2000 ق.م.
وتُعَدّ عربات الخيل ذات العجلتين إحدى أهم الابتكارات التي امتاز بها العصر البرونزي. وكان طريق الحرير القناةَ المرورية الرئيسة التي تربط الشرق بالغرب، ومن خلاله جرت التبادلات التجارية، وتبادلت الموارد، ونُقلت أيضا مختلف التقنيات التي ابتكرتها الجماعات العِرقية المختلفة. فانتقل البرونز وعربات الخيل من التقنيات الغربية إلى الشرق، كما نُقلت بعد ذلك صناعة الورق والطباعة وغيرها من التقنيات الصينية إلى الغرب.
وكان طريق الحرير يمر عبر منطقة غرب آسيا والهضبة الإيرانية وبلاد الرافدين والساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. وكان هذا الطريق يمتد دون عوائق ليؤدي إلى العديد من الطرق بين الشرق والغرب. وتقع هذه المنطقة بين البحر المتوسط والبحر الأحمر والبحر الأسود وبحر قزوين والخليج الفارسي وتُسمّى "أرض البحار الخمسة"، وتُعَدّ الشريان الرئيسي للتجارة في العالم.

شق طريق الحرير رسميا
وتم افتتاح طريق الحرير رسميا خلال حكم أسرة هان، حينما أرسل تشانغ تشيان إلى المناطق الغربية بعثة يُطلق عليها تاريخيا اسم "تزاو كونغ" بمعنى "شقّ الطريق"، وكان له الفضل الأول والسبب الرئيس في فتح طريق الحرير. وإن كنا قد أشرنا من قبل إلى أن طريق الحرير فُتح في وقت مبكر جدا، وأُطلق عليه أسماء مختلفة مثل: "طريق الفخار المزخرف"، و"طريق اليشم"، و"طريق البرونز"، و"طريق السهوب"، فإن التبادلات الثقافية المبكرة بين الشعوب والجماعات العرقية المختلفة، وحاجتها إلى التواصل، أسهمت في فتح طريق الحرير وتشكيله.
ولم يكن الطريق البري للحرير وحده قائما، بل كان هناك أيضا طريق الحرير البحري. ومنذ زمن بعيد التفتت الأوساط الأكاديمية إلى وجود طريق الحرير البحري، وأن هناك طريقين يُعرفان بـ"طريق الحرير": أحدهما يمتد برّا، والآخر بحرا. وقبل التخلي عن مملكة لولان، كان معظم تجار الحرير قد بدؤوا في نقل بضائعهم بحرا إلى الهند والجزيرة العربية ومصر والمدن الساحلية الواقعة على سواحل البحر الأبيض المتوسط. ومع تعقّد العلاقات بين أسرة هان والمناطق الغربية، أصبحت أهمية الطريق البحري فائقة، وتطورت التجارة البحرية خلال القرنين التاسع والعاشر.
إعلان
وقد استفاد الإمبراطور سون تشوان، إمبراطور مملكة "وو" الشرقية، من الموقع الجغرافي لبلاده وإطلالتها على بحر شاسع، فبدأ في تطوير صناعة السفن، وإمداد البلاد بالقوارب البحرية، وإرسال المبعوثين لفتح الأراضي، والتبادل التجاري، والتواصل مع الجماعات الأخرى، كما كوّن جيشا بحريا يضم 5 آلاف سفينة.
وفي المقابل، ومنذ قديم الزمن، وجد الغربيون طريقا يصل بهم من ساحل البحر الأحمر في مصر عبر مضيق باب المندب باتجاه بحر العرب، وصولا إلى الساحل الغربي للهند، ثم امتد ليصل إلى الصين وجنوب آسيا، حيث تشكّل طريق بحري كان بمثابة شريان يربط بين الشرق والغرب مرورا بجنوب آسيا.
وفي عام 3000 قبل الميلاد، أبحر اليونانيون من شبه جزيرة بيلوبونيز إلى سواحل البحر المتوسط للتجارة مع جزيرة كريت وقبرص ومصر، كما كانت لهم اتصالات مع سكان نهر الدانوب ومناطق واسعة من الدول الإسكندنافية.

طريق الفن والفكر
وتؤكد الاكتشافات الأثرية أن التواصل البحري مع الهند عبر البحر الأحمر كان قائمًا خلال تلك الفترة. وفي القرن العاشر قبل الميلاد أرسل الفرعون المصري "حيرام" بحّارته المهرة للحاق ببحّارة الملك سليمان (960 – 930 ق.م)، إلى الهند، فعادوا حاملين معهم الذهب والفضة والمجوهرات والعاج والقرود والطواويس.
ولم يقتصر طريق الحرير على كونه طريقًا تجاريًا فحسب، بل كان دربًا لنشر الدين والفكر والفن. وكان انتشار البوذية باتجاه الشرق الحدث الأكبر والأكثر أهمية. ففي عملية الانتشار الشرقي للبوذية كانت المناطق الغربية بمثابة الممر الرئيسي لرحلة بوذا العظيم نحو الشرق. وبعد القرن الثالث الميلادي، وبفضل دعم الملك أشوكا في الهند ومساندته، بدأت البوذية تنتشر خارج الهند، ووصلت إلى بعض البلدان مثل ميانمار وسريلانكا وآسيا الوسطى والمناطق الغربية. كما توافد الرهبان البوذيون إلى الصين عبر طريق الحرير.
أما السلاسة التي شهدها طريق الحرير، فقد كانت نتيجة جهود حثيثة بُذلت عبر آلاف السنين من خلال الحملات والبعثات والرحلات التجارية التي قامت بها الجماعات العرقية على طول الطريق، مما جلب لها الرخاء والتطور على نحو شامل. وكان لكل من أسرة تشو، وأسرة سوي، وأسرة تانغ ـ التي ازدهرت البلاد في عهدها ـ دور بارز؛ إذ لم تتعالَ هذه الأسر الحاكمة على غيرها من الثقافات، بل انفتحت عليها واندمجت بوعي في التيار العالمي. ومن خلال التبادلات الثقافية الواسعة مع العالم الخارجي، أصبح طريق الحرير المعبر الفريد الذي تولّى مهام التبادلات الصينية ـ الغربية.
وعبر إلقاء نظرة عامة على تاريخ التطور الثقافي في العالم، يتبين أن التبادلات التي جرت بين الشرق والغرب كانت أهم التبادلات الثقافية التي شهدها العالم، وأعظم قوة مؤثرة في تطوره الثقافي. فمن خلال طريق الحرير اكتشفت الصين العالم وأصبحت جزءًا منه، واكتشف الغرب الصين وأصبح على مقربة منها، والتقى الشرق والغرب على طريق الحرير، ثم تحاورا وتواصلا وانصهرا، مشكّلين إحدى أبهى الصور وأكثرها مهابة في التاريخ الثقافي العالمي.
إن تاريخ طريق الحرير هو، أولًا وقبل كل شيء، تاريخ الناس وقصصهم؛ قصص أولئك الذين ساروا على أرضه، فصاروا أبطالًا ومُثُلا ثقافية للبشرية جمعاء.
وإذا نظرنا إلى تاريخ طريق الحرير في مجمله وسردنا قصته، فسنجد أنه يمثل أروع فصل في تاريخ الثقافة العالمية، وأبهى طريق خطا عليه البشر، إذ كُتب من خلاله تاريخ البشرية وحضارة العالم من الماضي إلى الحاضر.
كما أن طريق الحرير لم يكن حكرًا على الصينيين وحدهم، بل كان نتاجًا للجهود المشتركة التي بذلتها مختلف الشعوب على مر العصور. ومن منظور تاريخ طريق الحرير وثقافته، ندرك أنه حتى في العصور القديمة لم تكن شعوب العالم ذات الثقافات المختلفة منغلقة أو معزولة عن بعضها بعضًا، بل كانت متواصلة. وكما يقول عالم الآثار "سو بينغ تشي": إن التواصل والتبادل هو أساس تطور تاريخ وثقافات العالم.
0 تعليق