طهران- مع حلول الأسبوع الأخير من سبتمبر/أيلول من كل سنة وبداية العام الدراسي في إيران، تشخص أنظار الرأي العام إلى نتائج امتحان القبول الجامعي والحاصلين على المراكز المتقدمة فيه.
وفي هذه الأثناء أيضا، تظهر المقولة المأثورة بأن "نظام التعليم في خدمة الأغنياء" على لسان ذوي الطلاب، وتفتح جرحا قديما سببه التفاوت الطبقي في هذا النظام.
فعلى عكس ما ينص عليه الدستور من مجانية التعليم، كشفت نتائج هذا الامتحان لعام 2025 عن تفاقم الفجوة بين المدارس الخاصة والحكومية، مما يثير انتقادات واسعة لدى الرأي العام حول عدالة توزيع الفرص التعليمية في البلاد.
وكشفت أحدث البيانات الصادرة عن نتائج الامتحان المعروف في إيران بـ"اختبار الكونكور الوطني" عن هيمنة واضحة لطلاب المؤسسات التعليمية الخاصة ومدارس الموهوبين على قوائم الناجحين، في حين تواصل حصة الطلاب من المدارس الحكومية العادية وحتى النموذجية وتيرة التراجع، حتى بلغت في العام الجاري مستويات متدنية جدا.

إحصاءات رسمية
وفقا لتقارير الصحافة الفارسية، سيطر طلاب المدارس المخصصة لاكتشاف وصقل الموهوبين على 78% من المراتب الأولى في امتحان القبول الجامعي على مستوى البلاد، كما استحوذ طلاب مدارس القطاع الخاص على 10% من المراتب المتفوقة، في حين كانت نسبة 8% من المراتب الأولى من نصيب طلاب المدارس الحكومية النموذجية، بينما تفيد التقارير الرسمية بأن حصة المدارس الحكومية العامة تكاد تساوي الصفر من بين المراتب الأولى.
في غضون ذلك، كشفت تفاصيل الإحصاءات الرسمية صورة أكثر قتامة عن المشهد التعليمي، ففي فرع العلوم التجريبية سيطر طلاب المدارس المخصصة للموهوبين والقطاع الخاص -التي تتوفر فقط في بعض المناطق والمدن الكبيرة دون غيرها- على 90% من المراتب المتقدمة، بينما حصلت هذه المدارس الخاصة على 70% من مراتب التفوق في فرع الرياضيات.
إعلان
وبينما تُظهر الإحصائيات أن نحو 90% من المراتب الأولى في فرع العلوم الإنسانية (الأدبي) كانت من نصيب طلاب مدارس الموهوبين والقطاع الخاص والنموذجية، تبرز الصحافة الفارسية خبرا مفاده أن "طلاب المدن والمحافظات البعيدة عن العاصمة طهران لم يتمكنوا من تحقيق مراتب أولى تتناسب وثقلها السكاني".
وكما دأبت عليه إحصاءات نتائج هذا الامتحان منذ سنوات، فإن حصة الأسد من أرقام التوزيع الجغرافي للمدارس المتفوقة كانت من نصيب طهران التي استحوذت على 25% من المراتب الأولى، تليها مدينة مشهد (شمال شرق) بـ17%، ثم مدينتي كرج (غرب طهران) والأهواز (جنوب غرب) بـ3 مراتب فقط لكل منهما في قائمة المتفوقين.
وعلى الرغم من أن مدارس الموهوبين تحتضن فقط 3.5% من طلاب الصف الأخير في المرحلة الثانوية، فإنها تحصد 3 أرباع النجاحات في امتحان القبول الجامعي.
كذلك فإن البعد الاقتصادي يظهر تفاصيل أكثر إيلاما -وفق مراقبين- في امتحان الكونكور الإيراني حيث لا يتجاوز عدد المتفوقين من الشرائح الفقيرة سوى 135 طالبا (بنسبة 4.5%) من المراتب الأولى.
وبينما تظهر الإحصاءات الرسمية انتماء 1563 طالبا، أي أكثر من نصف المراتب الأولى، إلى طبقات الأغنياء في المجتمع الإيراني، يعتقد مراقبون أن هذه الفجوة تؤكد أن القدرة المالية أصبحت عاملا حاسما في تحقيق التفوق التعليمي، في تناقض صارخ مع المادة (30) من الدستور التي تنص على مجانية التعليم.

تعليم انتقائي
من ناحيتها، اعتبرت الباحثة في الشؤون الثقافية بهار أفراسياب بور أن النجاح في الامتحان الوطني لدخول الجامعات في العام الجاري كان مرتبطا بالوصول إلى موارد مالية وتعليمية خاصة أكثر من ارتباطه بالقدرة العلمية.
وفي مقال تحت عنوان "الفجوة التعليمية في كونكور العام الجاري" نشرته في موقع "صداي جراغ روشن" الثقافي، لخصت الباحثة العوامل المؤثرة في تقليص حيز العدالة التعليمية وفق التالي:
التعليم الخاص الذي يتطلب إنفاق تكاليف باهظة. كتب تعليمية مساعدة وخاصة باهظة الثمن. مستشارون تعليميون خاصون يقدمون تخطيطا دقيقا وتحليلا للامتحانات ودعما نفسيا. امتحانات تجريبية تُعقد بانتظام في المدارس الخاصة وترفع مستوى استعداد المتقدمين.
في السياق، انتقدت صحيفة "آرمان ملي" الناطقة بالفارسية السياسات الرسمية المؤدية إلى غياب طلاب المدارس الحكومية بين قوائم المتفوقين في هذا الامتحان خلال السنوات الماضية، معتبرة أن النتائج الرسمية مؤشر على أن الموهبة وحدها غير كافية للنجاح في ظل غياب البيئة التعليمية الداعمة.
وفي تقرير تحت عنوان "المراتب الأولى من نصيب أبناء الأثرياء"، طرحت الصحيفة تساؤلا جوهريا عن "جدوى السياسات التعليمية الحالية وقدرتها على تحقيق العدالة الاجتماعية في البلاد".
وأوضحت أن بيانات توزيع المدارس المتخصصة في إيران كشفت عن خلل هيكلي عميق في نظام التعليم، حيث تتركز المدارس النموذجية والمتخصصة لاكتشاف وصقل المواهب في المناطق الحضرية الغنية، مما يحرم الطلاب الموهوبين في المناطق الريفية والمدن الصغيرة من فرص التميز، ويكرس فجوة تعليمية تتناقض مع مبدأ تكافؤ الفرص الذي يفترض أن تقوم عليه المنظومة التعليمية.
إعلان
وخلصت إلى أن مدارس الموهوبين تحولت عمليا إلى مؤسسات انتقائية تعتمد على المعيار المالي، حيث تشكل قدرة الأسرة على دفع الرسوم الدراسية شرطا أساسيا للقبول فيها حتى تكاد تتحول إلى مدارس خاصة تخدم النخب ذات الدخل الاقتصادي العالي، بما يتناقض والهدف المرسوم لها لرعاية الموهوبين من جميع الشرائح الاجتماعية.

ظاهرة مركبة
ومع تزايد انتقادات الأوساط الإيرانية لوزارة التربية والتعليم بسبب تراجع مستوى التعليم العام في المدارس الحكومية، دافع وزير التربية والتعليم علي رضا كاظمي عن أداء النظام التعليمي في البلاد، معتبرا أن الإشكالات المطروحة "ظاهرة مركبة" تتحمل فيها أطراف عدة المسؤولية وليس النظام التعليمي وحده.
وفي مقابلة مع وكالة أنباء "إيلنا"، أشار كاظمي إلى أن ازدحام الفصول الدراسية التي قد تصل إلى 50 طالبا بمعلم واحد يحول دون تلبية الاحتياجات الفردية للطلاب في مدارس القطاع العام ويُضعف المخرجات التعليمية.
وأرجع جزءا كبيرا من جذور المشكلة إلى التحولات المجتمعية والأسرية، لافتا إلى أن انشغال الأسر واتساع الفجوة بين الأجيال وانتشار العزلة بين الطلاب كلها عوامل قلصت من المتابعات التربوية للأهل. كما تحدث عن تداخل العوامل التكنولوجية حيث تسهم الأجهزة الذكية في تشتيت الانتباه على نطاق واسع.
وبينما أقر كاظمي بوجود قصور في جانب من مسؤوليات الوزارة المباشرة، نبّه إلى أن جزءا من التحديات يتعلق ببنية النظام التعليمي الكلي الخارجة عن سيطرة الوزارة، مثل الفروقات الكبيرة في الخلفيات التعليمية للطلاب عند الالتحاق بالمدرسة، والتي تُصعّب -برأيه- من مهمة المعلمين وتؤثر في المحصلة النهائية لجودة التعليم.
وعلى الرغم من الإنفاق الحكومي اللافت في قطاع التعليم في إيران، فإن الواقع يشير إلى أن التحديات الهيكلية تحول دون تحقيق العدالة التعليمية المنشودة في دستور البلاد، مما يهدد بتراجع الحافز بين طلاب المناطق المحرومة والمدارس الحكومية على المدى البعيد، ويحذر مراقبون من أن يؤدي التفاوت الطبقي إلى تقليل الحراك الاجتماعي في المستقبل.
0 تعليق