صبحي حديدي وفخري صالح.. حول الشعر العربي بعد محمود درويش! - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

 

كتبت بديعة زيدان:

 

في عصف فكري وتنظيري عميق، كان جمهور معرض عمّان الدولي للكتاب، مساء أول من أمس، على موعد مع الناقد السوري صبحي حديدي والناقد الأردني فخري صالح، في ندوة أدارتها الأكاديمية الأردنية د. نهلة الشاعر تحت عنوان "الشعر العربي بعد محمود درويش"، تناولت إرث الشاعر الفلسطيني الكبير، راصدة التحولات التي طرأت على القصيدة العربية بعد رحيله، متأرجحة بين ما يمكن اعتباره "أرباحاً" أو "خسائر" في المشهد الشعري.
استهل الناقد السوري صبحي حديدي مداخلته بتقسيم أثر غياب درويش إلى ثلاثة مستويات رئيسة: الذائقة وجماهيرية الشعر، وقصيدة التفعيلة، والقصيدة الغنائية الملحمية.
أوضح حديدي أن درويش احتل مكانة "الشاعر النجم" الذي يملأ الملاعب، و"الشاعر الرائي" الذي حمّله الجمهور مسؤولية التعبير عن همومهم، وهي مكانة ارتبطت في بداياتها بالقضية الفلسطينية وشعر المقاومة، لكنه أشار إلى أن درويش في مراحل متقدمة من تجربته، خاصة في مجموعاته الأخيرة، بدأ "يعاند" هذه الذائقة الجمعية، مفضلاً تطوير برنامجه الجمالي الخاص على حساب ما يطلبه الجمهور.
وفيما يتعلق بقصيدة التفعيلة، وصف حديدي درويش بأنه كان "أستاذاً كبيراً" و"ماهراً ودؤوباً" في تطوير مهاراته، وسعى جاهداً لجسر الهوة بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، مدركاً أن قصيدة النثر العربية "تمتلك الكثير من الخصائص الجمالية وحقوق الوجود".
أما على صعيد الغنائية الملحمية، فإن درويش أبدع في مزج الحس الغنائي بالتاريخ التراجيدي، ليس فقط الفلسطيني بل والإنساني، حسب حديدي، الذي شدد على أنه تمكن في نهاياته من عكس فردانيته الخاصة كشاعر وإنسان.
وخلص حديدي إلى أن المشهد الشعري برحيل درويش خسر "الشاعر النجم"، لكنه ربح "مشاريع شعرية عديدة تحاول مقاربة التاريخ والملحمي والمأساوي من زوايا غنائية".
أما عن تأثير العصر الرقمي على النص الشعري في مرحلة ما بعد درويش، يمكن القول، إن حديدي يراه عاملاً يعزز هذه الفردانية والتشتت، فـ"الاستباحة المعلوماتية" تساهم في تفتيت الذائقة الجمعية وتجعل من الصعب بروز صوت شعري جامع، لكنها في الوقت نفسه تمنح الشعراء أدوات جديدة لنشر تجاربهم المتفردة والوصول إلى جماهير متخصصة.
من جهته، ركز الناقد الأردني فخري صالح على "تاريخية" إنتاج درويش الشعري، مؤكداً أنه لم يأتِ من فراغ، إنّما هو نتاج سياق عربي وفلسطيني ممتد، مشيراً إلى أن تجربة درويش الأولى تأثرت بشكل واضح برواد الشعر العربي الحديث مثل بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، ونزار قباني، بالإضافة إلى شعراء فلسطينيين سبقوه مثل أبي سلمى (عبد الكريم الكرمي).
وأكد صالح أن درويش نشأ ضمن "كوكبة من الشعراء الفلسطينيين" في ستينيات القرن الماضي، كتوفيق زياد وسميح القاسم، وكان يكتب في حوار دائم مع التيارات الشعرية السائدة آنذاك، وبهذا المعنى، فإن درويش "لم يكن يكتب على حدة، بل كانت قصيدته ذات علاقة بالاقتراحات الشعرية الموجودة في زمانه".
ورأى صالح أن تجربة درويش هي عامل تواصل وإثراء وغنى للقصيدة العربية، ولا تشكل "عقبة أو جداراً" أمام الأجيال اللاحقة، بل تفتح نافذة على شعريات جديدة.
وبالنسبة لتأثير التكنولوجيا، رأى صالح أنها تمثل السياق الجديد الذي يجب على الشاعر المعاصر أن يتحاور معه، فكما تحاور درويش مع شعراء العالم ومع الأيديولوجيات الكبرى في زمنه، فإن شاعر اليوم مدعو للتحاور مع "العالم المفتوح بلا سقف" الذي فرضته العولمة والتكنولوجيا، مشدداً على أن هذا لا يمثل قطيعة مع درويش، بل استمرارا لروحه الباحثة عن التجديد والتفاعل مع العصر.
أثارت مديرة الندوة، نهلة الشاعر، تساؤلات جوهرية حول راهن القصيدة العربية، مشيرة إلى أن السؤال الأهم، اليوم، ليس "مَن بعد درويش؟" بل "ماذا بعد درويش؟"، وهل لا يزال الشعراء أسرى "التأثر بدرويش" أم أنهم يبحثون عن مسارات جديدة تتجاوز السياق العربي نحو أفق عالمي أوسع، تاركة الحضور أمام أسئلة مفتوحة حول مستقبل الشعر العربي في ظل غياب قامة بحجم محمود درويش، الذي وصفته بأنه "شاعر مراوغ" استطاع أن يجمع بين "الفنية الشعرية المتطورة والجماهيرية الواسعة" حتى اللحظة الأخيرة.
ومع ذلك، فإن الناقديْن حديدي وصالح اتفقا على أن المشهد الشعري تغير جذرياً، بعد رحيل درويش، وإن اختلفا في تشخيص طبيعة هذا التغير، حيث ركز حديدي على خسارة الحضور الجماهيري المُوحِّد وبروز تجارب نخبوية فردية، بينما ركز صالح على استمرارية التطور، وعلى أن درويش كان محفزاً لهذا التغيّر وليس نهاية له، وأن الشعراء، اليوم، يواصلون مسيرة الحداثة بأدوات عصرهم الجديد.

 

0 تعليق