Published On 30/9/202530/9/2025
|آخر تحديث: 00:38 (توقيت مكة)آخر تحديث: 00:38 (توقيت مكة)
عندما سأل شكيب أرسلان قبل أكثر من قرن عن سبب تخلف الأمة، كان يرى أن "جهدا مضاعفا لسد العجز في الدولة العثمانية قد نملك به القوة الدافعة لتجاوز سقوطها"، فتحدث كسياسي ورجل دولة يحث الناس على التماسك والعمل والتبرع بالعلم والمال من أجل تماسك الدولة مهما كان ضعفها وجهلها.
في السياق نفسه كان المثقفون يتحدثون عن خلافة جديدة، ويبحثون عن بديل للدولة العثمانية. محمد عبده يرى أن الدولة العثمانية كانت حجابا عن واقع الأمة المريض، وعبدالرحمن الكواكبي يجتمع بجمع من العلماء ليبحث عن بديل للخلافة العثمانية في الحجاز.
في تلك الفترة كان الجدل على أشده حول جدوى استمرار الخلافة، فقائل قال إنها بلا دليل من كتاب وسنة، وبعضهم قال إنها مريضة لكنها شرعية كمحمد رشيد رضا، أما طه حسين، فقدر أنه لم تكن هناك خلافة راشدة بعد الخلفاء الأربعة، وأنهم فلتة تاريخ لن تتكرر بعد ذلك أبدا.
هكذا تسرب الأمر ليصبح سردية تسمى الفتنة الكبرى، وهي الخلاف السياسي الكبير الذي هوت فيه الأمة لمرحلة النفس، كما عند مالك بن نبي [مصطلح صاغه بن نبي للإشارة إلى مرحلة الانكفاء على الذات في دورة حياة الحضارات]، أو عندما تحولت إلى ملكية غاب عنها روح النبوة كما كتب ابن خلدون، وهي سبب الأزمة الدستورية كما سرد الشنقيطي في كتابه الأزمة الدستورية، أو هي الأزمة التي حولت تاريخ الأمة إلى قتال ودماء، كما يردد المفكر والسياسي السوداني حسن الترابي.
وهكذا بُنيت سردية مشبعة بالتفسير الثقافي لتخلف الأمة، وغاب صوت شكيب أرسلان وانتهى وراء الأدب الذي امتاز به طه حسين، وكتب به علماء كبار كمحمد عبده والكواكبي، أو كما هي سردية الإسلاميين من بعد حسن البنا وسيد قطب، وبقية اجتهادات المدارس الدعوية المعاصرة بنفس التفسير إلى يومنا هذا. هل يمكننا أن نضع كل ذلك تحت التفسير الثقافي لتخلف الأمة؟
ما هو التفسير الثقافي؟
في منتصف القرن العشرين بدأ البحث عن الجذور التاريخية والثقافية لكثير من الأزمات التي شهدها العالم. ساعتها كان الوعي الإنساني كأنما سُكب من عقول الناس، كما صور كارل ماركس في نظريته عن الجدلية التاريخية، أن الوعي ينشأ من المجتمع، وليس في عقول الناس، كان المجتمع هو الأساس، وفكره الاقتصادي والسياسي.
إعلان
الثقافة كانت جزءا يتحسس منه الإنسان بندقيته، لأنها الهوية، وحين نسمع عن الهوية ستتداعى خلافات لا حصر لها، لذا كان الغوص في التفسير الثقافي قضية أساسية: لا ماضي له لا مستقبل له، وكلما غاص الإنسان في التاريخ وفي مقولات السابقين، كان أقدر على تفسير الحاضر، حتى تشكلت حتمية ثقافية لقراءة التاريخ.
واستخرج المفكرون الإسلاميون مقولات أشبه بحتميات، كالمستبد العادل، والرجل الشرقي الذي لا يؤمن بالديمقراطية وربما لا يريدها، والعنف الكامن فينا نحن العرب، وغياب النظرية السياسية.
وأخيرا بدأ الحديث عن أزمة العقل العربي وأزمة العقل السياسي. أخرج الجابري والطرابيشي وأركون من بطون التراث ما يفسر تخلفنا من كتب قديمة وسرديات تصل إلى الفتنة الكبرى وما تلاها من أحداث. يدخل في التفسير الثقافي الأنثروبولوجيا والدراسات الثقافية وعلم اجتماع المعرفة، وغيرها من النظريات التي يبدو أنها باتت تتهاوى وتذوي.
كيف تهاوى التفسير الثقافي؟
التفسير الثقافي يعتمد على استقراء التاريخ في جوانبه الثقافية، كما فعل الجابري مثلا في كتبه، فقد درس على سبيل المثال التاريخ السياسي الإسلامي، ووصل إلى أن العقل السياسي العربي ينحصر في القبيلة، والعقيدة، والغنيمة.
وهكذا تشكل نموذج يتحول إلى أداة لتفسير الواقع وتقويمه. وبالطبع الواقع سيصدق كثيرا من هذا الاستقراء، وينتهي الأمر بالمرء لتكون مرجعيات -كما يراها علماء الإدراك- أي مجموعة مقولات تقود العقل لفهم الواقع، التي يرى بها الواقع ويبصر. لذا فإن التفسير الثقافي لا يعدو كونه حتمية كغيره من الحتميات.
والاستقراء -كل الاستقراء التاريخي- هو نوع من الانتقاء، ربما يكون بقصد حين نعمد لإثبات حقائق مسبقة، أو أنه يكون من خلال نوعية البحث الذي يوصل لتلك النتائج، لكنه في كل الأحوال استقراء.
من هنا جاءت مكامن الضعف في التفسير الثقافي، كونه يفسر الحاضر بالماضي، ويفترض أنه يدرك هذا الحاضر ويسبر أغواره، فيدخل المرء في حالة من الحلقة المفرغة في التفسير، بين ماضٍ لم يبرح الحاضر ألما ووجعا، وحاضر نراه بعيون الماضي حنينا وشوقا. وهكذا يمنع الماضي عنا الصورة المركبة للحاضر والمستقبل.
لذلك يمكن اعتبار التفسير الثقافي جزءا من النظم الاختزالية: (استقراء قانون تفسير)، أما التفسير المركب الذي لا يهمل سلوك الناس وتفاعلهم مع الواقع وأسبابه الحاضرة بكل تعقيداتها، فهو الذي يصلح لواقعنا، وهو مغاير تماما.
مقولات يجب أن تنتهي
في كتابه تخيل ما لا يمكن تخيله لـ"جلاين مورجان"، الكاتب المتخصص في الأدب التخيلي، يشرح كيف اعتمد اليهود الذين نجوا من المحرقة سردية مفادها الصمت، حين قالوا إن ما حدث لليهود ليس كغيره، وسارعوا لبناء مخيلة كاملة عن المحرقة. لم يكن همهم التوثيق وبيان الحقائق بقدر ما كان القصد هو بناء الوعي والإدراك، وهكذا نجحت السردية الصهيونية حسب الكاتب.
أما نحن فنقول عن أنفسنا إن تاريخنا تاريخ دماء، وإن عقولنا ناقصة، وإننا أمة كلام لا تحسن العمل، وإن حكامنا صنيعة الاستعمار، وإن جيوشنا بلا قوة للمقاومة، وإن مجتمعاتنا لا تصلح للديمقراطية، وإن بيننا من هم أشد خطرا من الصهاينة… كل ذلك ونتمنى على الله الأماني أن نكون أمة قوية ولها وزن بين الأمم، كيف يستقيم هذا؟
إعلان
هنا إشكال حقيقي في تفسيرنا أو في بنائنا السردي. لقد استعاض اليهود عن الكذب بالخيال لصناعة سرديتهم، أما نحن فاستعضنا عن بناء سردية تجمعنا بمقولات اخترعناها من بغضنا لواقعنا.
هذه دعوة صادقة لإدراك خطورة الأفكار والسرديات، وأنها إن لم تكن خاطئة فإنها غير مفيدة، وأن الاستقراء لا يصلح لبناء خطاب سياسي، وأن كثيرا من النزاعات فيما بيننا بسبب تلك السرديات الخاطئة والمنتقاة؛ لأننا نفتقد لنموذج معرفي قادر على رؤية المستقبل لا تفسير الماضي.
فإن قلت لي: "من لا ماضي له لا حاضر له"، سأقول: إن من لا يرى المستقبل لن يستطيع قراءة شيء، لا الحاضر ولا الماضي. كيف ونحن أمة تؤمن بالقدر السابق، أي نؤمن بأن المستقبل هو الذي يصنع الحاضر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق