كتبت بديعة زيدان:
يحمل عنوان المجموعة القصصية الجديدة للروائي والقاص السعودي مقبول العلوي، "تدريبات شاقة على الاستغناء"، مفتاح فهمها بالكامل، فكل قصة فيها تمرينٌ قاسٍ ومؤلم على شكل من أشكال الفقد، التخلي عن الحب، عن الحقيقة، عن البهجة، عن الذاكرة، أو حتى عن الذات.
يبني العلوي عالماً سردياً محكماً، لا يكشف فيه عن مآسي شخصياته فحسب، بل يشرّح بمهارة أبنية مجتمع قائم على الأقنعة، حيث الحقيقة مدفونة في "ملفات سرية" والكرامة تُنتهك في غرف مغلقة.
تتنوع حكايات المجموعة الصادرة عن دار نوفل، دمغة الناشر هاشيت أنطوان، لكنها تجتمع تحت مظلة الخسارة والبحث عن معنى في عالم مشوّه، ففي القصة الافتتاحية "تقرير سري عن زينة"، ندخل إلى حارةٍ تحكمها السمعة والأسرار، حيث يذهب السارد إلى "يوسف مغناطيس"، دونجوان الحي الذي يحتفظ بأرشيف سري عن كل نساء الحارة، طالباً تقريراً عن الفتاة التي ينوي الزواج بها، لكن ما يبدو كقصة عن مجتمع ذكوري يتاجر بأعراض النساء، ينقلب في نهايته، بما يدلل على أن الخسارة ليست فقط خسارة الحب أو الثقة، لكنّها خسارة البراءة الأخلاقية، بحيث يُنزع القناع عن وجه آخر للنظام الذي يدّعي التمرد عليه.
في "الواقفون على عتبات البهجة"، يأخذنا العلوي إلى ذاكرة فصل دراسي شتوي، حيث يكسر أستاذ الرسم "مجيد" رتابة الحصة الأخيرة بعزف الموسيقى على آلة الكمان.. هذه اللحظة الساحرة من البهجة الخالصة، التي تحرر الطلاب من قيودهم، تصطدم بجدار الواقع المتمثل في مدير المدرسة الصارم، وتنتهي بنقل الأستاذ تأديبياً، ما يجعل منها مرثية للحظات الفرح العابرة التي تسحقها الأنظمة القمعية وتمريناً قاسياً على الاستغناء عن الفن والجمال.
وتبرز قصة "كلمات محذوفة من حديث قصير" كواحدة من أكثر القصص قسوة، حيث يكتشف العريس في ليلة زفافه أن عروسه ليست "ليلى" الجميلة التي خطبها، بل أختها الكبرى "ليال" الأقل جمالاً، واستُبدلت بها بقرار من الأب، هي قصة عن الخداع، وعن تحول الإنسان إلى مجرد "كلمات محذوفة" في حديث لا يخصه، واستغناء إجباري عن حلم وحياة بأكملها.
ويستمر العلوي في استكشاف ثيمة الاستغناء بأشكال متعددة في بقية قصص المجموعة، ففي "سردية قصيرة لوداع مبكر"، يقدم لنا العلوي قصة العم "زاهد"، المثقف البوهيمي عاشق القراءة والقهوة المحرمة، الذي يمثل نقيضاً للأب التاجر التقليدي، لكنّ موت العم المفاجئ بلدغة حية في الصحراء يمثل استغناءً مبكراً عن نموذج حياة بديل، حياة مكرسة للمعرفة والمتعة بعيداً عن صرامة التقاليد.
أما في "ديستوبيا القرى المعزولة"، يأخذنا العلوي إلى حكاية شبه أسطورية عن قرية يتغير اسمها وتاريخها بناءً على حادثة غريبة: صبي "مات" ثم عاد إلى الحياة بعد أن عطس حين نُثر التراب على وجهه، ومن ثم يتحول الصبي بعد موته الثاني إلى "ولي صالح"، وتُبنى على قبره زاوية، وتُسمى القرية باسمه، لكن بعد سنوات، تأتي "الطفرة المالية" لتغير كل شيء، فيُهدم المسجد والزاوية ويُنسى الولي الصالح، وهي قصة تمثّل حالة تأمل عميق في الذاكرة الهشة للمجتمعات، وكيف يمكن بناء الأساطير ثم الاستغناء عنها بسهولة أمام رياح الحداثة والتغيير.
وفي "صندوق جدي القديم"، نجد حكاية عن الكنز الحقيقي، فبعد موت الجد، يحتقر الورثة صندوقه الخشبي القديم وما فيه من "ملابس قديمة" وكتاب "ألف ليلة وليلة" الذي يرميه الأب باشمئزاز، لكن الحفيد (السارد) يأخذ الكتاب ليكتشف أنه نسخة أثرية نادرة لا تقدر بثمن.
يرفض الراوي كل العروض المادية لبيع الكتاب، مدركاً أن جده ترك له ثروة حقيقية من الخيال والمتعة، والقصة تمرين على الاستغناء عن المادة لصالح الروح، واحتفاء بقيمة الحكاية في عالم مهووس بالجشع.
وفي قصة "المؤتمر الأدبي"، نلمس نقداً ساخراً ومريراً للوسط الثقافي، عبر شخصية الصديق الثري محدود الموهبة الذي يشتري الشهرة والمديح بأمواله، ويسرق شهادة أدبية كاملة وينسبها لنفسه، بحيث تكشف عن زيف ادعاءات النخبة الثقافية، وتفضح آليات المجاملة، والنفاق التي تحكم هذا العالم.
أمّا قصة "تدريبات شاقة على الاستغناء"، التي تمنح المجموعة عنوانها، فهي نص محوري ومكثف يجسد بعمق الفكرة الأساسية للمجموعة: عملية الفقد والتخلي كطقس عبور إنساني مؤلم وضروري.
وتعتبر هذه القصة بمثابة القلب النابض للمجموعة، حيث لا تقدم حكاية عابرة، بل ترسم بدقة الصراع الداخلي لشاب يقف على حافة التحول من الطفولة إلى عالم الكبار المعقد، بكل ما يحمله من رغبة وخوف وإغواء.
تدور القصة حول مراهق يُرسله أهله إلى بيت جارتهم الجديدة، وهي أرملة غامضة وجميلة تثير فضول أهل القرية وشكوكهم.. في كل مرة يطرق بابها، تستقبله بابتسامة وعبارة دعوة ثابتة ومحيّرة: "ادخل يا حلو" .. هذه الدعوة البسيطة تفجر في داخله طوفاناً من المشاعر المتضاربة، إذ يشعر بالرعب والحرج والخجل، وفي الوقت نفسه، يشتعل داخله فضول ورغبة غامضة.
يصبح هذا التردد هو ساحة "التدريب الشاق" الذي يمارسه الشاب على "الاستغناء"، لكن الاستغناء عن ماذا؟ هنا يكمن عمق القصة.. إنه ليس استغناءً عن شيء مادي، إنّما عن حالة وجودية كاملة: حالة البراءة واليقين الطفولي.. يقول السارد عن نفسه: "ما زلت أمارس، وبإصرار غريب، تدريباتي الشاقة على الاستغناء. الاستغناء عن كل شيء، ومن أجل لا شيء" .. هذا الاعتراف يكشف أن عملية التخلي ليست هادفة أو عقلانية، بل هي انجراف وجودي نحو المجهول.
وبهذا، يمكن اعتبار قصة "تدريبات شاقة على الاستغناء"، القصة الأم التي تنبثق منها بقية حكايات المجموعة، فكل شخصيات العلوي، بطريقة أو بأخرى، يخوضون تدريباتهم القاسية الخاصة على التخلي عن شيء ما ثمين، ليجدوا أنفسهم في عالمٍ جديدٍ لم يكونوا يتوقعونه.
وما يمنح قصص مقبول العلوي عمقها ليس فقط حبكاتها المتقنة، لكن ما تخفيه بين سطورها من نقد اجتماعي وثقافي.
وتميز سرد مقبول العلوي بقدرته على التنويع في الأساليب والتقنيات، ما يجعل كل قصة تجربة فريدة، حيث استخدام تقنيات من قبيل: السارد الذي لا يمكن الوثوق به، والمحاكاة الأسلوبية، والتكثيف والتركيز على "اللحظة المفصلية"، حيث يبرع العلوي في بناء قصصه حول لحظة واحدة فارقة يتغير بعدها كل شيء، ما يمنح القصص قوة تأثير هائلة، علاوة على السرد اليومياتي: ما يخلق إحساساً قوياً بالواقعية والحميمية، ويجعل القارئ شريكاً في تتبع القلق المتصاعد للشخصية.
"تدريبات شاقة على الاستغناء" ليست مجرد مجموعة قصصية، لكنّها مشروع سردي متكامل، يقدم فيه مقبول العلوي رؤية ناضجة وقاتمة للطبيعة البشرية.. إنها قصص عن الخسارات الصغيرة والكبيرة التي تشكلنا، وعن عالم لم يعد فيه انتصار ممكن، وبقيت فيه فقط تمارين قاسية ومستمرة على فن التخلي.
0 تعليق