"لقد جددت هذه القاعة في البيت الأبيض من الألف إلى الياء، وهذه أول مرة أُريك إياها…" بهذه الكلمات استهل الرئيس الأميركي دونالد ترامب حديثه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد أن استقبله عند مدخل البيت الأبيض ودخلا معا إلى الداخل، حيث بدأت المحادثات التي جرت خلف الأبواب المغلقة.
وقد أشار ترامب إلى اللوحات المعلقة على الجدران، موضحا أنه أخرجها من المخزن، وسخر قائلا: "بايدن النائم تركها لتتعفن هناك"، ثم أشار إلى بورتريه قديم للرئيس الأميركي السابق أبراهام لينكولن.
أما الرئيس أردوغان، فقد أنصت إلى حديث ترامب المتحمس، طوال اللقاء، بهدوء وابتسامة خفيفة تعلو وجهه، كما اعتاد طوال المحادثات.
انتقل ترامب لاحقا إلى قاعة الاجتماع التي اجتمع فيها أعضاء الوفدين، فقدم أعضاء فريقه، ثم التفت إلى أعضاء الوفد التركي المرافق لأردوغان قائلا: "هؤلاء رجال أذكياء للغاية… ليتهم لم يكونوا بهذا الذكاء!".
هذه الكلمات المليئة بالمديح والإطراء، التي صدرت من ترامب منذ لحظة استقبال أردوغان، وحتى انتهاء الزيارة، لم تغب عن أنظار العالم.
ولم يقف الأمر عند ذلك؛ ففي اليوم التالي للزيارة، نشر البيت الأبيض فيديو يحمل طابعا سينمائيا فاخرا، أشبه بإنتاجات هوليود، يوثق الزيارة بكاملها.
التحضير للمحادثات
في الحقيقة، كان لقاء أردوغان وترامب في البيت الأبيض لقاء مؤجلا إلى حد ما؛ فزعيمٌ استقبل بكل هذه الحفاوة والثناء من قبل ترامب، كان من المتوقع أن يزور البيت الأبيض في وقت سابق.
لكن، ورغم اللقاءات المتعددة بين الزعيمين على هامش المؤتمرات الدولية، فإن الزيارة الرسمية تأخرت لعدم التوافق على موعد في الجداول الدبلوماسية. وربما كانت مواقف أردوغان المناهضة لإسرائيل سببا في هذا التأخير.
ما إن تحدد موعد الزيارة، حتى شرع الجانب التركي في إعداد ملفين بلونين مختلفين، وبدأ العمل المكثف عليهما.
إعلان
كان الملف الأول يتناول القضايا الثنائية المباشرة بين تركيا والولايات المتحدة، أما الملف الثاني فكان يتعلق بالقضايا الإقليمية التي تمس تركيا بشكل مباشر، ولا بد من طرحها، وأبرزها الملفان السوري والفلسطيني.
شارك في إعداد هذه الملفات والعمل عليها وزير الخارجية هاكان فيدان، ووزير الدفاع يشار غولَر، ووزير الطاقة ألب أرسلان بيرقدار، ورئيس جهاز الاستخبارات (MİT) إبراهيم قالن.
أما الوفد الأميركي، فقد كان على دراية كاملة بطلبات الجانب التركي، واستعد لتقديم ردوده على هذه المطالب.
مفاجأة المؤتمر الصحفي
بات لدى جميع رؤساء الدول الذين يزورون الولايات المتحدة هاجس مشترك يشبه ما يمكن تسميته بـ"متلازمة زيلينسكي".
فبسبب الأزمة الكبرى التي حدثت بين ترامب والرئيس الأوكراني زيلينسكي خلال مؤتمر صحفي في المكتب البيضاوي، أصبح القلق من تكرار مشهد مشابه حاضرا في ذهن كل وفد أجنبي.
وكانت تركيا بدورها تتساءل باستمرار: "هل يتكرر المشهد معنا؟"
فالرئيس أردوغان خصص جزءا كبيرا من كلمته في الأمم المتحدة لقضية فلسطين، موجها انتقادات لاذعة لإسرائيل، وقد لاقت هذه الكلمة صدى واسعا في الإعلام الأميركي. كما خرج في مقابلة على قناة "فوكس نيوز"، مؤكدا أن "حماس ليست منظمة إرهابية"، متحديا بذلك الخطاب الغربي.
أما تصريحاته بشأن عدم إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، فقد فهمت على أنها انتقاد مبطن لترامب نفسه، ما دفع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو للرد عليه بلهجة حادة.
في ظل هذا المناخ، كان هناك تخوف من أن يقوم الصحفيون الأميركيون الموالون لترامب، الذين اتصفوا بالعدوانية، بتكرار ما فعلوه مع زيلينسكي من خلال طرح أسئلة استفزازية. وبسبب هذه الاحتمالات، رأى الجانب التركي، أن من الأفضل إلغاء المؤتمر الصحفي.
لكن ترامب، الذي لا يفوت أي فرصة للظهور أمام الإعلام، أصر على عقد المؤتمر في المكتب البيضاوي. لحسن الحظ، لم يحدث ما كان يخشى منه. بل جاءت كلمات ترامب المليئة بالإطراء لأردوغان، لتمتص التوتر وتحوله إلى ابتسامات متبادلة.
الرجل الوحيد الذي لم يبتسم، كان وزير الخارجية ماركو روبيو.
ظل أردوغان طوال المؤتمر متزنا، لم يرد على الإطراءات أو اللمسات الجسدية التي أبدى بها ترامب حماسه، بل اكتفى بالابتسام فقط. ولو كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مكانه، لتحول المشهد إلى عرض استعراضي على الأرجح.
ومع غياب الأسئلة الاستفزازية من الصحفيين، انتهى القسم العلني من اللقاء دون مشاكل، لينتقل الوفدان إلى جلسة مغلقة أنجز فيها الكثير.
أما ترامب، فقد بدا سعيدا بحديثه أمام الإعلام، الذي عاد فيه لانتقاد الصحفيين وتمجيد نفسه كعادته.
وقد لوحظ أن الوزير روبيو كان شارد الذهن طوال المؤتمر.
ما الذي احتوته الملفات؟
أول المواضيع التي طرحها الوفد التركي كان موضوع العقوبات المفروضة من قبل واشنطن؛ بسبب شراء أنقرة منظومة الدفاع الجوي الروسية "إس-400″، وذلك بموجب قانون "كاتسا" (CAATSA).
هذه العقوبات التي فرضت في عهد إدارة بايدن أثرت سلبا على العلاقات التجارية بين البلدين، خصوصا في مجال الصناعات الدفاعية.
إعلان
وقد أوضح الجانب التركي أن واشنطن لم تطبق عقوبات مماثلة على أي دولة أخرى اشترت "إس-400″، مما يجعل فرضها على تركيا أمرا مجحفا.
ولأن العقوبات لا يمكن رفعها بمرسوم رئاسي، كان لا بد من تعديل تشريعي في مجلس الشيوخ.
وعند هذه النقطة، رمق نائب الرئيس جيه دي فانس الوفد التركي بنظرة فهم منها: "سنعمل على حل هذه المسألة"، وأكد عزمه على بذل كل جهد ممكن لرفع العقوبات.
أثير أيضا موضوع استبعاد تركيا من مشروع طائرات "إف-35" الجيل الخامس، وهو قرار اتخذ في عهد بايدن، وقد اعتبره الجانب التركي مجحفا بدوره. كما تم طرح قضية محاكمة بنك "خلق" التركي، باعتبارها غير عادلة.
وفي كلا الموضوعين، أبدى الجانب الأميركي استجابة إيجابية.
أما مسألة شراء الطائرات المدنية والغاز الطبيعي، والتي اعتبرتها بعض أوساط المعارضة التركية بمثابة تنازلات، فقد كانت في الواقع موضع ترحيب أميركي.
فتركيا، التي تحتاج إلى طائرات بوينغ جديدة لصالح شركة الخطوط الجوية التركية، كانت تسعى بالفعل منذ فترة لشرائها. كما أن تنويع مصادر الطاقة كان هدفا إستراتيجيا لأنقرة، في ظل الطلب المتزايد.
ولذلك، يصعب اعتبار الأمر تنازلا بالمفهوم السياسي التقليدي.
في سياق آخر، أشار ترامب إلى زيارة البطريرك المسكوني للروم الأرثوذكس بارثولوميوس له، وطلبه المساعدة من أردوغان لإعادة فتح المدرسة الإكليريكية الأرثوذكسية الواقعة في جزيرة "هيبلي أدا" بإسطنبول (والتي نسي ترامب اسمها أثناء حديثه). فرد أردوغان موضحا أن المدرسة خضعت للترميم بعد حريق طالها، ووعد بأنه سيتم اتخاذ ما يلزم بعد الانتهاء من الأعمال.
ويذكر أن هذه القضية، التي تروج لها اللوبيات الرومية واليونانية، لا تعد من القضايا الكبيرة، أو المعقدة بالنسبة لتركيا.
نقاش مطول حول غزة
بعد الانتهاء من الملفات الثنائية، فُتح ملف غزة، الذي اتضح منذ البداية أنه من أكثر المواضيع الحساسة، بالنظر إلى المواقف المتناقضة للجانبين.
فأعضاء الوفد الأميركي، باستثناء المبعوث الخاص "ويتكوف"، معروفون بتصريحاتهم المساندة لإسرائيل، وزياراتهم المتكررة لها، ومواقفهم المناهضة لفلسطين. أما الوفد التركي، فجميع أعضائه معروفون بدعمهم القوي لفلسطين، وانتقاداتهم الشديدة لإسرائيل.
وقد كانت أصداء كلمة أردوغان في الأمم المتحدة، التي عرض فيها صورا توثق المجازر الإسرائيلية، قد وصلت إلى جدران البيت الأبيض بالفعل. لذا، كان هذا الملف من أكثر القضايا حساسية بين الجانبين.
لكن، وفي ظل تنامي موجة الغضب العالمي ضد إسرائيل، والاحتجاجات التي طالت نتنياهو في الأمم المتحدة، والتصرفات المتغطرسة للقيادة الإسرائيلية، بدا أن الوفد الأميركي لم يعد قادرا على تبرير موقف إسرائيل.
وبحسب مصادر من البيت الأبيض، فإن بعض المسؤولين الأميركيين سربوا للصحافة انزعاجهم من تصرفات تل أبيب.
وقد أضيف إلى هذا كله استياء الزعماء المسلمين الذين التقوا ترامب، والذين عبروا بصراحة عن غضبهم مما يجري في غزة، ما دفع ترامب إلى القول: "يجب أن نضع حدا لهذا الأمر".
وعند هذه النقطة، بدأ ترامب بعرض خطة قال إنه يرغب في تنفيذها لحل الأزمة، وقد استمع لها الوفد التركي باهتمام شديد.
الخطة، التي سبق أن سربت نسخ متعددة منها إلى الإعلام، لم تكن تلبي مطالب إسرائيل وحركة حماس بشكل كامل، لكنها تضمنت بنودا من شأنها إرضاء الطرفين.
وقد أبدت تركيا دعمها للعديد من بنود الخطة، فيما اقترحت تعديلات على بعض منها.
ووعد ترامب بأنه سيقنع نتنياهو بهذه الخطة، أثناء لقائهما في البيت الأبيض [عقد بالفعل مع نشر هذا المقال].
وفي الختام، خرج الجانبان من المحادثات راضَيين، لكنْ كلٌ بطريقته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
إعلان
0 تعليق