علماء للجزيرة نت: استطعنا مراقبة المادة وهي تتحول للحالة الكمومية - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في قفزة علمية قد تعيد رسم حدود قدرتنا البشرية لما يمكن أن نراه وندرسه على مستوى الذرات، أعلن فريق بحثي من جامعة ميشيغان ومعهد رولاند بجامعة هارفارد عن تطوير حامِل عينات فائق البرودة لمجهر إلكتروني ناقل.

وقد نشر الباحثون نتائجهم في دراسة حديثة في دورية "بي إن إيه إس" العلمية، حيث أثبتوا قدرة حاملهم الجديد على الوصول إلى درجات حرارة تقارب 23 كلفن "كيه" (K) أي حوالي 254 درجة مئوية تحت الصفر، مع الحفاظ على استقرار حراري غير مسبوق لساعات متواصلة، ودقة ذرية في التصوير.

الباحث إسماعيل البكاري مستخدما أنبوب من الهيليوم السائل. حقوق الصورة: الفريق البحثي
الباحث إسماعيل البكاري مستخدما أنبوبا من الهليوم السائل (الفريق البحثي)

السلوك الكمومي

يقول روبرت هوفدن، أستاذ علوم وهندسة المواد بجامعة ميشيغان، وباحث مراسل في الدراسة، في تصريحات حصرية للجزيرة نت "أنا وإسماعيل فيزيائيان متخصصان في المواد (إسماعيل البكاري، باحث رئيسي في الفيزياء وعلوم المواد في معهد رولاند جامعة هارفارد، وباحث مراسل بالدراسة) ونتوق إلى مراقبة السلوك الكمومي عند درجات حرارة منخفضة باستخدام مجهر إلكتروني".

ويضيف "لقد شهد العلم ثورةً بعد القفزة الحديثة في دقة المجاهر، فالآن يُمكن رؤية الذرات بأي طول رابطة. ويمكن لأي شخص فهم البيانات، ويمكنك النظر إلى صور الذرات وكيفية ترتيبها".

ويضيف "بدلاً من الضوء المستخدم في المجهر العادي، نستخدم إلكترونات عالية الطاقة أصغر بكثير من الضوء".

وطول الرابطة هو المسافة بين ذرتين مرتبطتين ببعض في مادة، إن كان طول الرابطة صغيرا جدًا أو كبيرا نسبيًا، فيصعب تمييز الذرات بوضوح. ولكن مع دقة هذا المجهر الحديث، أصبح من الممكن رؤية كل الذرات بوضوح، ومعرفة ترتيبها وشكل المادة بالضبط عند التغلب على عائق "الضباب".

استطاع الباحثون لأول مرة رؤية القمم الفائقة في نمط الحيود الإلكتروني التي تشير إلى تشكل موجات كثافة الشحنة في درجات حرارة شديدة الانخفاض. حقوق الصورة: الفريق البحثي
الباحثون استطاعوا رؤية القمم الفائقة بنمط الحيود الإلكتروني التي تشير لتشكل موجات كثافة الشحنة في درجات حرارة شديدة الانخفاض (الفريق البحثي)

ضباب المجهر

منذ عقود، حلم العلماء بالقدرة على مشاهدة الذرات وهي "تتجمد" في مكانها عند درجات حرارة شديدة الانخفاض، حيث تتجلى الظواهر الكمومية الأكثر غرابة. واختاروا الهليوم السائل للاستخدام في المجاهر الإلكترونية لأنه أبرد سائل معروف، حيث تصل درجة غليانه إلى 269 درجة مئوية تحت الصفر.

إعلان

وتجعل البرودة الشديدة للهليوم السائل الذرات في العينة شبه ساكنة، مما يساعد على تقليل اهتزاز الذرات، فيسهل رؤية مواقعها بدقة ذرية، بالإضافة إلى القدرة على دراسة الظواهر الكمومية والتي لا تظهر إلا عند درجات الحرارة المنخفضة جدًا مثل الموصلية الفائقة وموجات الكثافة الشحنة، حيث يتحكم العلماء في الخصائص الكهربية للمواد.

كما يحمي الهليوم العينات الحساسة خصوصًا الجزيئات البيولوجية، حيث تقلل البرودة من أضرار الإشعاع الإلكتروني الضروري أثناء التصوير.

وتعتبر الموصلية الفائقة حالة فيزيائية فريدة، تفقد فيها بعض المواد مقاومتها تمامًا، فتمرر التيار الكهربائي بكفاءة مذهلة بلا أي فقد يُذكر للطاقة. أما موجات الكثافة الشحنة فهي أنماط متكررة تتجمع فيها الإلكترونات داخل المادة عند درجات حرارة معينة بشكل تشبه تموجات من مناطق مرتفعة ومنخفضة الكثافة، مما يغير خصائصها الكهربائية جذريًا ويمكّن العلماء من التحكم فيها.

لكن رغم مميزات الهليوم السائل، لطالما اصطدمت محاولات استخدامه في المجاهر الإلكترونية بعقبة الاستقرار، إذ يولّد تبخر الهليوم السريع اهتزازات وتشوهات حرارية تزيد من ضبابية الصورة النهائية وتشوهها، بما يجعلها غير صالحة لدراسة البنية الذرية، كأن تنطلق بسيارة وسط الضباب، فيتجمّع على الزجاج الأمامي ويمنعك من الرؤية.

ويقول البكاري، في تصريحات حصرية للجزيرة نت "يمكننا الآن رؤية الذرات وهي في حالة برودة فائقة بوضوح واستقرار غير مسبوق. ويمكننا أن نشاهد كيف تتغير الذرات في المواد عندما تصبح ساكنة تقريبًا، وهي الحالة المطلوبة للحواسيب الكمومية والجيل القادم من أشباه الموصلات".

" frameborder="0">

تصميم مبتكر

يقول هوفدن "لم تتمكن أي تقنية سابقة من توفير الاستقرار والتوافق مع المجاهر الإلكترونية الحديثة. فعند بدء الإغلاق بسبب جائحة كوفيد، تعاونت مع البكاري لدمج أفضل جوانب تصاميمنا. ومن خلال مساعدة مهندسات ميكانيكيات لامعات مثل إميلي رينيش ومايا غيتس، واصلنا تحسين التصميم حتى حصلنا على هذا الإنجاز".

وتصف الدراسة المنشورة التصميم الجديد كحامِل عينات جانبي يتميز بتدفق مستمر للهليوم السائل داخل مبادل حراري نحاسي دقيق، مع دمج نظام عزل اهتزازي يستخدم نوابض وكتلاً مطاطية لتقليل الاهتزازات إلى مستوى أصغر من نصف قطر الذرة الواحدة. وهذا الحل استغرق 3 سنوات من التصميم والتجارب قبل أن يثبت نجاحه.

ويُعد المبادل الحراري النحاسي جزءا معدنيا صُمم لنقل البرودة من الهليوم السائل المتدفق داخله إلى العينة الموضوعة في مسار حزمة الإلكترونات، ودوره أن يحافظ على العينة عند درجات حرارة منخفضة جدًا (تحت 25 كلفن) مع استقرار حراري دقيق، مستفيدًا من الموصلية الحرارية الممتازة للنحاس.

أما النوابض في نظام العزل الاهتزازي فهي تعمل كعناصر مرنة تمتص وتُخمِّد الاهتزازات القادمة من أنابيب الهليوم أو من البيئة المحيطة، بحيث تقل الحركة الميكانيكية التي تصل إلى العينة لمستوى متناهي الصغر، مما يضمن صورة مستقرة وواضحة على المستوى الذري.

ضرورة الاستقرار الحراري

يتطلب التصوير على المستوى الذري بقاء الذرات في أماكنها بدرجات حرارة شديدة الانخفاض لساعات طويلة أثناء جمع البيانات، وأي تغير في درجة الحرارة بمقدار أجزاء من الدرجة قد يتسبب في تمدد أو انكماش العينة وبالتالي تشوّه الصورة ما يجعل الهليوم السائل ضرورة حرجة ويرفع من قيمة الحامل المبتكر الجديد.

إعلان

ويقول البكاري "ما حققناه بمثابة علامة جديدة لاستقرار درجة الحرارة في المجهر الإلكتروني الحديث. وهذا أمر حاسم لأننا لا نريد أن تتحرك الذرات أثناء جمع البيانات، ونريد أن نراقب كيف تعيد الذرات ترتيب نفسها عند المرور بانتقال طوري دقيق. وتحدث هذه الانتقالات عند تغيرات طفيفة جدًا في الحرارة مثل ذوبان الجليد ضمن أقل من جزء من الدرجة".

ويضيف "الأمر يمثل إنجازًا كبيرًا لعلم الأحياء أيضًا. فالبيولوجيون مثل الزملاء في كامبريدج يقترحون أن هذه التقنية ستفتح مجالاً كاملاً لاكتشاف تراكيب بروتينية جديدة، مما قد يخلف آثارا هائلة على الطب".

لاختبار التقنية الجديدة، صوّر الفريق مادة طبقية معروفة بموجات كثافة الشحنة تحت 33 كلفن ورصدوا تحولها إلى موصل فائق تحت 7 كلفن. واستطاع الباحثون لأول مرة رؤية القمم الفائقة في نمط الحيود الإلكتروني التي تشير إلى تشكل موجات كثافة الشحنة، مما يؤكد فعالية الجهاز في دراسة هذه الظواهر الدقيقة.

واستطاع الباحثون لأول مرة رؤية القمم الفائقة في نمط الحيود الإلكتروني التي تشير إلى تشكل موجات كثافة الشحنة في درجات حرارة شديدة الانخفاض.

ويعلق هوفدن "سيُبنى مستقبل الحوسبة والذكاء الاصطناعي على مواد كمومية جديدة، ومعظم السلوكيات المذهلة تظهر عند درجات حرارة أقل من 50 كلفن (أي 223 درجة مئوية تحت الصفر). ولقد وجدنا أطوارًا جديدة بالكامل تعتمد على تغييرات هيكلية بمقياس البيكومتر (جزء من تريليون من المتر). وتخيل أن المادة يمكن أن تنتقل من عازل إلى موصل فائق بسبب تغير ضئيل كهذا في موقع الذرات. وقد تؤثر هذه التغيرات الصغيرة في التناظر على التكنولوجيا عالميًا".

ومن خلال تمكين العلماء من مشاهدة الذرات تلك التموضعات متناهية الصغر حيث تتحول الذرات إلى أطوار مختلفة عند درجات حرارة فائقة البرودة، فإن هذا العمل يمهد الطريق لاكتشافات جوهرية في المواد الكمومية، مثل تطوير حواسيب كمومية أكثر استقرارًا، بل ربما التوصل إلى تصميم أدوية جديدة بفضل الكشف عن تراكيب بروتينية لم نكن قادرين على رؤيتها من قبل.

ويذكرنا هذا التطور بأن ثورة رؤية الذرات التي بدأت قبل سنوات ما تزال في بدايتها، وأننا مقبلون على عصر يمكننا فيه سبر عالم الذرات، بل ومراقبة أدق حركتها في أكثر الظروف تطرفًا، وربما التحكم بها يومًا ما لخدمة تقنيات المستقبل. ويختتم البكاري "نتوقع إمكانية تفسير الكثير من الحالات الكمومية المربكة بصورة واحدة للذرات".

0 تعليق