أناشيد أفريقيا الوطنية.. حناجر الهوية والوحدة - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

النشيد الوطني أغنية وطنية تنتخبها الأمة لتمثيل تاريخها وتقاليدها وهويتها، بهدف تعزيز الوحدة والولاء بين أبنائها.

تُعزَفُ وتُغَنَّى هذه المقطوعات، التي غالبًا ما تكون كلماتها منتقاة بعناية بحيث تمثل تاريخ الأمة وإرثها، على غرار الترانيم أو المسيرات، وتُغنى في المناسبات العامة لإثارة الفخر والانتماء الوطني.

يُلزِمُ البروتوكول الدولي جميع المدنيين بالوقوف بانتباه، مع خلع الرجال قبعاتهم ووضع اليد اليمنى على القلب، "مع اختلاف العادات باختلاف البلد وسياق الحدث".

في الفعاليات الدولية، عادةً ما يُعزف نشيد الدولة المضيفة أخيرًا، بعد نشيد الدولة الزائرة، ويُعدُّ إظهار الاحترام للنشيد أمرًا بالغ الأهمية، ويُعتَبرُ أي شكل من أشكال عدم الاحترام، مثل غنائه بطريقة مشوهة أو مهينة، انتهاكا.

هوية تُترجم حب الوطن ورسالته للعالم

النشيد الوطني يمثل أحد أبرز الرموز السيادية للدول، باعتباره معبرًا عن تاريخها وقيمها وهويتها الوطنية.

فهو مقطوعة موسيقية مصحوبة بكلمات تحمل معاني الانتماء والفخر، ويُعتمد رسميًا ليردد في المناسبات الوطنية والدبلوماسية والرياضية والتعليمية، ليظل حاضرًا في وجدان الشعب.

ويتميز النشيد الوطني بخصائص عدة، أهمها رمزيته العميقة التي تجسد إنجازات الدولة، وأداؤه الرسمي الذي يضفي عليه الوقار، فضلا عن ألحانه المؤثرة السهلة الحفظ وكلماته المشبعة بالعاطفة الوطنية من حب وفداء.

وتتنوع الأناشيد الوطنية من بلد لآخر تبعًا لعوامل تاريخية وثقافية، فبعضها وُلد في أجواء الثورات والحروب فجاء قويًا وحماسيًا، بينما يعكس بعضها الآخر روح الهدوء أو الطابع التقليدي للشعوب.

كما تؤثر اللغة الرسمية والثقافة المحلية في صياغة الكلمات، فيما يمنح الطابع الموسيقي، سواء الشعبي أو الكلاسيكي، هوية مميزة لكل نشيد.

" frameborder="0">

الأناشيد الوطنية الأفريقية

وفي القارة الأفريقية تبرز تلك الفروقات بشكل لافت، فبعض الدول مثل تشاد ومدغشقر والكونغو استعانت بالخطاب الديني في أناشيدها، حيث صيغت الكلمات على يد طلاب مدارس يسوعية أو رجال دين مسيحيين. في المقابل، اختارت دول أخرى مثل بوركينا فاسو لغة الثورة والحرية للتعبير عن تطلعاتها الوطنية.

إعلان

وتزداد ملامح هذا التنوع وضوحًا عند مقارنة الأناشيد الأفريقية مع العالمية، فالنشيد الفرنسي "لا مارسييز" على سبيل المثال، يفيض بروح الثورة والحماسة، فيما يتسم النشيد الياباني "كيميغايو" بالهدوء والاختصار.

بهذا التنوع، تظل الأناشيد الوطنية أكثر من مجرد ألحان تُعزف في المناسبات الرسمية، إنها مرايا تعكس مسيرة الشعوب وتجاربها، وتلخّص في سطور قصيرة مشاعر الانتماء والهوية.

حركات التحرر الأفريقية.. من الاستعمار إلى الاستقلال

لم تكن حركات التحرر في أفريقيا نتاج لحظة عابرة، بل جاءت نتيجة تراكم قرون من القمع والاستغلال الاستعماري الذي كرّسه مؤتمر برلين عام 1884-1885 بتقسيم القارة على القوى الأوروبية. فرض المستعمرون أنظمة اقتصادية وسياسية تخدم مصالحهم، مما أجج الغضب الشعبي ورسّخ التمييز والعزلة.

شكّلت الحرب العالمية الثانية نقطة تحول محورية، إذ أضعفت القوى الاستعمارية وكشفت تناقضاتها، وخصوصًا مع عودة الجنود الأفارقة الذين قاتلوا تحت شعارات الحرية ليجدوا أوطانهم ما زالت تحت الاحتلال. وقد تعزز هذا التحول بإعلان الأمم المتحدة عام 1960 الذي اعتبر الاستعمار انتهاكًا صريحًا لحقوق الإنسان وأقرّ بحق الشعوب في تقرير مصيرها.

في هذا المناخ، ومع صعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، انطلقت حركات التحرر الوطني في أفريقيا بأساليب متباينة بين المقاومة السلمية والكفاح المسلح.

لم تكن هذه الحركات ردود فعل عفوية فحسب، بل مثلت ظواهر سياسية واجتماعية معقدة استلهمت من أيديولوجيات عالمية وتكيفت مع السياقات المحلية حتى نجحت في كسر الهيمنة الأوروبية.

ومنذ منتصف القرن الـ20، رافقت الأناشيد الوطنية مسيرة التحرر، لتتحول من أدوات استعمارية إلى رموز للحرية والهوية والوحدة القارية، مُعلنةً بداية عهد جديد من الاستقلال لشعوب أفريقيا.

South Africa's new President Nelson Mandela (R) stands at attention as the national anthem is played during his inauguration at the Union Building in Pretoria 10 May 1994. Pictured on his right, new Vice-President Thabo Mbeki. AFP PHOTO WALTER DHLADHLA (Photo by WALTER DHLADHLA / AFP) (Photo by WALTER DHLADHLA/AFP via Getty Images)
رئيس جنوب أفريقيا الجديد نيلسون مانديلا (يمين) يقف منتصبًا أثناء عزف النشيد الوطني خلال حفل تنصيبه في مبنى الاتحاد في بريتوريا في 10 مايو/أيار 1994 على يمينه نائب الرئيس الجديد ثابو مبيكي (الفرنسية)

الأناشيد الوطنية في أفريقيا.. من رموز الاستعمار إلى صوت التحرر والوحدة

لم تكن الأناشيد الوطنية في أفريقيا مجرد مقاطع موسيقية تُردد في المناسبات الرسمية، بل مثّلت مرآة للتحولات الكبرى التي عرفتها القارة بين الحقبة الاستعمارية ومراحل التحرر والوحدة.

خلال السيطرة الاستعمارية، فرضت بريطانيا نشيدها القومي "حفظ الله الملك/الملكة" على مستعمراتها الأفريقية مثل نيجيريا وغانا وكينيا وأوغندا وجنوب أفريقيا.

ومع موجة الاستقلال، سارعت هذه الدول إلى استبداله بأناشيد وطنية تعبّر عن السيادة والهوية الجديدة، في حين ظلت روديسيا (زيمبابوي) حاليًا متمسكة به حتى عام 1970، في تجسيد لثقل الإرث الاستعماري.

تجربة ما بعد الاستقلال أفرزت نماذج لافتة، فتنزانيا اعتمدت نشيد (يا رب بارك أفريقيا) بعد اتحاد تنغانيقا وزنجبار، ليصبح لاحقًا مصدر إلهام لزيمبابوي وزامبيا وجنوب أفريقيا.

أما اتحاد السنغال وغامبيا "سنغامبيا" فقد اختار في الثمانينيات نشيدا موحدا يعكس طموح الوحدة، وإن كان المشروع السياسي نفسه لم يدم طويلا.

موسيقيا، استلهمت من الألحان العسكرية والكنسية الأوروبية، لكنها أضفت عليها نكهة أفريقية محلية واضحة. أما على مستوى اللغة، فقد شكلت خيارًا سياسيًا وثقافيًا، حيث تبنت بعض الدول الإنجليزية أو الفرنسية، بينما آثرت أخرى السواحيلية أو لغات محلية لتعزيز هويتها الوطنية.

إعلان

ويبقى نشيد "نيكوسي سيكليل أفريكا" الأبرز بين هذه التجارب، بعدما تحوّل إلى رمز قاري للتحرر، وأصبح جزءًا من نشيد جنوب أفريقيا الحالي، مجسِّدًا رحلة القارة من صوت الاستعمار إلى صوت الوحدة.

أناشيد من كلمات القادة الأفارقة

في التاريخ السياسي والثقافي لأفريقيا لم يكن القادة مجرد حكام يوجّهون دفة السلطة، بل تحوّل بعضهم إلى أصوات شعرية نسجت وجدان الشعوب عبر الأناشيد الوطنية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك السنغال وبوركينا فاسو، حيث ارتبط النشيد الوطني مباشرة بزعيم البلاد.

ففي السنغال، كتب الرئيس الأديب والشاعر ليوبولد سيدار سنغور النشيد الوطني لبلاده والذي ما زال يتردّد صداه اليوم. لحّنه الموسيقي هيربرت بيبر بينما جاءت كلماته محملة بالرموز الأفريقية العميقة حيث استدعى سنغور تراث القارة الأفريقية بآلاتها التقليدية وصورها المعبّرة، ليجعل من النشيد مرآة للهوية، وصوتًا يحفّز على الوحدة والنهوض:

انقروا جميعًا على آلة الكورا

دقّوا على البلافون

فقد زأر الأسد الأحمر

أيها السنغاليون .. انهضوا

" frameborder="0">

أما في بوركينا فاسو، فقد حمل النشيد الوطني عنوانًا شاعريًا "لي ديتالي" أو "ليلة واحدة، وهو من تأليف الرئيس توماس سانكارا. جرى اعتماده عام 1984، إبان تغيير اسم البلاد من فولتا العليا إلى بوركينا فاسو، وجاءت كلماته كوثيقة شعرية مختصرة تحكي مسيرة شعب بأكمله:

وجمعت ليلة واحدة في داخلها تاريخ شعب بأكمله

نحو أفق السعادة ..

ليلة واحدة صدّقت شعبنا مع جميع شعوب العالم

بين صوت سنغور الذي مزج بين الأدب والسياسة، وسانكارا الذي جعل من الثورة قصيدة وطنية، يتضح أن النشيد الوطني في أفريقيا لم يكن مجرد لحن رسمي، بل كان فعلًا سياسيًا ثقافيًا بامتياز، يعكس رؤية القادة لشعوبهم وأحلامها في الحرية والكرامة.

 قيم الوحدة والحرية في أفريقيا

تشكل الأناشيد الوطنية في أفريقيا مرآة لهوية الشعوب وتجسيدا لقيمها الكبرى. ففي جنوب أفريقيا، اعتمد الدستور في أبريل/نيسان 1994 نشيدًا هجينًا يجمع بين مقطعين من نشيدين سابقين، ويُغنّى بـ5 لغات رسمية كرمز للمصالحة والوحدة بعد الفصل العنصري، مع بروتوكول خاص يفرض الاحترام عند أدائه.

أما النشيد الكيني فيرفع دعاءً إلى الله ليمنح البلاد العدل والوحدة والسلام والرخاء، في حين يمجد نشيد الكاميرون تضحيات الآباء المؤسسين الذين صنعوا تاريخ الوطن بدمائهم وعرقهم.

وفي النيجر، تم اعتماد نشيد جديد عام 2023 بعنوان "شرف الوطن"، يشدد على الشجاعة والمثابرة والوحدة، ليكون رمزا للكرامة الوطنية. بينما يعكس النشيد النيجيري، الذي كتب عام 1978 عبر مسابقة وطنية، قيم الوطنية والتنوع الثقافي والوحدة، منهيًا ارتباط البلاد بالماضي الاستعماري.

تتقاطع هذه الأناشيد جميعًا عند رسالة مشتركة وهي الدعوة إلى الوحدة والحرية والتضحية في سبيل الوطن.

وهكذا تعكس الأناشيد الوطنية في أفريقيا مسيرة قارة بأكملها، من زمن الاستعمار إلى استقلالها الثقافي والسياسي، ولا تزال إلى اليوم حاضرة في الفعاليات والمناسبات، شاهدة على تحولات تاريخية كبرى.

0 تعليق