د. عبدالعظيم حنفي*
لاحظ (ج.ر.هيكس)، أحد عظماء الاقتصاديين البريطانيين، أن السيولة المتوافرة في أسواق رأس المال في إنجلترا، في القرن الثامن عشر، ساعدت على انطلاق الابتكار، الذي اقترن بالثورة الصناعية، وذلك بتوفيرها التمويل للاستثمار في المعدات والتجهيزات الرأسمالية طويلة الأجل غير السائلة بطبيعتها. كذلك أكد جوزيف شومبيتر في مرحلة مبكرة من حياته المهنية المتميزة أهمية البنوك في تمويل رياديي الأعمال والأعمال القائمة، مما يؤدي الى دفع الابتكار التكنولوجي، وبالتالي النمو الاقتصادي.
في ظل اهتمام الاقتصاديين المتزايد، في السنوات الأخيرة، بمصادر النمو، ظهر إجماع متزايد على أن النمو الاقتصادي يعتمد بدرجة ما على الأقل على نضج الأنظمة المالية في الاقتصادات ومدى كفاءتها. إن الدور المحوري للأنظمة المالية – الوسطاء الماليون وأسواق رأس المال – هو في نهاية المطاف توجيه أرصدة من لديهم فائض في الأرصدة (المدخرون)، الى من يعتقد أن باستطاعتهم تحقيق أعلى عائد على تلك الأرصدة (المستثمرون). ومع نمو حجم البنوك والوسطاء الماليين الآخرين (شركات التأمين وصناديق المعاشات) وزيادة تطورهم، تزداد كفاءتهم في أداء هذه الوظيفة المحورية. وكلما زادت الكفاءة، زادت مخاطرة المدخرين، وهو ما ينبغي أن يدفع الى المزيد من الاستثمار. في عبارة مختصرة: «الممولون هم القناة التي تتحول من خلالها الابتكارات من مجرد أفكار الى مصدر للنمو الاقتصادي».
إن ما يجعل الأنظمة المالية اقتصادات ريادة الأعمال فريدة، هو كونها أكثر ميلاً لتمويل المؤسسات الجديدة المجازفة من مثيلاتها المصطبغة بأشكال الرأسمالية الأخرى. تعد ملكية البنوك الوطنية – أو على الأقل القدرة على التأثير في عمليات الإقراض التي تقوم بها – من الوسائل الرئيسية التي تستخدمها الحكومات في توجيه اقتصاداتها. تلك الممارسة تفضل لا محالة، المشاريع ذات الحظوة لدى الدولة على حساب الأعمال الجديدة والأصغر، حتى وإن كانت تلك الفئة الأخيرة تحمل في طياتها ابتكاراً واعداً. ولا يختلف سلوك البنوك في المجتمعات الرأسمالية البيروقراطية كثيراً عن هذا التوجه، حيث تحتفظ البنوك في اليابان وأوروبا الغربية إذ تمارس، ربما، رأسمالية الشركات الكبيرة على أفضل ما يكون- بروابط وثيقة مع الشركات المقترضة، من خلال الملكية أو مناصب الإدارة (أو كليهما)، فالواقع أن «البنوك» الرئيسية كانت منذ فترة طويلة من المساهمين في العديد من الشركات اليابانية الرائدة.
وعلى النقيض من ذلك نجد النظام المالي للولايات المتحدة- ومنذ فترة طويلة – غير مركزي وأكثر «ديمقراطية»، فبعد إعجاب قصير بالبنوك الفيدرالية الملكية في العقود الأولى من تاريخ الولايات المتحدة، تخلت البلاد عن فكرة ملكية الدولة للبنوك بكل صورها، وتبنت الاتجاه المعاكس، فسمحت بانتشار العديد من البنوك الصغيرة، والتي لم يكن يسمح لها خلال معظم القرنين التاسع عشر والعشرين بالتوسع خارج حدود الولاية. كذلك تطورت أسواق الأوراق المالية في الولايات المتحدة تدريجياً، بعد نشأة الدولة، لتتبوأ الأهمية القصوى بعد الحرب العالمية الثانية الى درجة أصبحت معها أسواق الأسهم والسندات الأمريكية اليوم هي المصدر الأساسي لرأس المال الجديد المتاح للمؤسسات الموجودة بالفعل والجديدة على حد سواء.
والواقع أن النظام المالي للولايات المتحدة تطور على نحو لا يزال يؤكد مقولة (ج.ر.هيكس)، حول أهمية راس المال في تمويل الابتكار، فقد ظلت البنوك هي المصدر الأساسي لتمويل المشاريع الجديدة، ولكن بصفتها جهة إقراض فقط. وكان باستطاعة الشركات الجديدة، عندما تصل الى حجم معين، أن تطرح أسهمها الخاصة في البورصات الأمريكية – للاكتتاب العام- ولكن أسواق الأسهم لم تكن توفر ما يسمى بتمويل المرحلة المبكرة، الذي يساعد الشركات الجديدة على بدء النشاط، لذلك كان على ريادي الأعمال أن يتوافر لديهم بعض المال قبل بدء النشاط، أو الحصول على أرصدة الأسرة والأصدقاء، ولا يزال هذا هو حال رياديي الأعمال المقلدين، وكذلك الشركات المجددة في مراحلها الأولي.
وما جعل النظام المالي للولايات المتحدة مشجعاً على إفراز ريادية أعمال مجددة، هو أنه طور مؤسسات تولت تمويل نمو المشاريع الجديدة. وربما يكون أشهر تلك المؤسسات «صندوق رأس المال المخاطر»، والذي أنشئ بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنه لم يزدهر إلا في أواسط السبعينيات من القرن العشرين، عندما سمح الكونجرس لصناديق المعاشات والعديد من المنظمات غير الربحية (بما فيها الجامعات والمؤسسات) باستثمار نسبة محدودة (تصل الى 5%) من أصولها في هذا النوع من الصناديق. لعبت تلك الصناديق دوراً شديد الأهمية في إطلاق العديد من مؤسسات التكنولوجيا العالية الأمريكية، من بينها: إنتل، وصن، وأمازون، وجوجل.
على أن صناديق رأس المال المخاطر لا يمكن أن تقوم لها قائمة، دون وجود بورصة نشطة، لأن طرح الأسهم للاكتتاب العام كان – بشكل تقليدي - سبيل الرأسمالي المخاطر لتسييل استثماراته الأصلية، وبالتالي تعويض المستثمرين عن المخاطر العالية المقترنة ببدء نشاط مبتكر.
ومع انتشار تجربة الولايات المتحدة مع صناديق رأس المال المخاطر والاستثمار التمويلي في بقاع أخرى من العالم، ينتظر أن تشهد بلدان أخرى زيادة في عدد المؤسسات المبتكرة ونموها.
* كاتب مصري وأستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية
[email protected]
0 تعليق