روما- لم تعد قضية غزة مجرد خبر يمرّ في نشرات المساء بإيطاليا، بل حوَّلت المشهد السياسي والاجتماعي، حيث يتقاطع الشارع المنتفض مع دهاليز الحكم المتوجّسة إلى ضفّتين متقابلتين، تقف قوى سياسية ونقابية إلى جانب الفلسطينيين، في حين تتمترس الحكومة خلف خطاب داعم لإسرائيل تحت ضغط التحالفات الدولية.
في مدن روما وميلانو وتورينو ونابولي وجنو، يتسع حراك جماهيري يرفع صوت فلسطين عاليا، في حين تسعى السلطة إلى كبح هذا المدّ عبر قوانين وتشديدات أمنية، وهكذا تشتعل الساحة الإيطالية بين موجات التضامن الشعبي ومحاولات الاحتواء الحكومي.
ما هو الوضع السياسي والاجتماعي الحالي في إيطاليا تجاه قضية غزة وأسطول الصمود؟
تشهد الساحة السياسية الإيطالية جدلا متزايدا حول ما يحدث في غزة، خاصة مع انطلاق أسطول الصمود العالمي نحو الأراضي الفلسطينية من ميناء كاتانيا بداية سبتمبر/أيلول الماضي، ثم تزايد النقاش وتعبئة الرأي العام أكثر منذ ليلة 1 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بعد اعتراض الجيش الإسرائيلي قوارب الأسطول المتجهة إلى غزة لفك الحصار عنها.
أضحت غزة وأسطول الصمود في طليعة المشهد السياسي والاجتماعي بإيطاليا، بعد احتجاز القوات الإسرائيلية لـ40 مشاركا إيطاليا من أصل حوالي 530 متضامنا من 44 دولة، و اتسعت خريطة الاحتجاجات والإضرابات نحو المدن الصغيرة أيضا، بعدما كان الأمر مقتصرا على المدن الكبرى بعشرات الآلاف من المحتجين.
وأصبح تحرّك الشارع شبه موحّد تنظيميا خاصة على مستوى الإضراب العام ليوم 3 أكتوبر/تشرين الأول، الذي دعت إليه النقابات الصغيرة والكبيرة معا، بعكس آخر إضراب عام في 22 سبتمبر/أيلول الماضي والذي كانت وراءه نقابات قاعدية مثل "يو إس بي" و"كوباس" و"يونيكوباس".
وتخلَّفت حينها عن الموعد "تشي جي إل"، أكبر نقابة في البلاد (لكنها خاضت إضرابا جزئيا قصيرا يوم 19 سبتمبر/أيلول المنصرم)، لتتدارك الموقف هذه المرة في "جمعة الغضب"، حيث خرج إيطاليون من اليسار واليمين معا من أجل فلسطين، والضغط على حكومة جورجا ميلوني لتحرير الإيطاليين المشاركين في أسطول الصمود المحتجزين لدى إسرائيل، إضافة إلى مطالب عمالية فئوية موازية.
إعلان
عندما انطلق الأسطول من موانئ جزيرة صقلية، وصفت رئيسة الوزراء ميلوني المبادرة بأنها "غير مسؤولة"، مؤكدة أن المخاطر والرمزية السياسية تطغى على التأثير الحقيقي، في حين طالبت المعارضة (الحزب الديمقراطي، حركة 5 نجوم، واليسار الخضر) بضمانات لحماية الإيطاليين المشاركين، منتقدة الحكومة لغياب الوضوح.
" frameborder="0">
لكن بعد مهاجمة طائرات مسيّرة لمراكب الأسطول ليلة 23/24 سبتمبر/أيلول الماضي قرب جزيرة كريت في عرض البحر المتوسط، غيّرت الحكومة الإيطالية من لهجتها مع ضغط الشارع، وأدانت العملية وأعربت عن قلقها بشأن سلامة الناشطين الإيطاليين.
كان للنواب البرلمانيين من أحزاب المعارضة المشاركين في الأسطول دور كبير في التنسيق مع زملائهم في قصر "مونتيشيتوريو" روما، الذين ضغطوا على التحالف الحكومي اليميني الحاكم، حينما احتلوا قاعة البرلمان بشكل رمزي قصير، مما ترتّب عنه تقديم وزير الدفاع غويدو كروزيتو تقريرا حول سلامة المواطنين الإيطاليين المشاركين في الأسطول.
وسارع كروزيتو حينها إلى إعلان تدخل فوري للفرقاطة متعددة المهام "فاسان" التابعة للبحرية الإيطالية، كما كثفت الدبلوماسية الإيطالية عملها لمتابعة وضع المشاركين الإيطاليين سواء عبر وزارة الخارجية في روما من خلال خلية أزمة، أو عبر تمثيليتها في إسرائيل.

ما هي أبرز المدن الإيطالية التي تشهد احتجاجات ومسيرات مؤيدة للفلسطينيين ولماذا؟
روما، وميلانو، وبولونيا، وتورينو، ونابولي، وجنوة وبارما من أبرز المدن التي شهدت احتجاجات مساندة لفلسطين على مدى حوالي سنتين منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
هذه المدن تتميز بوجود قوي للحركات الاجتماعية والنقابات والناشطين في التضامن الدولي، مما يفسر تركيز التحركات فيها، كما تعكس هذه الاحتجاجات تقليدا طويل الأمد من النشاط المدني والاهتمام بالقضايا الدولية.
من هم الفاعلون الرئيسيون في السياسة الإيطالية الذين يظهرون دعمهم للفلسطينيين ومن يدعم إسرائيل؟
في المشهد السياسي الإيطالي، يبرز انقسام واضح تجاه غزة وأسطول الصمود، فأحزاب المعارضة مثل الحزب الديمقراطي بقيادة إلي شلاين، وحركة 5 نجوم بزعامة جوزيبي كونتي، إضافة لتحالف الخضر واليسار، رفعوا الصوت عاليا ضد الحكومة، مطالبين بوقف بيع السلاح لإسرائيل والاعتراف بفلسطين، واصفين صمت روما بأنه "تواطؤ".
في المقابل، تصطف الحكومة بقيادة جورجا ميلوني، ووزير خارجيتها أنطونيو تاجاني خلف خطاب "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، مع الإقرار في الوقت نفسه بوجود انتهاكات من الجانب الإسرائيلي.
هذا الانقسام يعكس صراعا بين ضمير الشارع والسلطة، كما هناك قراءة أخرى موازية تتعلق بالاستقطاب الجماهيري والتعبئة للانتخابات القادمة، الذي يتقاسمه أيضا الكاتب والمحلل السياسي القريب من اليسار، توفيق يونس، بقوله للجزيرة نت "إنها فرصة للاستقطاب الجماهيري وللتعبئة الانتخابية بين اليمين واليسار من كلا الجانبين، خاصة وأن إيطاليا ستكون على موعد مع الانتخابات التشريعية في القريب".

لماذا تتخذ الحكومة الإيطالية إجراءات لاحتواء أو عرقلة الفعاليات المؤيدة للفلسطينيين؟ وما هي الوسائل القانونية والإدارية المستخدمة؟
تعتمد الحكومة الإيطالية إجراءات لاحتواء أو عرقلة المبادرات المؤيدة للفلسطينيين لسببين رئيسيين: الحفاظ على التوازن الدبلوماسي مع إسرائيل والولايات المتحدة، ومنع خروج التظاهرات عن السيطرة وتحولها إلى اضطرابات داخلية، إذ تخشى روما أن تؤدي مبادرات مثل أساطيل كسر الحصار على غزة إلى توتر دبلوماسي أو مخاطر أمنية.
إعلان
وتشمل الأدوات المستخدمة: "مرسوم الأمن" الذي يمنح الشرطة صلاحيات أوسع ويشدد العقوبات على إغلاق الطرق أو الاعتصامات، إضافة إلى صلاحيات المحافظين في حظر أو تقييد المسيرات بذريعة "النظام العام"، إلى جانب تعزيز الحماية القانونية لقوات الأمن.
كيف أثَّرت التعبئة الشعبية على الرأي العام والسياسة الداخلية الإيطالية؟
يؤثر الحشد الشعبي بشكل مستمر في إيطاليا على الرأي العام والسياسة الداخلية، خاصة فيما يتعلق بقضية غزة، ففي 3 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، شارك عشرات الآلاف من الإيطاليين في إضراب عام تضامنا مع أسطول الصمود العالمي المتجه إلى غزة، وشملت المظاهرات أكثر من 100 مدينة.
وقبلها، كان الشارع قد صعّد من لهجته الاحتجاجية بالدعوة للنزول إلى بعض المطارات واعتراض السكك الحديدية والطرقات وإعلان إضرابات عامة مفاجئة، خاصة بعد الهجوم الذي قامت به الطائرات المسيّرة تجاه أسطول الصمود في المياه الدولية للبحر المتوسط.
وكانت رئيسة الحكومة ميلوني، قد أدانت حينها التصرفات الإسرائيلية في غزة، مؤكدة تجاوزها لمعايير القانون الدولي. وفي خطابها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25 سبتمبر/أيلول الماضي، صرَّحت ميلوني بأن "إسرائيل قد تجاوزت الحد" في ردها على الهجمات، مشيرة إلى أن "الرد الإسرائيلي في غزة أصبح غير مبرر وأدى لقتل العديد من المدنيين الأبرياء".
أسطول الحرية: انطلاق 10 سفن من أحد موانئ #إيطاليا من بينها سفينة تحمل أطباء وصحفيين بهدف كسر الحصار عن غـ ـزة#الجزيرة_مباشر pic.twitter.com/XZTIuFBuPM
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) October 2, 2025
وتعليقا على تصريح ميلوني المفاجئ، يقول المحلل السياسي يونس توفيق "الأمر لم يكن معتادا في حكومة اليمين الإيطالي حليفة إسرائيل، وهو ما يعني أن القضية في العمق لا يمكن الاختلاف حول إنسانيتها، ولا يمكن تجاهلها، لكن في الوقت نفسه فاليمين بدأ ينتبه إلى أن اليسار يسحب البساط من تحت أقدامه".
وظلت أحزاب المعارضة على تواصل كبير في التجمعات الحزبية الجماهيرية مع مشاركين في أسطول الصمود، عبر تقنية البث مباشر من عرض البحر المتوسط، وكذلك عبر مساهمات شبيهتها وطلبتها في الاحتجاجات الشعبية وعديد من الفعاليات المساندة لغزة آخرها الإضراب العام لليوم الجمعة.
تشير استطلاعات الرأي إلى دعم واسع من الشعب الإيطالي للقضية الفلسطينية، إذ أظهرت نتائج، آخرها بث في برنامج "لاريا كي تيرا" بقناة الـ7، أن 87.7% من الإيطاليين يؤيدون الاعتراف بالدولة الفلسطينية، مما يبرز فجوة بين المواقف الشعبية والسياسات الرسمية.
0 تعليق