لماذا ترفض الدول استعادة رعاياها من سوريا؟ - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

رغم التحذيرات المتكررة والدعوات المستمرة من الولايات المتحدة، لا تزال معظم الدول تتجنب استعادة رعاياها المحتجزين في المخيمات والسجون التي تديرها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) شمال شرقي سوريا، حيث يعيش آلاف الرجال والنساء والأطفال في ظروف احتجاز قاسية.

وفي محاولة لتحريك الجمود، جدد قائد القيادة المركزية الأميركية (سينتكوم)، الجنرال براد كوبر، دعوته للدول المعنية بضرورة تحمّل مسؤولياتها، مطالبا، خلال مؤتمر عُقد في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، بتسريع عملية إعادة المحتجزين والنازحين، كاشفا عن خطة أميركية لإنشاء "خلية إعادة مشتركة" لتنسيق الجهود على الأرض.

يثير التردد الدولي تساؤلات جوهرية حول الدوافع الكامنة وراء الرفض أو التباطؤ، وما إذا كانت المخاوف الأمنية وحدها تفسّر هذا الموقف، أم أن هناك اعتبارات سياسية وأعباء قانونية وإنسانية تحول دون اتخاذ قرار الإعادة؟

Syrian Democratic Forces clash with IS militants after prison break
عنصر من قسد يوجه سلاحه خارج أحد السجون أثناء اشتباكه مع مسلحي تنظيم الدولة في الحسكة (رويترز)

أعداد المحتجزين وتقديرات متفاوتة

رغم انحسار سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية ميدانيا في سوريا، لا تزال المخيمات والسجون التي تحتجز عناصر التنظيم وعائلاتهم تمثل تحديا أمنيا وإنسانيا بالغ الخطورة في مناطق سيطرة قوات قسد.

وتشير التقارير إلى أن هذه المواقع تحولت إلى بؤر محتملة لإعادة إحياء فكر التنظيم، وسط بطء في وتيرة إعادة التوطين الدولية، وتزايد مؤشرات التوتر والانفلات الأمني، خصوصا في مخيم الهول الذي بات يُعرف دوليا بـ"أخطر مخيم في العالم".

ويضم مخيم الهول أكثر من 50 ألف شخص، من بينهم أكثر من 30 ألف طفل وامرأة من جنسيات سورية، وعراقية، وأجنبية تشمل أوروبا، وآسيا، وشمال أفريقيا.

ورغم الإجراءات الأمنية، تُهرب الأسلحة الخفيفة إلى داخل المخيم، وتواصل الخلايا النشطة تنفيذ عمليات تحريض وتجنيد واغتيال.

إعلان

أما مخيم روج فيعد أكثر تنظيما من الهول، ويضم عددا أقل من المتشددين، وغالبا ما يكون قاطنوه من النساء الأوروبيات، بحسب المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات.

وبحسب المركز، فقد بلغ عدد الأجانب في المخيمين حتى 17 مارس/آذار 2025، حوالي 23 ألف شخص، أكثر من 60% منهم أطفال، معظمهم دون سن الثانية عشرة.

ورغم تراجع الأعداد مقارنة بذروتها عام 2019 عندما ضمّ الهول وحده أكثر من 73 ألفا، لا تزال عمليات إعادة التوطين بطيئة، باستثناء حالات مثل العراق التي استقبلت النسبة الأكبر من رعاياها.

أما فيما يخص عناصر التنظيم المحتجزين في السجون، فقدّرت قوات قسد عددهم بين 9 إلى 11 ألف مقاتل موزعين على 12 سجنا، أبرزها سجن غويران في الحسكة، والمالكية (ديريك)، والشدادي، إضافة إلى مرافق احتجاز مؤقتة في الرقة ودير الزور، في حين قدّرت صحيفة "بوليتيكو" الأميركية عددهم بـنحو 10 آلاف معتقل موزعين على 26 سجنا.

في المقابل، تشكك تقارير ومصادر ميدانية في صحة هذه الأعداد، متهمة قسد بالمبالغة في الأعداد لأغراض سياسية، منها الضغط للحصول على دعم دولي أكبر واستمرار التنسيق الأمني مع قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.

مخاوف أمنية تعرقل إعادة الرعايا

تُعد قضية إعادة رعايا تنظيم الدولة من السجون والمخيمات في شمال شرق سوريا من أعقد الملفات الأمنية التي تواجه الدول المعنية، خصوصا تلك التي ينتمي إليها مقاتلون أو نساء وأطفال من التنظيم.

ورغم الضغوط الحقوقية والإنسانية المتزايدة، لا تزال غالبية الدول الأوروبية والآسيوية ترفض إعادة مواطنيها، بدافع القلق من تداعيات أمنية مستقبلية، وارتدادات محتملة على النسيج الاجتماعي الداخلي.

وفي هذا السياق، يرى الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، عرابي عرابي، أن الحكومات تخشى من أن يشكّل العائدون خطرا مباشرا على الأمن القومي من خلال إحياء خلايا نائمة أو تنفيذ هجمات فردية أو منسقة.

ويوضح عرابي في حديثه للجزيرة نت أن "تخوفات الدول من عودة منتسبي التنظيم منطقية؛ لأنهم لا يُنظر إليهم كأفراد معزولين، بل كجزء من بيئات قابلة للتأثر بفكر التنظيم، مما قد يعيد خطر التنظيم إلى عمق المجتمعات الأوروبية".

ويوافقه الرأي الباحث العراقي في شؤون الجماعات الجهادية، رائد الحامد، مؤكدا أن "الأجهزة الأمنية، مهما كانت متقدمة، لا يمكنها مراقبة العائدين على مدار الساعة"، ما يجعل عودتهم تمثل عبئا أمنيا دائما.

ويضيف الحامد للجزيرة نت أن شخصا واحدا فقط مما يُسمى "الذئاب المنفردة" قادر على إحداث ضرر هائل وإحراج الدولة أمام شعبها والعالم.

ويحذّر الحامد من أن نسبة كبيرة من العائدين قد تمت تغذيتهم فكريا وأيديولوجيا بأفكار التنظيم، ما يجعلهم حاملين لفكر متشدد يسهل انتشاره خاصة بين الفئات المهمشة من الشباب، وهذا يزيد من خطر نشوء خلايا تجنيد واستقطاب جديدة داخل مجتمعاتهم الأصلية.

وفي هذا السياق، يؤكد معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى أن عملية إعادة هؤلاء الأفراد لا تخلو من المخاطر، لكنها ليست مستحيلة، وهناك إستراتيجيات لتقليل تلك المخاطر.

إعلان

ويوضح المعهد أن التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة يقود جهودا لتوحيد ممارسات الدول في ملفات مثل جمع الأدلة، والمحاسبة، وتقييم المخاطر الفردية، وتوفير برامج رعاية تراعي الصدمات، في محاولة لتأمين إعادة دمج تدريجية ومسؤولة.

Guards stand in a corridor Syrian Democratic Forces-run Gweiran Prison, now called Panorama, which houses men accused of being an Islamic State (ISIS) fighters in Hassakeh, northeastern Syria, Friday, Jan. 31, 2025. (AP Photo/Bernat Armangue)
سجن غويران الذي تديره قوات سوريا الديمقراطية والذي يضم متهمين بالانتماء لتنظيم الدولة في الحسكة (أسوشيتد برس)

العقبات القانونية تصعب المحاكمات

لا تقتصر معوقات إعادة رعايا تنظيم الدولة على المخاوف الأمنية والسياسية، بل تمتد إلى إشكالات قانونية معقدة تُستخدم من قبل بعض الحكومات كذريعة لتأجيل أو رفض عمليات الإعادة.

من ناحيته، يشير الباحث في القضايا الأمنية وجماعات ما دون الدولة، عمار فرهود، إلى أن محاكمة النساء والأطفال تمثل معضلة مضاعفة؛ فالمرأة التي لم يثبت عليها التورط في أعمال مباشرة مع التنظيم قد تُعامل قانونيا كغير متورطة، ويُكتفى بتقييد سفرها أو مراقبتها، دون منعها من التأثير على محيطها.

أما الأطفال، فيضيف فرهود للجزيرة نت أنه لا يمكن محاكمتهم لعدم بلوغهم السن القانونية، ولا يمكن فصلهم عن أمهاتهم إلا إذا ثبت تورط الأم، ما يسمح باستمرار تغذيتهم بالأفكار المتشددة داخل الأسرة، وهذا ما تعتبره الأجهزة الأمنية الغربية خطرا مؤجلا قد يتحول لاحقا إلى مصدر إلهام أو استقطاب لأقرانهم.

وما يزيد المسألة تعقيدا برأي الباحث رائد الحامد أن المحاكم الغربية تشترط عادة أدلة دامغة لإدانة المشتبه بهم، وهو ما يكاد يكون مستحيلا في ساحات النزاع حيث تغيب التوثيقات والشهادات المعتبرة.

وينوه الحامد إلى أن هذا الفراغ القانوني يجعل محاكمات العائدين محفوفة بالشكوك، ويزيد من احتمالية حصول بعضهم على البراءة رغم كونهم ما زالوا مقتنعين بأيديولوجيا التنظيم.

وكانت دراسة صادرة عن برنامج التطرف بجامعة جورج واشنطن قد أكدت أن الدول تواجه قيودا قانونية صارمة عند التعامل مع العائدين، لأن أنظمتها القضائية تطلب أدلة قوية وإجراءات محاكمة دقيقة، وهو ما يتناقض مع واقع مناطق الصراع حيث الأدلة نادرة والشهود شبه معدومين.

وتشير الدراسة إلى أن هذه المعوقات تجعل خيار إعادة الرعايا محاطا بمخاطر قانونية لا تقل تعقيدا عن المخاطر الأمنية.

كلفة الإهمال الدولي لهذه القضية

تحولت المخيمات وأماكن الاحتجاز في شمال شرق سوريا إلى واحدة من أخطر الملفات التي تواجه المجتمع الدولي، إذ لم تعد مجرد مواقع لإيواء عائلات مقاتلي التنظيم، بل باتت بيئات خصبة لإعادة إنتاج التطرف وتخريج جيل جديد من المقاتلين، بحسب ما يحذر منه باحثون مختصون بالحركات الجهادية.

وهذا ما حذّر منه قائد القيادة المركزية الأميركية براد كوبر خلال المؤتمر الأخير في مقر الأمم المتحدة بالقول إن "إعادة الفئات الهشة قبل أن تتعرض للتطرف ليست مجرد عمل إنساني، بل هي ضربة حاسمة ضد قدرة تنظيم داعش على إعادة تشكيل نفسه، واليوم أنضمّ إليكم جميعا في دعوة كل دولة لديها محتجزون أو نازحون في سوريا لإعادة مواطنيها".

كما أكد كوبر أن الولايات المتحدة ستواصل دعم التحالف وجميع الدول الملتزمة بإعادة مواطنيها، مضيفا "معا نستطيع أن نضمن أن عملية دحر الإرهاب ستستمر كإرث دائم للسلام والاستقرار".

من جانبه، يرى الباحث عرابي أن إعادة الرعايا قد تُخفف من اندفاع التنظيم نحو استهداف السجون والمخيمات بذريعة تحرير الأسرى، لكنها ليست كافية لتحقيق الاستقرار، لأن التنظيم قادر على إيجاد بدائل وموارد أخرى لمواصلة نشاطه داخل سوريا والإقليم.

ويشدد عرابي على أن بقاء هؤلاء العناصر وعائلاتهم في مخيمات لا تمتلك أدنى مقومات العيش الإنساني، مع غياب رؤية واضحة لحل هذه المسألة سيؤدي إلى تعقيدها وتعاظم آثارها في المستقبل.

في المقابل، ذهب المركز العربي لدراسات التطرف أبعد من ذلك، إذ أوضح في دراسة سابقة أن ترك المحتجزين في مخيمي الهول وروج يشكل خطرا مضاعفا، حيث ينشأ الأطفال "في ظروف وحشية ويخضعون لتلقين مكثف لأفكار التنظيم، ليصبحوا الجيل التالي من المقاتلين والانتحاريين، وربما يعودون إلى بلدانهم لتنفيذ هجمات ضد المجتمعات التي تخلت عنهم".

يعد مخيم روج الذي يضم متهمين بالانتماء لتنظيم الدولة وذويهم أكثر تنظيما من مخيم الهول (الفرنسية)

النموذج العراقي في تجربة استعادة الرعايا

رغم تردد غالبية الدول في استعادة رعاياها من مخيمات وسجون تنظيم الدولة في شمال شرق سوريا، برزت العراق كأكثر الدول انخراطا في هذا الملف، حيث تعاملت معه باعتباره قضية أمنية واجتماعية وإنسانية لا تحتمل التأجيل.

إعلان

ففي يوليو/تموز الماضي، أعلنت وزارة الهجرة والمهجرين العراقية أن نحو 16 ألف مواطن عراقي تمت إعادتهم حتى الآن من مخيم الهول، ضمن خطة حكومية تهدف إلى إغلاق ملف العائلات العراقية العالقة بحلول عام 2027.

وأكد المتحدث باسم الوزارة علي عباس في تصريحات صحفية أن الاتفاق مع الأمم المتحدة ينص على عدم بقاء أي عائلة عراقية في المخيم بعد هذا الموعد.

وقد أشاد قائد القيادة المركزية الأميركية براد كوبر بهذه الخطوة، مبيّنا أن العراق أعاد حوالي 80% من رعاياه من مخيم الهول، داعيا باقي الدول إلى الاقتداء بهذه التجربة لحماية الفئات الهشة ومنع التنظيم من استغلال المخيمات لإعادة بناء نفسه.

ويرى الباحث عمار فرهود أن للعراق خصوصية في هذا الملف، فغالبية قادة التنظيم من الجنسية العراقية، والعراق عضو نشط في التحالف الدولي، ما جعل إعادة هذه العوائل إلى مخيم الجدعة داخل العراق ليس مجرد إجراء إنساني أو قانوني، بل جزءا من خطة أمنية تهدف إلى اختراق المجتمعات الحاضنة للتنظيم وتقويض نفوذه.

بدورها، شددت الباحثة البارزة في شؤون الشرق الأوسط لدى منظمة هيومن رايتس ووتش، هبة زيادين على أن إبقاء المحتجزين في مخيمي الهول وروج "أمر غير قانوني وغير إنساني"، مؤكدة أنه يجب أن يكون وضعهم المزري جزءًا من أي نقاش حول مستقبل سوريا، وأن هشاشة الوضع الأمني تتطلب من الدول الإسراع في إعادة مواطنيها.

كما طالبت المنظمة الحكومات بالوفاء بالتزاماتها بموجب القانون الدولي عبر إعادة الرعايا، ومحاكمة المتورطين، وتقديم الدعم لإعادة الإدماج.

0 تعليق