نساء غزة بعد عامين من الطوفان.. صمود وقيادة في وجه الجوع والرصاص - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

غزة- في أحد أزقة دير البلح وسط غزة، تجلس الشابة إيمان علي على مقعد خشبي قديم، تحتضن طفلها النحيل بين ذراعيها. تروي بحزن "آخر مرة تناولنا وجبة كاملة كانت خلال هدنة مؤقتة قبل 4 أشهر. منذ ذلك الحين، نعيش على بقايا خبز أو قليل من المعكرونة، في حين يقضي طفلي الليل باكيا من شدة الجوع".

أمل نسوي وسط عتمة الجوع

نشرت إيمان علي شهادتها ضمن تقرير موسع أصدرته منظمة "أكشن أغينست هنغر" الدولية، المعنية بمكافحة الجوع والفقر، والذي وثّق الارتفاع المقلق في معدلات سوء التغذية الحاد بين الأطفال والأمهات في غزة. وأكدت المنظمة أن فرقها الميدانية "تشهد أعلى معدلات سوء تغذية حاد منذ بدء عملياتها في القطاع عام 2024".

لكن إيمان لا تكتفي بدور الضحية، فهي مثل مئات النساء في غزة تحولت إلى منسقة مجتمعية لتوزيع المساعدات الغذائية في حيها. تجمع بيانات الجيران وتوزّع الحصص عند وصول القوافل النادرة، التي كثيرا ما تتأخر بسبب القيود المشددة على المعابر. وينقل التقرير عن رئيس العمليات في المنظمة، فنسنت ستيهلي، تحذيره من أن "المساعدات الحالية غير كافية لمواجهة الجوع المتفشي بشكل مروّع".

وتوضح الناشطة الإغاثية ندى البحيصي من دير البلح أن بعض النساء ابتكرن وسائل لتدبير ما توفر من طعام، كخزن القليل من الحبوب أو الخضروات لتغطية احتياجات أسبوعية، "حتى لا يبقى الأطفال بلا وجبة على مدار اليوم". وتضيف للجزيرة نت أن الجارات في حيها "يتناوبن على الطهي في بيت واحد لتوفير الغاز والكهرباء".

أما خديجة المصري، أم لـ5 أطفال، فتقول للجزيرة نت إن أقصى طموحها أصبح "توفير وجبة ساخنة واحدة يوميا"، مضيفة "أحاول أن أضحك أمام أطفالي، لكني أبكي وحدي خوفا من الغد".

تجسد هذه الشهادات مأساة عشرات آلاف الأمهات اللاتي يعانين الجوع والخوف في صمت، لكنهن في الوقت نفسه يتحوّلن إلى قوة مجتمعية تقاوم الحصار والجوع وتبتكر حلولا لحماية أسرهن من الانهيار.

A woman reacts as palestinians inspect the site of an overnight Israeli strike on a house in Gaza City, September 16, 2025. REUTERS/Ebrahim Hajjaj
بكاء سيدة فلسطينية حين تفقُّد آخرين موقع غارة جوية إسرائيلية ليلية استهدفت منزلًا في مدينة غزة (رويترز)

شبكات نسائية تنقذ العائلات وسط غياب المؤسسات

في ظل غياب الهياكل المؤسسية الإنسانية المستقرة في قطاع غزة، اضطلعت النساء بدور محوري في ابتكار شبكات إنقاذ محلية لتلبية الاحتياجات العاجلة. ففي مخيم الشاطئ، تعمل أم هاجر منسقة ميدانية مع مجموعة تطوعية، حيث تتولى تسجيل الحالات الأشد احتياجا وترتيب الأولويات في توزيع المياه وحليب الأطفال.

إعلان

ورغم اعتماد فرقها على دفاتر ورقية أو مجموعات صغيرة عبر واتساب، نجحن في الوصول إلى أسر بقيت خارج نطاق رصد المنظمات الدولية الكبرى. وقد أكدت هيئة الأمم المتحدة للمرأة في تقريرها الأخير أن "الشبكات النسائية المحلية باتت الأكثر قدرة على الوصول إلى النساء والفتيات، خاصة في القضايا المرتبطة بالصحة والحماية".

الباحثة الاجتماعية أمل جودة أوضحت للجزيرة نت أن هذه الشبكات "تشكّل صمام أمان في ظل غياب أي سلطة محلية قادرة على الاستجابة"، مؤكدة أن النساء "يملأن فراغا إداريا وسياسيا كبيرا".

مطابخ المقاومة اليومية

في زاوية مطبخ صغير، تجلس أم محمد النجار، أم لـ5 أطفال، خلف قدر ضخم يتصاعد منه بخار الأرز والعدس، وقد لفّت رأسها بغطاء أبيض تلطّخه بقايا الطعام. تقول للجزيرة نت "نأتي إلى مطبخ الكرامة قبل شروق الشمس، نبدأ العمل ونحن ندرك أن كل وجبة نعدها قد تنقذ أسرة من الجوع. ورغم نقص الغاز والطحين، لا نتوقف عن الطبخ، نقتصد في كل شيء لنطعم أكبر عدد ممكن".

وتضيف "أحيانا نضطر لإشعال مواقد بدائية على الحطب، ومع ذلك ننجح في تجهيز ما يكفي لأكثر من 200 أسرة. رؤية الأطفال وهم يتناولون وجبتهم الساخنة تمنحنا طاقة لا توصف، كأننا نقاوم الحصار بملعقة وأمل".

A Palestinian woman reacts as smoke rises, while a residential building collapses after an Israeli air strike, in Gaza City, September 7, 2025. REUTERS/Khamis Al-Rifi TPX IMAGES OF THE DAY
نساء غزة طاقة ثبات تقهر الحصار والنار (رويترز)

من قلب الخطر

تحوّل الطريق نحو مراكز توزيع المساعدات إلى مغامرة يومية محفوفة بالمخاطر. فقد وثّقت منظمة أطباء بلا حدود في تقريرها الأخير إصابات مباشرة بالرصاص الحي خلال عمليات توزيع الغذاء، ونقل عن أحد مسؤوليها الطبيين قوله "استقبلنا أعدادا كبيرة من الجرحى القادمين من مواقع التوزيع، وكان كثير منهم مصابا بإطلاق نار".

هذه الشهادات لا تعكس حجم الخطر فحسب، بل تبرز أيضا شجاعة النساء اللاتي يواصلن الحضور في الميدان. فالكثير منهن يستمرِرْن في أداء عملهن رغم إصابة زميلات أو فقدان أقارب، مدفوعات بإحساس عميق بالمسؤولية تجاه الأطفال والنساء المراضع داخل المخيمات.

وتصف الصحفية الميدانية هالة أبو للجزيرة نت لحظة وصولها مع زميلاتها إلى مركز توزيع أغذية بالقول "اضطررنا للزحف بين الركام حينما كانت طلقات القنص تسقط على مقربة منا".

أما المتطوعة منى دلول، فأوضحت أنها أُصيبت بشظية في ساقها أثناء محاولتها إنقاذ أم وطفلها من موقع قصف، لكنها عادت إلى عملها بعد يومين فقط، مؤكدة "الخوف لا يوقفنا".

Tasneem Ayad, a Palestinian woman, bids farewell to her brother Abdullah, who was killed in a deadly overnight Israeli strike on a building where displaced people were taking shelter, amid an Israeli military operation, according to medics, at Al-Ahli Arab Hospital in Gaza City, September 24, 2025. REUTERS/Ebrahim Hajjaj
تسنيم أياد، تودّع شقيقها عبد الله الذي قُتل في غارة جوية إسرائيلية ليلية مميتة استهدفت مبنى كان يؤوي نازحين (رويترز)

أمهات ينزفن

تحذّر تقارير صادرة عن صندوق الأمم المتحدة للسكان من انهيار خدمات الصحة الإنجابية في غزة، مع تزايد الولادات عالية الخطورة وارتفاع وفيات الأمهات، خصوصا في مراكز الإيواء بخان يونس.

الممرضة نسرين تصف المشهد بقولها "نساء يلدن دون إشراف طبي كافٍ، وأحيانا من دون أي غذاء مناسب". وتضيف للجزيرة نت أن الفرق الطبية تعتمد على إسعافات أولية بدائية بعد إغلاق المرافق المتقدمة، مما يضاعف مخاطر النزيف والعدوى.

أما الأمهات اللائي فقدن القدرة على إرضاع أطفالهن بسبب الجوع، فيواجهن معضلة يومية: إما شراء حليب أطفال نادر بأسعار مضاعفة، أو الاكتفاء بالماء والسكر. وقد وثّقت تقارير صادرة عن أوتشا وأكشن أغينست هنغر هذه الظروف، محذرة من جيل مهدد بسوء تغذية حاد قد يخلّف آثارا صحية سلبية دائمة.

إعلان

بدورها، تروي القابلة هدى شعبان أن كثيرا من الولادات تتم داخل سيارات الإسعاف أو على أرضيات الملاجئ، مما يرفع احتمالات النزيف والعدوى.

استنزاف بلا حماية

وسط هذا الواقع، تتحمل النساء العاملات في المجال الإنساني ضغوطا نفسية هائلة. المتطوعة مريم من غزة تقول "الخوف من القصف لا يترك لنا وقتا للراحة، ننام دقائق معدودة ثم نعود لتوزيع الطعام". وتضيف "الضغط النفسي لا يُحتمل، لكننا لا نملك رفاهية التوقف".

هذا الاستنزاف يجري في ظل غياب أي منظومة دعم نفسي أو ضمانات حماية، في حين تسجّل تقارير أممية تزايدا في حالات العنف القائم على النوع الاجتماعي. وتشير أخصائية الدعم النفسي مها خليل إلى أن "أكثر من 80% من العاملات في فرق الإغاثة يعانين أعراض اضطراب ما بعد الصدمة".

وتؤكد الباحثة في شؤون النوع الاجتماعي ليلى عطا الله أن الدعم الدولي يجب أن يتجاوز المساعدات الطارئة ليشمل برامج طويلة الأمد "تعزز قدرات النساء على إعادة بناء مجتمعاتهن".

وفي السياق نفسه، طالبت منظمة هيومن رايتس ووتش الحكومات المانحة بإنشاء آلية رقابة لحماية المتطوعات من الاعتداءات وتوفير ممرات إنسانية آمنة.

وتختتم عطا الله للجزيرة نت "قصص النساء في غزة، من إيمان وأم هاجر إلى نسرين ومريم، تكشف عن مجتمع يعايش المجاعة لكنه يستمد من الأمل طاقة للبقاء. غير أن هذه الطاقات، مهما بلغت قوتها، مهددة بالانطفاء ما لم تتحول الدعوات الأممية إلى دعم عملي واعتراف سياسي يضمن استمرار هذه الشبكات بعد الحرب.

0 تعليق