الحي اللاتيني.. تاريخ باريس وقلبها الثقافي - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الحي اللاتيني أحد أعرق الأحياء وأشهرها في العاصمة الفرنسية باريس، يعود تاريخ بداياته إلى القرن الأول الميلادي بعدما سكنت قبائل الغال جزيرة وسط نهر سيكوانا، وهي التسمية التي أطلقتها على نهر السين.

شهد الحي تطورا عمرانيا وتوسعا كبيرا بعدما غزت الإمبراطورية الرومانية فرنسا، والتي كان يطلق عليها "أرض الفرنجة"، بقيادة يوليوس قيصر عام 52 ق-م.

أما في القرن الـ12 الميلادي فتحول الحي اللاتيني إلى مركز فكري وتعليمي، وكان ملتقى للمعلمين والطلاب ومنصة لتدريس الفلسفة والدين، ونواة لجامعتي باريس والسوربون.

وسمي الحي بـ"اللاتيني" نسبة إلى اللغة اللاتينية التي كانت تستعمل في التدريس حينها، وكان يتحدث بها الطلاب.

الموقع الجغرافي

يقع الحي اللاتيني على الضفة اليسرى لنهر السين، ويشمل الدائرتين الـ5 والـ6 في باريس.

السياق التاريخي

في القرن الأول قبل الميلاد سكنت منطقة "إيل دو فرانس" بفرنسا شعوب الغال، وهي مجموعة من القبائل السلتية عرف أهلها بـ"الباريسيين"، وأطلقوا على مدينتهم اسم "لوكوتيسيا" أو "لوتيس غولواز".

استقروا في جزيرة تقع وسط نهر سيكوانا، وهو الاسم القديم لما أصبح يعرف لاحقا بنهر السين، وبدأوا بتأسيس مدينتهم.

ونظرا لكون المدينة محاطة بالمياه قرروا بناء جسور من الخشب للعبور والوصول إلى الضفة الأخرى، والتواصل مع المناطق المجاورة.

أخذت المدينة بعد نشأتها شكل سفينة عائمة وسميت بـ"فلوكتوات نك مارغيتور"، ومعناها المدينة العائمة التي لا تغرق.

Luxembourg palace and gardens in spring, Paris, France
حديقة قصر لوكسمبورغ الذي بناه المهندس "سالمون دو بروس"  في الفترة ما بين 1615 و1631 (شترستوك)

لوتيتسيا الغالو-رومانية

وفي سنة 52 قبل الميلاد غزا يوليوس قيصر الرومان بلاد الغال (فرنسا) ووصل إلى مدينة لوتيس، وكانت معركة أليزيا إحدى أبرز محطات هذا الغزو، وانتهت بهزيمة قبائل الغال تحت قيادة فيرسينجينوريكس ضد الجيش الروماني.

اضطر الغال بعد الهزيمة إلى ترك مدينتهم بعدما أضرموا فيها النيران وهدموا الجسور التي بنوها سابقا.

وبعدها أعاد الرومان بناء المدينة على الضفة اليسرى من النهر، وبالتحديد على تل "لوكوتيتيوس"، مما جعلها في مأمن من الفيضانات.

إعلان

وأسسوا المدينة على الطراز الروماني ووفق المخطط التقليدي، وأنشؤوا شارعين رئيسيين متعامدين، وهما كاردو ماكسيموس الممتد من الشمال إلى الجنوب، والذي أصبح لاحقا شارع سان جاك، وشارع فيا إنفاريور الممتد من الشرق إلى الغرب، والذي تحول لاحقا إلى شارع "لاهارب".

كما شيدوا عددا من المنشآت من بينها الحمامات الرومانية والمسارح والمعابد، ويروى أن القيصر غير اسم المدينة إلى "لوتيتسيا".

عاشت المدينة تحت الحكم الروماني فترة من الاستقرار دامت 3 قرون، إلى أن اجتاحتها القبائل الجرمانية وأحدثت فيها دمارا كبيرا.

أمام هذا الخطر انسحب السكان إلى جزيرة مدينة "إيل دو لا سيتي" وسط النهر وبنوا حولها أسوارا دفاعية. ومع حلول عام 334م تغير اسم المدينة إلى باريس نسبة إلى قبيلة الباريسيين، كما تحول اسم نهر سيكوانا إلى نهر السين.

" frameborder="0">

الحملات المسيحية

وفي عام 451 قاد أتيلا هونوروم ريكس ملك قبائل الهون -وهي قبائل بدوية من أصول آسيوية- حملات توسع كبرى نحو الغرب، وعند اقترابه من مدينة باريس شعر السكان بالذعر والخوف.

في تلك الأوقات برزت القديسة جونيفييف في مدينة باريس، وكانت ذات نفوذ وسلطة، ودعت السكان إلى التكتل وأقنعتهم بالمواجهة وشجعتهم على الصمود ضد محاولات الغزو والصبر والصلاة.

وفي النهاية نجحت في ذلك ولم يستطع الملك أتيلا الدخول إلى باريس واتجه نحو مدينة أورليان القريبة منها، فاعتبرت جونيفييف منذ ذلك الحين "حامية المدينة".

وفي يوم 3 يناير/كانون الثاني 502م توفيت القديسة جونيفييف ودفنت في مقبرة على تل "لوكوتيتيوس" بباريس.

توحيد الأراضي الفرنجية

وفي عام 496 م خاض الملك كلوفيس الأول معركة تولبياك ضد الجرمانيين وأراد توحيد الأراضي الفرنجية تحت رايته وسلطته، وقبل خوض تلك المعارك نذر اعتناق المسيحية وترك الوثنية في حال فوزه، كما نذر بناء كنيسة وإهداءها للقديس بطرس.

وبين عامي 496 م و498 م قاد حملة عسكرية إلى مدينة بوردو لمواجهة ملك القوط الغربيين ألاريك الثاني، الذي كان يسيطر على المناطق الممتدة بين نهر اللوار وجبال البرنييه، وقد اتخذ الاضطهاد الذي تعرض له الكاثوليك هناك مبررا لحملاته.

لكن تقدمه وُوجِه بتحالف قوي، إذ ساند ملك القوط الشرقيين ثيودوريك الكبير القوط الغربيين، مما أدى إلى توقف الملك كلوفيس الأول شمال نهر اللوار.

وبمجيء عام 507م حصل الملك كلوفيس الأول على دعم من إمبراطور القوط الشرقيين الجديد أناستاس، وخاض معركة فوييه ضد القوط الغربيين وفاز بها بعدما تراجعوا إلى إسبانيا.

كما استولى الملك كلوفيس الأول على تولوز وأنغوليم وبوردو، واحتفل بنصره في مدينة تور، ووفّى بنذره بعد فوزه فاعتنق المسيحية وكان أول ملك مسيحي كاثوليكي.

وفى عام 510م بنى الكنيسة التي وعد بها فوق ضريح القديسة جونيفييف وأصبحت من أهم المعالم الدينية والسياسية لمدينة باريس، وتغير اسمها لاحقا وصار كنيسة القديسة "سانت جونيفييف" ثم "البانثيون".

ودفن فيها بعد وفاته يوم 27 نوفمبر/تشرين الثاني 511م، وزوجته كلوتيد، ومن ثم بدأت تتشكل الملامح الأولى للهوية المسيحية في باريس وفرنسا.

النهضة الفكرية في الحي

في عام 1110م استقر الفيلسوف بيير أبيلار -الذي كان يبلغ من العمر 32 سنة- في دير القديسة سانت جونيفييف، وبدأ يلقي دروسه في الفلسفة واللاهوت.

إعلان

وبدأ الحي في التحول إلى مركز مهم للدراسة والتعليم، فقد أعجب عدد كبير من الطلاب والمعلمين بأسلوب أبيلار. ومع ازدياد عدد الوافدين أمسى من الضروري إنشاء مساكن لهم.

وفيما بعد تحولت تلك المساكن إلى ما يسمى "الكليات"، وكانت نواة جامعة باريس الأم في أواخر القرن الـ12، واستمرت الجامعات في التزايد داخل المنطقة وازدهر التعليم وتوسعت الحركة الفكرية.

وبفضل هذا الزخم التعليمي تحولت المنطقة تدريجيا إلى ما عرف لاحقا بـ"الحي اللاتيني"، في إشارة إلى اللغة المستعملة في التدريس، والتي كان الطلاب يتحدثون بها.

بُني عدد كبير من المساكن والفنادق بين الشارعين الرئيسيين، وظهرت كليات عدة منها كلية السوربون وهاركور وكلوني وشوليه ودو بليسيس ونافار وسان بارب ولويس الأكبر.

كما تأسست إلى جانبها كليات خاصة بالطلاب الأجانب مثل كليتي الأيرلنديين والأسكتلنديين.

الحي اللاتيني في باريس يقع على الضفة اليسرى لنهر السين (رويترز)

التحصين والتوسع

في بداية القرن الـ13 أمر الملك فيليب أوغست ببناء سور دفاعي حول مدينة باريس بدافع حمايتها من أي هجمات خارجية، وصار الحي اللاتيني محصنا كله، على عكس مناطق أخرى مثل "سان جيرمان دي بري" و"سان فيكتور".

كما أنشئت بوابات لضبط حركة الدخول والخروج من المدينة، خاصة مع تزايد النشاط التعليمي وتزايد السكان والطلبة، وبقي السور قائما قرونا عدة ومع توسع المدينة هدم في القرن الـ17.

بنيت حول الحي اللاتيني 4 أديرة وهي:

دير سانت فيكتور من جهة الشرق

أسسه غيوم دو شامبو في القرن الـ12، وأُنشئ فيه سنة 1237 أول منصب لتدريس اللاهوت والفلسفة، وكان تابعا لجامعة باريس الأم، مما جعله أحد أهم المراكز الأكاديمية والفكرية في أوروبا.

كان يعبر وسط الدير رافد يصب في نهر السين يسمى بيافر، وكانت مكتبته مفتوحة لعامة الناس، وتحتوي على مصادر مهمة، لكن الدير دمر عام 1811.

" frameborder="0">

دير كليرفو من جهة الشمال

دير كليرفو، الذي تأسست فيه عام 1245 كلية البرنارديين بهدف تدريس وتكوين رجال الدين من طائفة السيسترسيان التابعة للبيكارديين، واستمر نشاطها 4 قرون.

ومع مرور السنوات لم تعد الكلية كافية لاستيعاب عدد الطلاب المتزايد، مما حتم على المسؤولين بناء منشآت جديدة.

أحدثت كلية البرناديين تغيرا كبيرا في النهضة الفكرية الباريسية وأسهمت في دمج التعليم الأكاديمي مع التعليم الديني.

كما تلقت دعما واسعا من الملك ألفانس دو فرانس شقيق الملك لويس التاسع الملقب بـ"سان لويس". وفي 1320 باع رئيس دير كليرفو الكلية إلى طائفة السيسترسيان.

وأثناء أحداث اقتحام سجن الباستيل عام 1789 صادرت الدولة الكلية واعتبرتها ملكا وطنيا، وتحولت لاحقا إلى مدرسة ثم سكن تابع للشرطة الوطنية الفرنسية ثم تحولت منذ 1845 إلى ثكنة لرجال الإطفاء. وفي 10 فبراير/شباط 1887 صنف مبنى الكلية معلما تاريخيا.

دير "سانت جونيفييف" (البانثيون) من الجهة الجنوبية

بدأ التخطيط لبنائه عام 1755 وانطلقت عملية البناء عام 1758، ووضع الملك لويس الـ15 حجر الأساس.

وكان من المقرر وضع تمثال القديسة "سانت جونيفييف" على قبة قمة الكنيسة، لكنه استبدل بصليب بشكل مؤقت عام 1790 ثم بتمثال امرأة تمسك بوقا تجسيدا لمشهد من المشاهد الواردة في الإنجيل.

وبعد عام تحول اسم الدير إلى "البانثيون"، وأصبحت فيه مقبرة تضم رفاة أبطال فرنسا.

Luxembourg Palace, Senate Building in the Luxembourg Garden of Paris, France
متحف لوكسمبورغ بني بطلب من ماري ميديسيس زوجة ملك فرنسا هنري الـ4 (شترستوك)
دير "سان جيرمان دي بري" من الجهة الغربية

تأسس بطلب من "سان جيرمان" أحد أساقفة باريس إلى الملك شيلدوبرت الأول ابن الملك كلوفيس، وشيد عام 558م.

شهد عام 1000م عمليات توسيع وأصبح مركزا فكريا هاما، وأغلق رسميا يوم 13 فبراير/شباط 1792 وتحول إلى مصنع لإنتاج الملح الصخري.

وفي 29 أبريل/نيسان 1803 أصبح خاضعا لإدارة الكنيسة الكاثوليكية واستؤنفت فيه الطقوس الدينية.

بين عامي 1821 و1854 شهد عمليات ترميم واسعة بعدما تضرر بسبب أحداث الثورة الفرنسية.

المؤسسات التعليمية

انبثقت في الحي اللاتيني العديد من الكليات والجامعات والمؤسسات التعليمية الكبرى، ومنها:

إعلان

الجامعات

جامعة باريس 1 ـ بانثيون سوربون. جامعة باريس 2 ـ بانثيون أصاص. جامعة باريس 3 ـ السوربون الجديدة. جامعة باريس 4 ـ السوربون. جامعة باريس 5 ـ رونيه ديكارت. جامعة باريس 6 ـ بيير وماري كوري. جامعة باريس 7 ـ دوني ديدرو.
Typical of a new breed of university-level students in France is Martine Verdoux, 20, of Paris, seen walking in front of the Sorbonne, Dec. 30, 1969. She attends an American-style business administration college set up in direct response to student demands. (AP Photo)
جامعة السوربون أحد المعالم التاريخية في الحي اللاتيني بباريس (أسوشيتد برس)

مدارس للتعليم العالي والبحث العلمي

المدرسة الوطنية العليا للمناجم. المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة. المدرسة العليا للأساتذة. المدرسة الوطنية للجسور والطرق. المدرسة الخاصة للبناء والأشغال العمومية. المدرسة العليا للفيزياء والكيمياء الصناعية. المدرسة الوطنية العليا للكيمياء. المدرسة الوطنية للإدارة. المعهد الوطني للزراعة.

الكليات

كلية سانت جونيفييف للحقوق. كلية جراحة الأسنان ـ باريس 7. كلية الصيدلة.

 

" frameborder="0">

ويضم الحي أيضا عددا من الثانويات المرموقة وهي:

ثانوية مونثاين. ثانوية هنري الـ4. ثانوية سانت لويس. ثانوية ألزاسيان. ثانوية لويس الأكبر. ثانوية لافوازييه. ثانوية فينلون.

المعالم

ويحتضن الحي اللاتيني مجموعة من المعالم الأثرية والتاريخية التي تعبر عن الهوية والثقافة الفرنسيتين مثل:

كنيسة سانت إيتيين دو مون

بدأت أعمال بنائها عام 1492 وأشرف عليها المهندس جون توربيون، وبنيت بجانب كنيسة سانت جونيفييف.

وبعد الثورة الفرنسية أغلقت، لكن أساقفة باريس أعادوا فتحها واستخدامها سنة 1795.

نافورة سان ميشيل

بناها غابرييل دافيود بين عامي 1858 و1860، ويبلغ ارتفاعها 26 مترا وعرضها 15 مترا.

أدرجت في 1926 ضمن قائمة المعالم التاريخية الفرنسية المحمية وأصبحت قبلة للسياح.

PARIS, FRANCE - MARCH 6: National Museum of the Middle Ages - Cluny. The building was founded by the rich and powerful 15th-century abbot of Cluny Abbey, Jacques d'Amboise in Paris on March 6, 2013
متحف كلوني تأسس في القرن الـ19 ويضم الحمامات الرومانية القديمة في لوتيس (باريس سابقا) (شترستوك)
متحف كلوني

تأسس المتحف في القرن الـ19 ويضم الحمامات الرومانية القديمة في لوتيس (باريس سابقا) والتي تعود للقرن الأول الميلادي، ومبنى وفناء قصر رؤساء دير كلوني، الذي شيد في القرن الـ15.

يحتوي المتحف على مجموعات من التماثيل والتحف المصنوعة من الذهب وأسوار مزينة بالزجاج المعشق واللوحات الفنية والمنسوجات والمخطوطات المزخرفة التي تحكي 1500 سنة من التاريخ.

قصر ومتحف لوكسمبورغ

يمثلان إرثا ثقافيا وتاريخيا يجمع بين مؤسسات قديمة متعاقبة أسهمت في ازدهار الثقافة الفرنسية، فقد بنى القصر المهندس "سالمون دو بروس" في الفترة ما بين 1615 و1631 بطلب من ماري ميديسيس زوجة ملك فرنسا هنري الـ4.

وفي عام 1750 تأسس متحف لوكسمبورغ للفنون داخل أحد أجنحة القصر، وأصبح أول متحف يفتح أمام العامة، وأول متحف للفنون المعاصرة منذ عام 1818.

0 تعليق