إثيوبيا وإريتريا أمام خيار حاسم - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في القرن الأفريقي، حيث تتقاطع المصالح الدولية وتتداخل مسارات التاريخ مع تضاريس الجغرافيا، تقف إريتريا وإثيوبيا في مواجهة مأزق مزدوج: بلد يطل على البحر لكنه يعيش عزلة، وبلد يفتقر إلى البحر لكنه يتمدد إقليميا. إنها قصة جارين جمعتهما الدماء والذاكرة، وفرّق بينهما البحر والجبل.

البحر الأحمر ليس مجرد خط على الخريطة، بل هو شريان إستراتيجي يتحكم في التجارة العالمية والأمن الإقليمي. بالنسبة للإريتريين، البحر يمثل هويتهم ونافذتهم الوحيدة نحو العالم.

أما الإثيوبيون، فقد ورثوا عقدة "غياب البحر"، التي جعلت من الجغرافيا جرحا مفتوحا يغذي خياراتهم الإستراتيجية، منذ ضم إريتريا في عهد هيلا سيلاسي وحتى اليوم.

ولعل المفارقة أن إثيوبيا التي هزمت الاستعمار الإيطالي في معركة عدوة 1896، لم تهزم حصارها الجغرافي قط. بينما إريتريا التي نالت الاستقلال بعد حرب تحرير طويلة، لم تستطع أن تجعل من البحر بابا للانفتاح، بل تحول إلى حدود تُعمق العزلة.

في عام 1952، منحت الأمم المتحدة إريتريا وضعا فدراليا مع إثيوبيا، كان يمكن أن يؤسس لتعايش فريد يجمع البحر والجبل. لكن قرار هيلا سيلاسي عام 1962 بضم إريتريا فتح باب حرب تحرير استمرت ثلاثين عاما. حينها خسر الطرفان فرصة بناء دولة متعددة الهويات، وورثا تاريخا من العداء والدماء.

التحرير عام 1991، ثم الاستقلال 1993، كانا لحظتين مفصليتين. الأول ارتبط بالكرامة والانتصار العسكري، والثاني ارتبط بالشرعية الدولية والسيادة.

لكن المفارقة أن لحظة الاستقلال لم تُترجم إلى مشروع ديمقراطي أو نهضة اقتصادية. بدلا من ذلك، دخلت إريتريا في عزلة دولية، واعتمدت على عسكرة المجتمع، وتجنيد الشباب بلا نهاية، ما دفع عشرات الآلاف إلى الهجرة واللجوء.

النزاع لم يتوقف عند لحظة الاستقلال. حرب بادمي (1998-2000) بين البلدين أظهرت أن "الجرح الحدودي" لم يلتئم، وأن البحر لم يُنهِ عقدة الجبل. ومنذ ذلك الحين، تكررت محاولات السلام، لكن دون نجاح كامل.

إعلان

في 2018، شكل توقيع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، والرئيس الإريتري أسياس أفورقي اتفاق سلام حدثا لافتا، أعاد فتح الحدود وأثار آمالا بانطلاقة جديدة. غير أن هذه الآمال سرعان ما تبخرت مع اندلاع حرب التيغراي (2020-2022)، حيث شاركت القوات الإريترية إلى جانب الجيش الإثيوبي، لتعود العلاقة إلى مربع التوتر.

اليوم، لم يعد الخلاف بين إريتريا وإثيوبيا مجرد قضية ثنائية. البحر الأحمر أصبح ساحة تنافس إقليمي ودولي. هذا التنافس يعيد صياغة المعادلة: إريتريا لم تعد مجرد دولة صغيرة على الساحل، بينما ترى إثيوبيا أن امتلاك منفذ بحري مباشر بات ضرورة إستراتيجية لا يمكن تأجيلها.

ومع كل خطوة تصعيدية، يلوح شبح عودة الحرب. تقارير دولية حديثة حذرت من احتمال اندلاع مواجهة جديدة. اللافت أن البلدين رغم اختلافاتهما، يتشاركان أزمة كبرى؛ فكلاهما فشل في تحويل موقعه الجغرافي إلى قوة إيجابية: إريتريا حررت البحر لكنها فشلت في تحويله إلى منصة للتنمية والانفتاح، وإثيوبيا حققت حضورا إقليميا واسعا لكنها لم تجد حلا لعقدة الجغرافيا. وبين هذا وذاك، خسر الشعبان عقودا من التنمية والاستقرار.

تاريخ القرن الأفريقي مليء بفرص أُهدرت وأثمان باهظة دُفعت بسبب سوء قراءة الجغرافيا والتاريخ. واليوم، يقف البلدان أمام مفترق طرق جديد: إما أن يدركا أن مصالحهما المشتركة أقوى من صراعات الماضي، أو أن يستسلما لإعادة إنتاج صراع قديم بصيغة جديدة، فيتحول البحر الأحمر من نافذة للتعاون إلى ساحة صدام لا نهاية له.

لكن، إذا ما اختارت إريتريا وإثيوبيا التعاون بدل المواجهة، فإن الباب سيفتح أمام مكاسب اقتصادية هائلة لكلا البلدين. إثيوبيا، بثقلها السكاني الذي يتجاوز 120 مليون نسمة، تمثل سوقا ضخمة قادرة على تحريك عجلة الموانئ الإريترية وتحويلها إلى مراكز إمداد إقليمية. في المقابل، يمكن لإريتريا أن تتحول من دولة هامشية إلى عقدة تجارية على البحر الأحمر، تستفيد من الاستثمارات في البنية التحتية، وتستعيد موقعها التاريخي كبوابة القرن الأفريقي نحو العالم.

التكامل الاقتصادي ليس مجرد رفاهية، بل هو حاجة ملحة. فإثيوبيا تعاني من أزمة عملة صعبة وديون متراكمة، وتعتمد بشكل كبير على ميناء جيبوتي الذي يستنزف مواردها برسوم عبور مرتفعة.

أما إريتريا، فهي تعيش عزلة اقتصادية خانقة، لم تكسرها سوى التحويلات المالية من الشتات الإريتري. في حال تعاون البلدين، يمكن أن يشهد الإقليم طفرة في مجالات النقل، والتجارة، والطاقة، وحتى السياحة التي طالما بقيت رهينة التوترات الأمنية.

لكن التحدي الأكبر ليس اقتصاديا بحتا، بل سياسيا بالأساس. فالتكامل يحتاج إلى ثقة، والثقة تتطلب إرادة سياسية تتجاوز هواجس الماضي.

يحتاج البلدان إلى قادة يملكون شجاعة التحول من خطاب الحقوق التاريخية والثأر الجغرافي، إلى لغة المصالح المشتركة والمكاسب المتبادلة. عندها فقط يمكن أن تتحول الجغرافيا من لعنة إلى فرصة.

إن البحر الأحمر، بما يحمله من أهمية إستراتيجية، يمكن أن يكون إما مصدر استنزافٍ جديدٍ يعيد إنتاج صراعات الماضي، أو منصة لبناء شراكات عابرة للحدود. والقرار في النهاية بيد أديس أبابا وأسمرا: هل تواصلان الدوران في فلك الماضي، أم تصنعان نموذجا جديدا لتعايش البحر والجبل في القرن الأفريقي؟

إعلان

ولعل في التجربة الأوروبية ما يستحق التأمل. فقد شهدت إنجلترا وفرنسا حرب المائة عام (1337-1453)، وهي حرب طويلة استنزفت قواهما، دمرت اقتصادهما، وأغرقت أجيالا متعاقبة في العداء والكراهية.

كانت الحرب أشد وقعا وأطول زمنا من حرب الثلاثين عاما التي خاضتها إريتريا وإثيوبيا في النصف الثاني من القرن العشرين. لكن ما ميز أوروبا لاحقا هو أنها لم تبقَ أسيرة ذاكرة الدماء. بمرور الوقت، أدركت إنجلترا وفرنسا أن استمرار الصراع يبدد الموارد ويمنع النهضة، بينما الاستثمار في الاقتصاد والتكامل يفتح أبواب القوة.

وبالفعل، حين تحول مسار العلاقة بينهما من النزاع إلى التعاون، أصبحتا قوتين مركزيتين في أوروبا والعالم. فبدل أن تظلا عدوين دائمين، غدتا شريكتين في بناء الاتحاد الأوروبي، وحليفتين في النظام الدولي الحديث. بهذا التحول الإستراتيجي، ارتقتا من ساحة حرب مدمرة، إلى مركز إشعاع سياسي واقتصادي وثقافي.

إن المقارنة مع القرن الأفريقي تكشف الفارق في الخيارات. فإريتريا وإثيوبيا ورثتا صراعا دمويا دام ثلاثين عاما، لكنهما لا تزالان حتى اليوم تدوران في حلقة التوترات والشكوك.

في المقابل، كان بإمكانهما- مثل إنجلترا وفرنسا- أن تحولا جراح الماضي إلى أساس للتكامل الاقتصادي والسياسي. فموانئ إريتريا يمكن أن تكون رئة لإثيوبيا، والأسواق الإثيوبية يمكن أن تكون جسرا لإنعاش الاقتصاد الإريتري. لكن هذا المستقبل يظل رهينا بقدرة القيادات على إدراك أن مصالح الشعوب لا تتحقق في ساحات القتال، بل في المشاريع الاقتصادية والتنموية.

التاريخ، إذن، ليس مجرد سرد للمآسي، بل مدرسة لتعلم البدائل. أوروبا التي احترقت في حرب المائة عام، أصبحت اليوم رمزا للوحدة الاقتصادية والسياسية.

والسؤال المطروح: أَيتجرأ جارا البحر والجبل على استلهام هذا الدرس، فيقدمان المصالح المشتركة على إرث الحروب، أم يتركان البحر الأحمر مسرحا مفتوحا لصراع قديم يُعاد إنتاجه بصيغ جديدة؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

0 تعليق