منذ انهيار الجولة التفاوضية الأخيرة الصادم والمفاجئ، تتجه الأوضاع في قطاع غزة نحو مسار تصعيدي خطير، تجلى في قرار حكومة الاحتلال توسيع العمليات العسكرية لتشمل اجتياح المناطق الغربية لمدينة غزة والسيطرة الكاملة عليها، بما يعني تفريغها من سكانها الذين يشكلون الكتلة السكانية الأهم في شمالي وادي غزة، أي في محافظتي غزة وشمال غزة.
سوّقت إسرائيل هذه العملية العسكرية، التي بدأت فعليا في الأحياء الشرقية للمدينة، بوصفها المعركة "الحاسمة" القادرة على تحقيق ما عجزت عنه آلة الحرب المستمرة في الإبادة منذ نحو العامين في القطاع المحاصر المجوع.
غير أن هذا الادعاء التسويقي ليس سوى تكرار لادعاءات مشابهة روجت إسرائيل لها في اجتياحات سابقة في غزة نفسها في أكتوبر/تشرين الأول، ونوفمبر/تشرين الثاني 2023، ثم في خان يونس، وجباليا، والشجاعية.
يعلم قادة الاحتلال، وفي مقدمتهم رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو، كما يدرك قادة الجيش والأجهزة الأمنية، أن الضغط العسكري لن يفلح في تحقيق أي من أهداف الحرب "المعلنة"، فلن تنهار بنى المقاومة ولا قدرتها على الاشتباك، ولن يستعاد الأسرى أحياء.
ويكشف هذا الإدراك أن القرار بالمضي قدما في العملية الراهنة لا يهدف إلى تحقيق نصر عسكري مباشر، بل يؤكد أن الأولوية الفعلية تنصرف إلى الهدف "غير المعلن" رسميا: التخلص من الكتلة الديمغرافية الفلسطينية في قطاع غزة نهائيا ضمن مشروع يحظى بدعم وموافقة أميركية مطلقة.
مسار متتابع للتدمير الشامل
لم يكن الدور الأميركي، بوصفه شريكا كاملا في حرب الإبادة، خافيا منذ اليوم الأول. فقد أكد ذلك لاحقا العديد من الوثائق والتسريبات من داخل الإدارة الأميركية السابقة، وصولا إلى تصريحات صحفية لمسؤولين في إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، أقروا فيها بوضوح بإدراكهم الكامل لما يجري في غزة.
إعلان
تنوعت اعتبارات إدارة بايدن بين رغبة الرئيس العجوز- الذي لطالما تفاخر بصهيونيته- في الظهور بمظهر الرجل الحازم على أنقاض غزة بعد فشله في الملف الروسي- الأوكراني، وبين حساباته الانتخابية الداخلية. فهو من جهة سعى إلى تلبية متطلبات "صهيونيته" السياسية، ومن جهة أخرى حاول استعادة ثقة الصندوق الانتخابي، مع تقديره أن الحسم العسكري في غزة "الصغيرة جغرافيا" سيكون سهلا وسريعا، ما شجعه على توفير الغطاء اللازم لـ"إسرائيل" لتتولى المهمة.
وعندما عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حمل ذات الأفكار، مع تعزيز إسرائيلي قاده بنيامين نتنياهو، الذي ادعى أن العقبة لم تكن في صعوبة الحسم، بل في قيود بايدن وإصراره على إدخال المساعدات.
وأما على صعيد المفاوضات، فقد اتضح أن التصعيد الراهن لم يكن مرتبطا مباشرة بمجرياتها، فالرد الأخير الذي قدمه وفد المقاومة تم بالتنسيق الكامل مع الوسطاء، الذين كانوا بدورهم على اتصال مباشر مع وفد الاحتلال. ولم تُسجل خلافات جوهرية آنذاك، بل على العكس، بدا أن الأمور تسير نحو اتفاق.
لكن نقطة التحول جاءت من تصعيد المبعوث الأميركي، ستيف ويتكوف، الذي كان قد لعب دورا محوريا في اتفاق التهدئة في يناير/كانون الثاني الماضي، ثم كان مدخلا لانهياره في مارس/آذار عبر مقترحاته المعروفة باسم "مقترحات ويتكوف".
وجوهر هذه المقترحات تمثل بإطلاق دفعات جماعية من الأسرى، بدءا من خمسة أسرى أحياء في اليوم الأول، وصولا إلى عشرة في اليوم ذاته في المقترحات اللاحقة.
بالتدقيق في المسار، يتضح أنه كان متفقا على الخطوط العامة منذ البداية، إذ دفعت إدارة ترامب في اتجاه استعادة نتنياهو الأسرى الأحياء أولا، ثم ترك العنان لـ"إسرائيل" لـ"فتح أبواب الجحيم" على غزة.
وبمنظور أوسع، كان نتنياهو بحاجة إلى فترة هدوء مؤقتة، بالقدر نفسه الذي احتاجه ترامب لتعزيز إستراتيجيته "السلام عبر القوة"، فيما وفر ذلك لغزة فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة النازحين من الجنوب إلى الشمال.
احتاج نتنياهو هذه الفترة لإتمام ترتيبات انتقال قيادة الجيش إلى هيئة الأركان الجديدة بقيادة إيال زامير، وإعداد خطط استكمال تدمير القطاع على ضوء تجربة رئيس الأركان السابق هرتسي هاليفي، كما سعى إلى تقليص عدد الأسرى الأحياء إلى الحد الأدنى، لتفادي مخاطر موتهم خلال العمليات.
وفي هذا السياق، جاء إصرار ويتكوف على إطلاق العدد الأكبر من الأسرى الأحياء في اليوم الأول من أية صفقة، بما يتيح لنتنياهو الانقلاب سريعا على الاتفاق والعودة إلى العمليات العسكرية، قبل أن تترسخ مفاعيل التهدئة التي قد تعطل عودة الحرب أو تجعلها أكثر صعوبة.
"عربات جدعون 2"
في إطار استكمال الصورة العامة، شكلت عملية "عربات جدعون" في نسختها الأولى نموذجا للعدوان الإسرائيلي القائم على قاعدة رئيسية: التقدم عبر محاور متعددة في المناطق الشرقية والشمالية من قطاع غزة، بالتوازي مع توسيع نطاق التوغل جنوبا، والتمركز العسكري على الأرض بعد طرد السكان من مناطقهم، بما يضمن منع عودتهم، والمضي في مشروع تدمير شامل لمظاهر الحياة في القطاع.
إعلان
أسفرت العملية عن سيطرة الاحتلال على نحو 70% من مساحة القطاع، ودفع السكان إلى ثلاثة جيوب رئيسية: غربي مدينة غزة، والمخيمات الوسطى، والشريط الساحلي الضيق في خان يونس (المواصي).
هناك، حُشر أكثر من مليوني فلسطيني في ظروف انعدام مقومات الحياة، وسط حصار خانق وتجويع ممنهج أودى بحياة العشرات، وأرهق أجساد عشرات الآلاف.
كانت الغاية المعلنة لهذه الخطة ممارسة أقصى درجات الضغط على المقاومة لإجبارها على تقديم تنازلات جوهرية، والانخراط في مسارات التبادل وفق مقترحات ويتكوف، التي سبق شرح أهدافها. لكن عمليا كان الاحتلال ينفذ ما وصفه وزير مالية الاحتلال، بتسلئيل سموتريتش، سابقا بـ"تفكيك غزة حجرا حجرا"، بما يعني القضاء على أية إمكانية لعودة السكان إلى مناطقهم التي تحولت إلى أطلال.
على المسار ذاته، صممت النسخة الثانية من العملية لتستهدف ما تبقى من مدينة غزة، وتقوم هذه المرحلة على استخدام قوة نارية أعنف، تشمل القصف السجادي واسع النطاق، والنسف بـ"الروبوتات" المفخخة، والأحزمة النارية من الطيران الحربي، في محاولة لإزالة كل ما يعترض طريق القوات، سواء أكان عائقا عمرانيا، أم كتلة سكانية، أو نقطة قتالية للمقاومة.
وتهدف هذه المرحلة إلى دفع نحو مليون فلسطيني محتشدين في غربي مدينة غزة إلى الجنوب بالقوة، بما يعني- للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب- تفريغ شمالي وادي غزة بأكمله من سكانه، وتحويله إلى أرض فارغة ومدمرة بالكامل.
ومن منظور أوسع، يتقاطع هذا المسار مع رؤية إدارة ترامب التي طُرحت منذ يناير/كانون الثاني المنصرم، حينما تحدث هو وفريقه بوضوح عن ضرورة تهجير سكان غزة باعتبار أن إعادة إعمار القطاع "غير ممكنة" بوجودهم.
الشرط الرئيسي الذي وُضع آنذاك أن يكون القطاع خاليا من السكان حتى يكون الإعمار "سلسا"، ما ينعكس اليوم في طبيعة العمليات العسكرية الإسرائيلية الساعية إلى تحويل المدن والمخيمات إلى ركام، وفرض استحالة العيش، أو إعادة الإعمار بوجود الأهالي.
تقوم هذه الإستراتيجية على مبدأ أن التدمير الشامل يشكل أداة لـ"تحييد المقاومة"، لا عبر استهداف بنيتها العسكرية فحسب، بل أيضا عبر استئصال الكتلة السكانية نفسها التي تراها "إسرائيل" مجتمعا معاديا بمجمله. فوجود هذا المجتمع، من وجهة النظر الإسرائيلية، تهديد قائم يجب إزالته؛ بوصف ذلك ضرورة أمنية وإستراتيجية.
وهكذا، فإن المسار الممتد من انهيار التهدئة وصولا إلى وتيرة العمليات الميدانية الحالية، مرورا بالإصرار الأميركي على حصر المساعدات في جنوبي القطاع وتحويلها إلى "مصائد قتل" تدار تحت إشراف مباشر، يكشف عن خطة متكاملة للهندسة الديمغرافية، ترتكز إلى القضاء على الكتلة السكانية في قطاع غزة، وتفريغه من أهله، وتحويله إلى أرض قاحلة مهيأة لأي مشاريع مستقبلية.
مستثمر أميركي مع يميني صهيوني
حلت مقاربة "الحسم الشامل" أو "الحل الشامل" خطابا متقدما في الإدارة الأميركية قبل أن تتحول إلى شعار تتبناه الحكومة الإسرائيلية، على الرغم من خلافاتها الداخلية حول المسار التفاوضي.
وقد وجد بنيامين نتنياهو نفسه محرجا في ملاحقة الموقف الأميركي الأكثر تطرفا وتصعيدا من الموقف الإسرائيلي الرسمي، إذ كان ستيف ويتكوف من بادر إلى سحب الوفود وإجهاض مسار الصفقات الجزئية، وهو ما التحق به نتنياهو لاحقا، مبررا موقفه بالتماهي مع الطرح الأميركي.
تنظر الولايات المتحدة إلى قطاع غزة، بمساحته الصغيرة التي لا تتجاوز 365 كيلومترا مربعا، بوصفه معضلة كان ينبغي "حسمها" عسكريا بسرعة وفاعلية، وترى أن تأخر "إسرائيل" في ذلك لم يكن بسبب صعوبة المهمة، بل بسبب عدم حصولها على الغطاء والسلاح اللازمين لـ"إنهاء المهمة"، وفقا لتعبير دونالد ترامب نفسه.
إعلان
وفي هذا السياق، لم يكن مفاجئا أن تكون من أولى شحنات السلاح التي أفرجت عنها إدارة ترامب العشرات من جرافات "D9" ومعدات عسكرية ثقيلة تسلمها الاحتلال في يوليو/تموز الماضي، والتي خصصت لعمليات الهدم والتدمير الشامل، ليتحول ما تبقى من غزة إلى ركام.
ينسجم هذا المصير تماما مع رؤى اليمين الصهيوني الأيديولوجية، التي تنشد غزة أرضا فارغة من سكانها وقابلة لإعادة الاستيطان، تحقيقا لحلم بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير بإعادة بناء المستوطنات التي فككت في العام 2005.
وبالقدر نفسه، يحقق أيضا الطموحات الاستثمارية للرئيس الأميركي دونالد ترامب وفريقه من رجال الأعمال الذين تحولوا إلى مبعوثين خاصين للمنطقة يرسمون السياسة الأميركية من منظور الـ"Business".
لم تعد فكرة "ريفييرا غزة" أو "Gaza Riviera" مجرد طرح إعلامي من ترامب، بل صارت خطة رسمية عرفت باسم "صندوق إعادة بناء غزة والتسريع الاقتصادي".
هذه الخطة، التي صيغت في وثيقة من 38 صفحة، أعدها فريق يضم إسرائيليين مرتبطين بـ"مؤسسة غزة الإنسانية" المدعومة أميركيا وإسرائيليا، مع مساهمة من "مجموعة بوسطن للاستشارات"، وتنسيق فكري مع "معهد توني بلير للأبحاث".
وتطرح الخطة "نقلا مؤقتا" لسكان غزة، وهو تطهير عرقي يرتقي إلى جريمة إبادة بوصف أكده خبراء حقوقيون، عبر تشجيع الفلسطينيين على "الهجرة الطوعية" إلى دول أخرى، أو حصرهم في مناطق "آمنة ومقيدة" في خلال فترة إعادة الإعمار.
كما تقترح الخطة عرض "رموز رقمية" على المالكين لاستثمار حقوق ملكياتهم في مشاريع جديدة، مقابل تمويل حياة بديلة خارج القطاع.
أعادت هذه الرؤية إلى الأذهان مقترحا مشابها قدمه في العام 2024 مهندس "صفقة القرن"، جاريد كوشنر، حين اختزل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في "نزاع عقاري"، عادّا العقارات المطلة على البحر في غزة فرصة اقتصادية ضخمة إذا جرى تطويرها بالشكل المناسب.
وتشمل بنود المشروع إعادة تدوير ركام الأبنية المدمرة لاستخدامها في مشاريع البنية التحتية، وإعادة تخطيط القطاع جغرافيا، ليصبح الساحل الغربي واجهة سياحية فاخرة، والشرق مخصصا لأبراج سكنية تصل إلى 30 طابقا، والوسط للزراعة الحديثة والبيوت المحمية.
ومن غير المستغرب أن يُقَرّ التوجه النهائي للمقاربة الأميركية-الإسرائيلية الذي يتبنى "الحسم أو الحل الشامل" في الاجتماع الذي عقده ترامب لبحث "اليوم التالي" لغزة، بمشاركة فريقه الرئاسي ووزير الخارجية، والوزير الإسرائيلي للشؤون الإستراتيجية، رون ديرمر، إلى جانب كل من جاريد كوشنر وتوني بلير، اللذين لعبا دورا محوريا في صياغة الأفكار الاستثمارية لمستقبل القطاع… مستقبل بلا أهله.
ليس قدرا محتوما
يتضح من مجمل ما سبق أن المسار الراهن هو مسار الحسم الشامل والتطهير العرقي لقطاع غزة من أهله، مسار تلاقت فيه الطموحات الأيديولوجية لليمين الصهيوني مع التوجهات الاستثمارية لإدارة دونالد ترامب، ليشكل انسجاما نادرا في المضي قدما بالمجزرة والإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني.
ولم يترك أمام الناجين من الموت سوى خيار واحد: القبول بالتطهير العرقي ومغادرة هذه الأرض إلى الأبد، سواء عبر إغراءات اقتصادية أو دونها، بعد أن جرى إعدام إمكانية الحياة فيها.
الحاجز الوحيد أمام هذا المشروع هو الشعب الفلسطيني نفسه في قطاع غزة؛ شعب أنهكه الجوع والقتل اليومي، لكنه لم يندفع بعد إلى الانهيار أو رفع الراية البيضاء، بل ظل متماسكا، مسنودا بمقاومة حولت الأرض وركامها إلى ساحات قتال، رافعة كلفة الاحتلال على نحو يجعل كل المشاريع الاستيطانية أو الاستثمارية محض أوهام غير قابلة للتحقق ما دام ثمة من يقاوم ويواجه.
وفي الخلفية يبرز الموقف المصري بوصفه عاملا كابحا، إذ يمنع فتح الأراضي المصرية أمام مليوني فلسطيني يدفعون تباعا نحو الجنوب، ويطرح في المقابل خطة إعمار تمثل نفيا عمليا لفرضية ترامب باستحالة إعمار غزة بوجود أهلها.
غير أن هذا الموقف، الذي تحاول القاهرة أن تحشد خلفه مظلة عربية أوسع، يبقى قاصرا وحده عن وقف آلة الحرب الإسرائيلية ما لم تنجز هذه المظلة وتتمسك بتوجه حاسم وواضح يتكامل مع موقف دولي متصاعد بدأنا نلمس ملامحه في أوروبا والغرب لرفض استمرار الإبادة ووضع حد للشراكة الأميركية المطلقة فيها.
يتطلب الأمر إدراكا جديا من دول المنطقة لحقيقة أن تصريحات بنيامين نتنياهو بشأن التزامه بحلم "إسرائيل الكبرى" لم تكن زلة لسان ولا حديثا عابرا، بل تعبيرا عن اقتناصه فرصة تاريخية لزيادة رقعة الأراضي المحتلة وفق الرؤية التي "بشر" بها دونالد ترامب.
إعلان
ليس ما يحدث في غزة، وما بدأ يتسع في الضفة الغربية، إلا الخطوة الأولى في مشروع توسُّع أعمق يمتد إلى دول الطوق بأسرها، ما لم يتوقف ويجهَض عند حدود القطاع المحاصر، وتتوقف بإجهاضه مفاعيل الإبادة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق