في مختبر جامعة إيموري الأميركية، بدت مشهد الجسيمات الغبارية الدقيقة وهي تسبح داخل البلازما، وكأنها كائنات حية تتصرف وفق دوافعها الذاتية المجهولة لنا.
مثّل هذا المشهد الذي يبدو عبثيا، لغزا فيزيائيا كبيرا حير الباحثين لسنوات. والآن، تمكن فريق علمي من فك شيفرة سلوك تلك الجسيمات السابحة باستخدام الذكاء الاصطناعي المدعوم بالحدس الفيزيائي.
ففي دراسة حديثة نشرت في دورية "بي إن إيه إس"، كشف فريق عن نموذج ذكاء اصطناعي لا يتعلم التنبؤ بحركة الجسيمات الغبارية في بلازما معقدة فحسب، بل يستنتج القوانين الفيزيائية التي تَحكم تلك الحركة، حتى لو كانت هذه القوانين غير معروفة أو لم تُصغ من قبل.
يقول جاستن بيرتون، أستاذ الفيزياء في جامعة إيموري الأميركية، والمشارك في الدراسة، في تصريحات حصرية للجزيرة نت: "اللغز الأصلي الذي أردنا حله كان هل يمكن للذكاء الاصطناعي مساعدتنا في اكتشاف فيزياء جديدة من التجارب؟" ويبدو أن الباحثين قد وجدوا ضالتهم في البلازما للإجابة عن هذا السؤال.

البلازما حولنا!
البلازما هي الحالة الرابعة للمادة، وتختلف عن الحالات الثلاثة المعروفة وهي الحالة الصلبة والسائلة والغازية. تتشكل البلازما عندما تكتسب ذرات الغاز طاقة كافية، فتفقد ارتباطها بالإلكترونات التي تتخذ مدارات حولها، ومن ثم تصبح الأيونات حرة عن نواة الذرة.
توجد البلازما في أماكن كثيرة مثل الشمس والنجوم، والشفق القطبي، والتفريغ الكهربائي في مصابيح النيون، وكلها تشترك في حالة من التوهج المميزة للبلازما.
لنأخذ مصابيح النيون مثالا. يحدث التفريغ الكهربائي في مصابيح النيون عند تسليط كهرباء عالية الجهد على غاز النيون الموجود داخل أنبوب المصباح الزجاجي تحت ضغط منخفض.
الكهرباء تسبب تسارع الإلكترونات الموجودة في الغاز، وعندما تصطدم هذه الإلكترونات بذرات غاز النيون، فإن تلك الذرات تفقد بعض إلكتروناتها، وتؤدي إلى تكوين حالة "البلازما"، أثناء هذه العملية تطلق الطاقة على شكل فوتونات ضوئية، وهذا هو الضوء الذي نراه.

مسرح فيزيائي من الغبار
عندما تطفو جسيمات صلبة دقيقة، أي ميكرومترية الحجم، ومشحونة بالكهرباء، داخل البلازما، تسمى تلك البلازما "بلازما الغبار"، إذ يضاف إلى أنوية الذرات والإلكترونات السابحة، المكونة للبلازما، هذه الجسيمات الغبارية.
إعلان
قد تكون تلك الجسيمات من مواد مثل الكربون أو البلاستيك أو الزجاج أو أي شيء مناسب، وتُشحن بالكهرباء بسبب اصطدامها المتكرر مع الإلكترونات والأنوية.
في البلازما، تكون الإلكترونات أصغر وأسرع بكثير من الأنوية، لذلك تصطدم بجسيمات الغبار بمعدل أعلى بكثير مقارنة بأنوية الذرات، وعندما يلتصق الإلكترون بجسيم الغبار، يمنح الجسيم شحنة سالبة.
وفي المقابل، تصطدم أنوية الذرات (التي تكون موجبة الشحنة) أيضا بجسيمات الغبار، وعندما تلتصق النواة بجسيم الغبار، تمنحه شحنة موجبة.
ولأن القاعدة الأساسية للشحنات هي تنافر الجسيمات المتشابهة الشحنة، وتجاذب الجسيمات مختلفة الشحنة، تطفو الجسيمات الغبارية، لأنها تصبح مشحونة بشحنة سالبة عادة، فيحدث توازن بين قوى الجاذبية التي تسحبها لأسفل والقوى الكهربائية داخل البلازما التي تدفعها لأعلى بسبب التنافر مع الشحنة السالبة في الأسفل، كأنها في لعبة شد الحبل بين قوتين.

انقشاع لغز سحب الغبار الكوني
تكتسب تلك الجسيمات أهميتها باعتبارها تشكل نظاما فيزيائيا فريدا يمكننا فيه رؤية ودراسة تفاعلات معقدة بين جسيمات مشحونة بالعين المجردة. هذه التفاعلات تحدث في الفضاء مثل حلقات زحل أو سحب الغبار الكوني، أو في مصانع الإلكترونيات، أو محطات الاندماج النووي.
كما تتسم القوى التي تحكم تفاعل الغبار السابح في تلك البلازما بطبيعة غير تقليدية، ويعود ذلك إلى خرق جسيمات الغبار للسلوك المتوقع في قوانين الفيزياء. ففي الطبيعي، عندما يتصادم جسيمان، يرتد كل منهما في الاتجاه المعاكس، لكن ما تفعله جسيمات الغبار أمر مختلف وصادم.
هذا السلوك الصادم يخالف قانون نيوتن الثالث الشهير والذي يقول إن لكل فعل ردَّ فعل مساويا له في المقدار ومضاد له في الاتجاه. يشرح بيرتون: "الجسيمات في بلازما الغبار تتأثر بقوى معقدة تتوسط فيها البلازما المحيطة، وهي قوى غير تبادلية. يمكن لجسيمين أن يتجاذبا من طرف ويتنافران من الطرف الآخر، وهذا يجعل كتابة نموذج بسيط لها على الورق أمرا شبه مستحيل".
وتتساقط البلازما الغبارية المكونة من أيونات موجبة بشكل عمودي نحو الإلكترود السالب في القاع أو تتجه من الفضاء صوب سطح كوكب زحل السالب، فتواجه جسيمات سالبة الشحنة تسبح بشكل مستقر تقريبا. وتتجمع بعض الأيونات الموجبة مؤقتا أسفل كل جسيم سالب لانجذابهما النابع عن اختلاف الشحنات، مكوِّنةً ما يُشبه الذيل الموجب خلف الجسيم السالب، وهو أمر منطقي.
لكن المشكلة تظهر عندما يؤدي هذا الذيل الموجب المؤقت وراء الجسيم إلى انجذاب بعض الجسيمات السالبة الأخرى للذيل، متجاهلة بعضا من قوى التنافر بينها وبين الجسيم السالب الذي يقود الذيل الأيوني الموجب المؤقت، وحينها تخالف قانون نيوتن الثالث.

الذكاء الاصطناعي يفك اللغز
استخدم الفريق نموذجا قائما على الشبكات العصبية الحاسوبية لتعلّم القوى المؤثرة على كل جسيم بناءً على بيانات ثلاثية الأبعاد لحركته. الجديد في نهج الفريق هو دمج الحدس الفيزيائي ضمن بنية الذكاء الاصطناعي، صمموا النموذج ليراعي القوانين الأساسية كقانون نيوتن الثاني.
إعلان
ويشرح بيرتون: "من السهل أن نطلب من الذكاء الاصطناعي التنبؤ، والتعلم من حركة الجسيمات، والسؤال عن وجهتها التالية. أما أن نجعله يتعلم "لماذا" تتحرك، فهو أصعب بكثير".
وبدأ الفريق بنموذج يحوي أبسط الفرضيات، ثم أضافوا فرضيات أكثر تعقيدا واحدة تلو الأخرى تدريجيا حتى يستطيع النموذج أن يشرح حركة الجسيمات بدقة عالية. ثم مثّلوا كل قوة مؤثرة على الجسيمات بشبكة عصبية لتتفاعل مع الشبكات العصبية الأخرى. ويضيف بيرتون: "ومن خلال هذا التمثيل، استطعنا تعلم القوى من البيانات من دون تحيّز مسبق نحو شكل رياضي معين".
واختبر الفريق نموذجهم على عدة تجارب مع ظروف مختلفة، وحقق دقة تجاوزت 99% في التنبؤ بتسارع الجسيمات وهي نتيجة رائعة بالفعل، لكن ليس هذا ما أراده الباحثون بالضبط.
يمكننا تشبيه نموذج الذكاء الاصطناعي المستخدم في تلك التجارب كطفل خارق القدرات، لكنه لا يعرف أساسيات العلم الذي نستهدف حل مشكلاته. ويمكنك استخدام قدرات هذا الطفل الخارق في التنبؤ مباشرة بتغذيته بالبيانات الواقعية لكنك لن تحصل على تفسير علمي لأنه قد يصل إلى تنبؤ سليم من دون القدرة على تفسير ذلك.
أما النهج الذي اتخذه العلماء في هذه التجربة فكان الأصعب؛ إذ اصطحب العلماء هذا الطفل إلى دروس يومية عبر تغذية شبكاته العصبية بقواعد المعضلة العلمية المستهدفة، ليتمكن من استخدامها هو أيضا. ومع قدراته الخارقة على تحليل الأنماط يخلص إلى التنبؤ، لكن هذه المرة تنبؤ مستند إلى القواعد والقوانين العلمية التي تعلمها.
لذلك، لم يكتفِ الفريق بالدقة الهائلة في التنبؤ؛ وكان عليهم التأكد من أن الذكاء الاصطناعي لم يتعلم الوصول للناتج النهائي فحسب، بل فهم أيضا كل قوة على حدة، لتصبح النتيجة النهائية مبنية على أساس راسخ.
يقول بيرتون: "كنا بحاجة إلى التأكد من أن النموذج قد تعلم كل قوة بشكل مستقل؛ لذا قمنا باستنتاج كتلة كل جسيم بطريقتين مستقلتين تماما، وكانت النتيجة متوافقة. في تلك اللحظة، عرفنا أن المشروع سينجح".
يشرح إيليا نيمنمان، أستاذ الفيزياء والأحياء في جامعة إيموري، ومدير مبادرة نمذجة النظم الحية، والمشارك في الدراسة، معضلة التنبؤ وعلاقتها بالتفسير العلمي: "من القضايا ذات الصلة أن الدقة التنبؤية لا تتطابق مع الفهم العلمي. ومن الأمثلة الكلاسيكية على ذلك أن نموذج بطليموس لدوران الأفلاك كان قادرا على التنبؤ بحركة الكواكب بشكل جيد إلى حد ما، لكنه لم يعكس الفيزياء الحقيقية للنظام الشمسي، وجاءت البصيرة لاحقا، مع ميكانيكا نيوتن".

فيزياء جديدة!
واحدة من المفاجآت الكبرى التي كشفتها الدراسة، والناتجة عن نهجهم التعليمي للذكاء الاصطناعي، أن شحنة الجسيمات لا تتبع القوانين المتوقعة من نظرية "الحركة المدارية المحدودة"، والتي تُستخدم في فيزياء البلازما للتنبؤ بشحنة جسيمات الغبار.
تفترض هذه النظرية أن شحنة الجسيم مرتبطة بكتلته أو حجمه بشكل مباشر وثابت. لكن بدلا من العلاقة النظرية بين شحنة الجسم وكتلته، وجد الفريق أن العلاقة كانت متغيرة وبقوة تتراوح بين 0.3 و0.8، تبعا لضغط الغاز.
فعندما استخدم الباحثون نموذجهم المدعوم بالذكاء الاصطناعي لتعلّم القوى المؤثرة على الجسيمات، استنتجوا أن الجسيمات لم تتبع النمط الكلاسيكي، حتى عندما كانت في نفس الموضع داخل البلازما. إذ وجدوا أن الضغط المحيط يؤثر على الشحنة بشكل مباشر، وهو عامل لا تأخذه نظرية الحركة المدارية المحدودة بالحسبان. كما اكتشف الباحثون وجود عوامل أخرى -مثل الاصطدامات أو البيئة المحيطة أو الذيل الأيوني- تؤثر على الشحنة، وهذه العوامل تتجاهلها نظرية الحركة المدارية المحدودة تماما.
إعلان
يقول بيرتون: "لا نعرف حتى الآن لماذا تتغير الشحنة مع حجم الجسيم بطريقة غير متوقعة. فحصنا الفرضيات الشائعة في نظرية الحركة المدارية المحدودة، لكن انتهاك تلك الفرضيات لم يكن كافيا لتفسير بياناتنا. ما زال هذا العمل مستمرا، ونأمل أن يُلهم دراسات نظرية جديدة حول شحنة الجسيمات".
منهجية عابرة لحدود الفيزياء
تكمن قوة هذا النموذج في أنه لا يهتم إن كان النظام "حيًّا" أو "غير حي"، طالما يحترم المبادئ الفيزيائية الأساسية، وهذا يجعله قابلا للتطبيق على مجموعة واسعة من الأنظمة المعقدة، بما في ذلك أنظمة بيولوجية.
وعرض نيمنمان نهج الفريق في مركز الدراسات المتقدمة للسلوك الجماعي في كونستانس في ألمانيا، واستكشف كيفية توسيع نطاق العمل ليشمل دراسات سلوك الحيوان، فيقول: "من أكثر جوانب التفاعلات بين الكائنات الحية تعقيدا أن لها غالبا حالات داخلية، غير مرئية لنا، يمكن أن تؤثر بشكل كبير، أو حتى تحدد سلوكها وتفاعلها مع الآخرين. ويُعد فهم كيفية تأثير هذه المتغيرات الداخلية الخفية على السلوك الملحوظ تحديا رئيسيا في مجالات مثل السلوك الاجتماعي والجماعي للحيوانات".
ويضيف بيرتون: "العالم الطبيعي مليء بأنظمة متعددة الجسيمات الحية، من الخلايا إلى الحيوانات، وهي أنظمة أكثر تعقيدا من جسيمات الغبار، لكن تشترك معها في شيء واحد وهي التفاعلات غير التبادلية (أي مثل البلازما الغبارية التي تناقض قانون نيوتن الثالث أي لا تتنافر فيها الجسيمات متضادة الشحنة) والتي لا يمكن اشتقاقها من قانون فيزيائي بسيط. ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعدنا في فهم هذه التفاعلات من البيانات التجريبية".
وفي مجال مثل الفيزياء، حيث الهدف هو اكتشاف المجهول، تبرز معضلة الثقة في الذكاء الاصطناعي بقوة. ويعلق بيرتون قائلا: "يمكن للذكاء الاصطناعي التعلم من خلال المحاكاة، وعندها نعرف الإجابة مسبقا، حيث يمكن رؤية مدى جودة تعلمه. لكن في مجال العلوم (على أرض الواقع)، نحن دائما في طليعة التقدم، ولا نعرف الإجابة عن الأشياء التي نبحث فيها. نحتاج إلى التحقق مما يتعلمه الذكاء الاصطناعي من البيانات التجريبية، وهو أمر يتطلب بعض التفكير الإبداعي. وعلى نطاق أوسع، نحتاج إلى أن يثق الجمهور بما يمكن أن يقدمه الذكاء الاصطناعي للاكتشافات العلمية".
وتقدم هذه الدراسة مثالا مثيرا على ما يمكن للذكاء الاصطناعي تحقيقه عند دمجه بذكاء مع العلوم كالفيزياء والأحياء، متجاوزا حدوده التقليدية في التنبؤ، وينتقل إلى منطقة أكثر إثارة للمساهمة في اكتشاف قوانين جديدة. وبينما تبقى بعض الأسئلة مفتوحة، مثل طبيعة شحن الجسيمات الدقيقة، فإن هذه الدراسة تضع حجر الأساس لمنهجية جديدة كليا في فهم الأنظمة المعقدة من خلال التعلم من البيانات التجريبية من دون فرض أي شكل مسبق للمعادلات.
0 تعليق