كيف تُصاغ إرادة الدول خلف أبواب غرف التفاوض المغلقة؟ وهل التفاوض مهارة كلامية محضة، أم هو ساحة خفية لصراع الإرادات وموازين القوة؟ وما الذي يميز الطريقة التفاوضية الإيرانية التي استطاعت أن تدير ملفا معقدًا مثل الملف النووي؟ وهل يمكن لثقافة "البازار" العريقة أن تتحول إلى إستراتيجية دبلوماسية على مستوى العلاقات الدولية؟
هذه الأسئلة وغيرها يحاول كتاب "قوة التفاوض" لوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي -الذي يعد أحد أبرز مهندسي المباحثات النووية- أن يكشف عنها.
شكَّلت ترجمة كتاب "قوة التفاوض" مبادئ وقواعد المفاوضات السياسية والدبلوماسية، إضافة مهمة في حقل دراسات التفاوض والعلاقات الدولية، فالكتاب الصادر حديثًا بترجمة الدكتورة فاطمة محمدي إلى العربية عن دار هاشم، ليس مجرد سرد لتجربة شخصية في العمل الدبلوماسي، بل هو محاولة لتقعيد خبرة ممتدة على مدى 4 عقود من العمل الأكاديمي والميداني في السياسة الخارجية الإيرانية.

أهمية خاصة
اكتسب صدور الكتاب بالفارسية عام 2023 أهمية خاصة كونه تزامن مع مرحلة شهدت فيها المنطقة مفاوضات متشابكة حول الملفات النووية والأمنية والإقليمية.
لا يقدَّم الكتاب بوصفه مرجعًا أكاديميًا وحسب، بل على أنه أيضا نافذة على الذهنية التفاوضية التي صاغت واحدة من أعقد جولات المباحثات الدولية في العقدين الأخيرين، وهي مفاوضات الملف النووي الإيراني.
ومن هنا فإن القراءة التحليلية له تتيح مقاربة مزدوجة، الأولى معرفية، تبحث في البنية المفهومية والمنهجية التي يطرحها عراقجي، والثانية تفسيرية، تسعى إلى استجلاء ملامح العقل التفاوضي الإيراني كما تجلت على لسان أحد أكبر دبلوماسيي إيران ومفاوضيها.

بين الطابع الأكاديمي والسرد التجريبي
يقع الكتاب في 6 أبواب متسلسلة، تبدأ بتحديد المفاهيم الأساسية للتفاوض، وتنتهي بعرض ما يسميه المؤلف "مساومة البازار" بوصفها نهجاً إيرانياً متجذراً في الثقافة المحلية، ومنذ الصفحات الأولى، يتضح أن عراقجي يجمع بين أسلوبين.
إعلان
الأسلوب الأكاديمي: ويظهر في التعريفات والتقسيمات النظرية والحرص على توضيح المفاهيم مثل الحديث عن أنواع المفاوضات أو أشكال القوة، فيمنح هذا الجانب الكتاب طابعاً منهجياً يصلح للاستخدام الجامعي أو مرجعًا للباحثين في العلوم السياسية. والأسلوب التجريبي: ويتبدى في استدعاء الوقائع المباشرة من غرف التفاوض، سواء في جولات جنيف أو في لقاءات ثنائية مع الوفود الغربية، وفي هذه المواضع تتكشف ملامح العمل الدبلوماسي من الداخل، توتر اللحظة ولغة الجسد وردود الفعل غير المحسوبة.هذا التداخل بين الأكاديمي والتجريبي يمنح الكتاب طابعاً مميزاً، فهو يأتي من داخل التجربة السياسية الإيرانية نفسها، ومع أن البناء المنهجي للكتاب يضفي عليه صبغة أكاديمية واضحة، فإن محتواه يظل معبراً عن النظرة الإيرانية الرسمية في ملفات التفاوض.
فالمؤلف ليس باحثاً ولا محللاً من الخارج، بل أحد أبرز الفاعلين في العملية التفاوضية، الأمر الذي يجعل الكتاب وثيقة تمثل رؤية دبلوماسية رسمية بقدر ما هو مرجع معرفي.

فصول الكتاب
يخصص عراقجي الباب الأول لتأصيل معنى التفاوض، فيقدمه بوصفه حواراً أصيلاً في طبيعة الإنسان ووسيلةً لتجاوز النزاعات وتحقيق الصفقات المثلى.
هذا التصور يضع التفاوض ضمن إطار فلسفي أنثروبولوجي أكثر من كونه تقنية سياسية، ثم يضيف أن التفاوض يقوم على تفاعل البيان والكلام، أي على القدرة في عرض المواقف وتبادل الحجج مباشرة، وهو ما يجعل اللغة الأداة الجوهرية في إدارة المفاوضات وصياغة الحلول.
وفي الباب الثاني، يصنف المفاوضات تصنيفات متعددة، مرة بحسب الهدف (تعاون، حل خلاف، مواجهة ضغوط ..)، ومرة بحسب الشكل (ثنائية، متعددة الأطراف، سرية أو علنية).
ورغم الطابع التقليدي لهذه التصنيفات، إلا أنها تتيح للقراء العرب فرصة للتعرف على منظومة شاملة تعكس خبرة ممارس للتفاوض.
القوة الوطنية بوصفها ركيزة للتفاوض
من أبرز إسهامات الكتاب تركيزه على العلاقة بين القوة الوطنية ونجاح المفاوضات، ويحدد عراقجي 4 أشكال من القوة، الصلبة والناعمة والمعنوية والذكية.
ويرى أن المفاوض الناجح لا ينطلق من مهاراته الفردية فحسب، بل من رصيده الوطني بجميع عناصره، العسكرية والاقتصادية والعلمية والثقافية.
ويخصص مساحة لعرض "دراسة حالة" عن المفاوضات النووية بين إيران ومجموعة (5+1)، حيث يبين كيف وظفت طهران عناصر القوة المتاحة لديها، من القدرة الدفاعية إلى الصبر الإستراتيجي.
وتقدم هذه الدراسة وإن حملت بُعداً تبريرياً للسياسات الإيرانية مثالاً ملموساً على تطبيق المفاهيم النظرية في ساحة تفاوض حقيقية.
يحرص عراقجي على تفكيك الصورة النمطية الرائجة عن المفاوضات بوصفها لقاءات دبلوماسية أنيقة، ليؤكد أنها في جوهرها حرب إرادات، فبمجرد أن تغلق أبواب القاعة أمام الإعلاميين، تبدأ -بحسب وصفه- مرحلة "اجتياز حقل الألغام"، حيث يصبح الخطأ البسيط مكلفاً.
هذا التشبيه الحربي يشي بعقلية ترى التفاوض امتداداً للصراع، لا قطيعة معه، وهو ما ينسجم مع التقاليد الإيرانية في النظر إلى الدبلوماسية باعتبارها جزءاً من منظومة الدفاع الوطني، لا نشاطًا منفصلاً أو محايداً، وهنا تكمن قيمة الكتاب التحليلية، فهو يكشف عن الإطار الذهني الذي يوجه سلوك المفاوض الإيراني، حتى وإن لم يصرح به مباشرة.
حوادث لطيفة
يضم الكتاب عدداً من القصص الطريفة أو المعبرة التي حدثت أثناء المفاوضات، مثل حادثة القلم مع جون كيري أو دموع ويندي شيرمان، هذه القصص تضيف بعداً إنسانياً للنص، وتظهر التوترات الخفية التي قد لا ترصدها البيانات الرسمية.
إعلان
لكن الأهم من الجانب القصصي هو ما تكشفه هذه الوقائع عن أسلوب التفاوض الإيراني من صلابة في المواقف، وقدرة على إطالة أمد الحوار، واستعداد لاستخدام التكتيكات النفسية لإرهاق الطرف الآخر، وهي سمات يربطها عراقجي في الباب السادس بمفهوم "مساومة البازار"، أي المساومة المستمرة حتى اللحظة الأخيرة.
هذا المفهوم المستمد من تجربة تجارة السجاد الإيرانية، لا يُطرح في الكتاب باعتباره مجرد استعارة ثقافية، بل منهجًا عمليا أوصى به المؤلف للدبلوماسيين الإيرانيين، وهو ما يثير نقاشاً حول دور الثقافة المحلية في صياغة أنماط التفاوض الدولية.

بين الدلالات الفكرية والسياسية
من خلال فصول الكتاب، يتضح أن عراقجي يتأرجح بين تقديم مادة أكاديمية تصلح للتدريس الجامعي، مثل التعريفات والتقسيمات والمفاهيم، وبين تجربة براغماتية تعكس مدرسة سياسية محددة، هذا المزج يجعل الكتاب ذا طبيعة مزدوجة، فهو ليس أطروحة نظرية خالصة، ولا مذكرات شخصية بالكامل، بل شيء بينهما.
من منظور بحثي، قد يرى القارئ أن الجانب الأكاديمي يفتقر أحياناً إلى توثيق مقارن مع أدبيات التفاوض الغربية، حيث يكتفي المؤلف بالتعريف والتقسيم دون إحالات إلى مدارس فكرية معروفة، لكن في المقابل، يمنحه الجانب التجريبي مصداقية ربما لا نجدها في الكتب الأكاديمية البحتة.
قراءة الكتاب بتمعن تكشف عن عدد من الدلالات، منها المزج بين المحلي والعالمي، فاعتماد صورة "البازار" يعبر عن محاولة ربط الموروث الثقافي الإيراني بالممارسة الدبلوماسية الدولية، ومنها المثابرة كأداةً تفاوضية، أي الإصرار على إطالة المباحثات إلى أن يتعب الطرف الآخر، وهو أسلوب يختلف عن ثقافات تفاوضية أخرى تميل إلى الحلول السريعة.
ومنها أولوية المصلحة القومية، حيث يتكرر في النص التأكيد على أن أي تضحية شخصية أو مخاطرة بالسمعة تظل مبررة إذا خدمت المصلحة الوطنية، وكذلك التفاوض بوصفه إطارًا للصراع لا للتسوية فقط، فالمفاوضات ليست، في نظر المؤلف، مساراً بديلاً عن القوة، بل مجالاً آخر لممارستها بصور مختلفة.
تقييم كتاب "القوة التفاوضية"
يمكن النظر إلى كتاب "قوة التفاوض" من زاويتين:
الأولى القيمة المعرفية، حيث يقدم الكتاب إطاراً شاملاً لمفاهيم التفاوض معزَّزاً بخبرة عملية، والثانية الحدود الموضوعية، إذ يظل النص محكوماً بزاوية نظر مؤلفه على أنه جزء من الفريق الإيراني.
لذا يغيب عنه التحليل المقارن لمقاربات الأطراف الأخرى، كما يغيب النقد الذاتي للتجربة الإيرانية نفسها، كذلك فإن الاعتماد على الأمثلة النووية قد يجعل الكتاب أقل تنوعاً من حيث قضايا التفاوض الأخرى.
ختاما، فإن الكتاب لا يقدم وصفة جاهزة، بقدر ما يفتح الباب أمام النقاش حول كيفية التفاوض في بيئة مشبعة بالصراعات والضغوط، وربما تكمن أهميته في أنه يذكر القارئ بأن التفاوض ليس مجرد فن للكلام، بل هو انعكاس مباشر لموازين القوة، وللقدرة على الصبر، وللثقافة السياسية التي تشكل هوية المفاوضين.
وبهذا المعنى، فإن "قوة التفاوض" ليس كتاباً عن الماضي فحسب، بل هو أيضاً خريطة ذهنية لفهم ما قد يجري في الحاضر والمستقبل على طاولات الحوار بين إيران والعالم.
0 تعليق