Published On 20/9/202520/9/2025
|آخر تحديث: 19:11 (توقيت مكة)آخر تحديث: 19:11 (توقيت مكة)
في وقت يكثر فيه الحديث داخل البيت الأبيض والكونغرس عن "إعادة التصنيع" باعتبارها ركيزة لتعزيز القوة الاقتصادية، تطرح دراسة حديثة نشر مضمونها عبر وكالة بلومبيرغ قراءة معمقة لتجربة الولايات المتحدة قبل أكثر من قرنين.
تلك الحقبة، التي تزامنت مع بدايات تشكّل الاقتصاد الأميركي، لم تكن ثمرة خطة مدروسة أو إستراتيجية صناعية متكاملة، بل نتاج مزيج من الضرورات السياسية، والحروب الخارجية، والصدف التاريخية التي أسهمت في بناء قاعدة صناعية شكلت لاحقًا أساس صعود أميركا إلى موقع القوة الاقتصادية الأولى عالميًا.
من رفض آدم سميث إلى تحدي ألكسندر هاميلتون
ويشير تقرير بلومبيرغ إلى أن الجدل حول جدوى التصنيع في أميركا بدأ مبكرًا جدًا، مع صدور كتاب "ثروة الأمم" لآدم سميث عام 1776، الذي اعتبر أن تحويل رؤوس الأموال من الزراعة إلى الصناعة سيؤدي إلى تقليص الناتج القومي.

لكن ألكسندر هاميلتون، أول وزير للخزانة الأميركية، دافع عن الفكرة معتبرا أن الصناعة ضرورية لاستقلال الاقتصاد الوطني، غير أن مقترحاته لاقت معارضة قوية داخل الكونغرس الذي كان يفضل حينها الاستثمار في الزراعة.
وبرغم هذا الجدل، أثبتت الأحداث لاحقًا أن الصناعة ستصبح محورًا أساسيًا في مسار الاقتصاد الأميركي، وإن لم يكن ذلك بفضل سياسة رسمية بل عبر عوامل خارجية فرضت نفسها على الواقع.
الحروب عامل حاسم
وبحسب ما أورده البروفيسور جوشوا روزنبلوم من جامعة ولاية آيوا في الدراسة التي استندت إليها بلومبيرغ، فإن الحروب مع بريطانيا وفرنسا شكلت نقطة انعطاف كبرى.
فقد أدى الحظر التجاري الذي فرضه الكونغرس عام 1807 إلى إغلاق الأسواق الأوروبية أمام الولايات المتحدة، وهو ما وفر حماية شبه كاملة للصناعات الناشئة مثل المنسوجات. كما عززت حرب 1812 مع بريطانيا هذا الاتجاه، لتتوسع صناعة النسيج محليًا وتوفر بدائل عن الواردات.إعلان
في الوقت ذاته، أنشأت الحكومة الأميركية ترسانات عسكرية لتصنيع الأسلحة، مثل ترسانة "سبرينغفيلد"، مما أسهم في تطوير تقنيات دقيقة مثل القياسات الميكانيكية وإنتاج الأجزاء القابلة للتبديل، وهي خطوة اعتُبرت ثورة تكنولوجية في تلك المرحلة ومهدت لنظام الإنتاج الصناعي الواسع.
نقل تكنولوجيا وتدفق خبرات
ولفت تقرير بلومبيرغ إلى أن نقل التكنولوجيا كان أحد الأعمدة الأساسية في هذا المسار، فقد ساعدت اللغة المشتركة وتدفق المهاجرين البريطانيين المتمتعين بخبرات تقنية على إدخال أساليب متطورة في الميكانيكا وصناعة النسيج والأسلحة.

هذه الهجرة لم تكن مجرد إضافة عددية بل شكلت نقلة نوعية في المهارات، حيث جلبت معها تقنيات كانت مستخدمة في بريطانيا، القوة الصناعية الأولى آنذاك.
هذا الامتزاج بين الحماية الجمركية المحلية والتدفق الخارجي للخبرات ساعد في بناء أساس صناعي أكثر صلابة، حتى وإن كانت المنتجات الأميركية في ذلك الوقت "غير قادرة على منافسة الجودة الأوروبية"، كما ورد في الدراسة، إذ أظهرت الأسواق الكندية أن الأقمشة الأميركية لم تكن على مستوى مثيلاتها البريطانية.
المنافسة الداخلية تكسر الجمود
ورغم أن الحماية الجمركية أبعدت المنافسة الدولية جزئيًا، فإن السوق الأميركية شهدت منافسة شديدة بين الشركات المحلية الصغيرة التي كانت تسيطر على قطاعات مختلفة. هذه المنافسة الداخلية القوية، كما بين التقرير، أسهمت في تحفيز الابتكار وإجبار المنتجين على تطوير أساليب إنتاجهم وتحسين الكفاءة.
وهنا يكمن الفرق الجوهري بين التجربة الأميركية وتجارب دول مثل الأرجنتين في القرن الـ20، التي تبنت سياسات حمائية دون أن ترافقها منافسة محلية حقيقية، مما أدى إلى فشل صناعاتها الوليدة، بينما نجحت الولايات المتحدة، على العكس في خلق بيئة داخلية ديناميكية دعمت لاحقًا الثورة الصناعية الثانية.
دروس للحاضر وصناع القرار
وترى وكالة بلومبيرغ أن تجربة الولايات المتحدة الصناعية المبكرة تحمل دروسًا مهمة لصانعي السياسات اليوم، فهي توضح أن الحماية الجمركية وحدها ليست كافية، بل يجب أن ترافقها سياسات حكومية داعمة، وتدفق للمهارات الأجنبية، ومنافسة داخلية قوية.

هذه العناصر مجتمعة أسهمت في تمهيد الطريق للولايات المتحدة كي تصبح بحلول عام 1870 رائدة في الثورة الصناعية الثانية، التي اعتمدت على الكهرباء والمحركات الاحتراقية وأسست لمرحلة نمو اقتصادي استثنائية.
أما اليوم، في ظل حديث الرئيس دونالد ترامب وسابقيه عن "عصر صناعي جديد"، فإن فهم تلك التجربة التاريخية يساعد على إدراك أن العودة إلى التصنيع ليست مجرد شعار سياسي، بل تتطلب مزيجًا متكاملًا من الظروف والسياسات الشجاعة والابتكار المستدام.
0 تعليق