غزة - رويترز: على مدى عقد من الزمن، ظل شادي سلامة الريس الموظف بأحد البنوك يسدد قرضاً عقارياً بقيمة 93 ألف دولار لشقته في مبنى حديث شاهق الارتفاع، بأحد الأحياء الراقية في مدينة غزة.
والآن، يعيش هو وأسرته في فقر مدقع بعد فرارهم من ضربة إسرائيلية هدمت المبنى في غمضة عين، ليتحول إلى كومة أنقاض وسط سحابة من الدخان والغبار.
ويمثل الهجوم الذي وقع في الخامس من أيلول الجاري على برج مشتهى المكون من 16 طابقاً، بداية حملة هدم مكثفة نفذها جيش الاحتلال مستهدفاً المباني الشاهقة قبل الهجوم البري على قلب المدينة المكتظة بالسكان، الذي بدأ الأسبوع الماضي.
على مدى الأسبوعين الماضيين، أعلن جيش الاحتلال أنه هدم ما يصل إلى 20 برجاً سكنياً في مدينة غزة. وتسببت هذه الحملة في تشريد المئات. وفي الإطار الزمني نفسه، سوّت قوات الاحتلال مناطق بالأرض في أحياء الزيتون والتفاح والشجاعية والشيخ الرضوان وغيرها.
وتظهر صور الأقمار الصناعية الدمار الذي لحق بعشرات المباني في الشيخ الرضوان منذ آب الماضي.
ويخشى الريس أن يكون التدمير هدفه تهجير سكان مدينة غزة بشكل دائم، وهو رأي تتفق معه مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان. وقال المتحدث باسم المفوضية ثمين الخيطان، إن مثل هذه الحملة المتعمدة لنقل السكان تعد تطهيراً عرقياً.
وأضاف الريس، "بعمري ما تخيلت إني أترك مدينة غزة لكن الانفجارات ما بتتوقف.. ما بقدر أخاطر بأطفالي ولذلك أنا بجهز أغراضي وراح أطلع على الجنوب". وتعهد بالبقاء في القطاع قائلاً، "لو خيروني بأي بلد في العالم ما راح أختار إلا غزة".
وفي الأسبوع الماضي، خلص تحقيق للأمم المتحدة إلى أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة. ويقول خبراء الأمم المتحدة، إن تدمير المساكن والبنية التحتية المدنية يعد جريمة حرب.
قبل الحرب، اشتهر برج مشتهى بين طبقة المؤهلات المهنية والطلاب في مدينة غزة بإطلالته على البحر وموقعه الملائم القريب من حديقة عامة وجامعتين.
وقال الريس، إن البرج كان يؤوي في الأصل نحو 50 عائلة، لكن هذا العدد ارتفع إلى ثلاثة أمثال خلال الأشهر القليلة الماضية، بعد أن استقبل سكانه أقاربهم النازحين من أجزاء أخرى من غزة.
وانتشرت عشرات الخيام التي تؤوي المزيد من العائلات النازحة حول قاعدة البرج. ولحقت أضرار بالطوابق العليا من المبنى جراء غارات سابقة.
وأشار الريس إلى أنه في صباح الخامس من أيلول، تلقى أحد الجيران اتصالاً من ضابط في جيش الاحتلال يطلب منه نشر الأمر بإخلاء المبنى في غضون دقائق وإلا فإنهم "راح ينزلوا البرج فوق روسنا".
وقال الريس، الذي كان يأمل في سداد قرضه العقاري بحلول هذا العام "مشاعر رعب، وخوف وضياع ويأس وحيرة وألم سيطرت علينا كلنا، أنا شفت ناس بتجري حافية القدمين وناس نسيت جوالاتها، ووثائقها، أنا ما أخدت لا جوازات سفر ولا بطاقات الهوية".
وبيّن أنهم لم يحملوا معهم شيئاً وأن زوجته وطفليه آدم (تسع سنوات) وشهد (11 سنة) نزلوا الدرج وهربوا.
وذكر الريس، الذي كان رئيس اتحاد سكان المبنى، أن أسلوب الهدم ليس منطقياً حتى إن كان هناك وجود لـ"حماس"، وهو ما نفاه. وأضاف، "كان بإمكانهم يتعاملوا مع الموضوع بطريقة ما تسبب أذى ولا خدش لأي حدا مش يدمروا برج 16 طابقاً".
وبعد أسبوعين قضاها مع عائلته في حي الصبرة، غادر الريس، مثل مئات الآلاف من سكان المدينة الذين رحلوا منذ آب، ونصب خيمة في دير البلح وسط قطاع غزة، يوم الخميس.
وذكر مواطنون أنه استعداداً للهجوم البري، دمر الجيش ما يصل إلى 12 منزلاً يومياً في أحياء الزيتون والتفاح والشجاعية خلال الأسابيع القليلة الماضية.
وقدر أمجد الشوا رئيس شبكة المنظمات الأهلية في غزة أن أكثر من 65% من المباني والمنازل في مدينة غزة دمرت أو تضررت بشدة خلال الحرب. وتظهر صور الأقمار الصناعية لعدة أحياء أضراراً جسيمة لحقت بضواحي المدينة في الأسابيع القليلة الماضية.
ووثقت منظمة بيانات مواقع وأحداث الصراعات المسلحة (إيه.سي.إل.إي.دي)، وهي منظمة غير ربحية تجمع بيانات عن الصراعات حول العالم، أكثر من 170 واقعة هدم نفذها جيش الاحتلال في مدينة غزة منذ أوائل آب، معظمها من خلال تفجيرات في المناطق الشرقية، إضافة إلى حيي الزيتون والصبرة.
وقالت أمينة مهفار كبيرة محللي شؤون الشرق الأوسط في (إيه.سي.إل.إي.دي)، "يبدو أن وتيرة ومدى عمليات الهدم أوسع نطاقاً مما كانت عليه في الفترات السابقة". وأضافت، إنه في المقابل، تم تسجيل أقل من 160 عملية هدم من هذا القبيل في مدينة غزة خلال الـ15 شهراً الأولى من الحرب.
وأفاد سكان بأن قوات الاحتلال فجّرت مركبات مسيّرة عن بُعد محملة بالمتفجرات في حيي الشيخ رضوان وتل الهوى، ما أدى إلى تدمير العديد من المنازل خلال الأسبوعين الماضيين.
وذكرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان أنها وثقت عمليات هدم لبنية تحتية سكنية، وقالت، إن بعض الأحياء دمرت بالكامل.
ووفقا لأحدث البيانات الصادرة عن مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية، فإنه حتى قبل الهجوم الحالي على مدينة غزة، تضرر أو دمر ما يقرب من 80% من المباني في غزة، أي نحو 247195 مبنى، منذ بدء الحرب. وشمل ذلك 213 مستشفى و1029 مدرسة. وجرى جمع البيانات في تموز.
وقالت بشرى الخالدي مسؤولة السياسات المتعلقة بغزة في منظمة "وكسفام"، إن الأبراج السكنية هي أحد آخر أشكال الملاذات المتاحة، وحذرت من أن إجبار الناس على النزوح سيؤدي إلى تفاقم الاكتظاظ السكاني في الجنوب "بشكل مطرد".
وكان طارق عبد العال (23 عاماً)، وهو طالب دراسات مالية من حي الصبرة، متردداً في مغادرة منزله مع عائلته رغم قصف المنطقة على مدى أسابيع، قائلاً، إنه منهك من أوامر الإخلاء المتكررة خلال الحرب.
ولكنهم غادروا صباح 19 آب فقط بعد هدم المنازل المجاورة لمنزلهم المكون من ثلاثة طوابق. وقال، إنه بعد 12 ساعة فقط، دمرت غارة إسرائيلية منزل العائلة.
وذكر عبد العال من مخيم النصيرات وسط غزة، واصفاً الأضرار الجسيمة التي لحقت بالشارع بأكمله، "يمكن لو ضلينا هاديك الليلة في البيت كان تم قتلنا.. دمروا أملنا في إننا نرجع".
0 تعليق