قصة المهاجر.. الخطوة الذهبية للجوء في أوروبا - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لا يخطر ببال القارئ أن مصير إنسان فار من الحرب أو الاضطهاد قد يتوقف على قصة يرويها، ويملأ بها بضع صفحات تكون تذكرته للعبور.

في أوروبا، تتحول القصة التي يرويها طالب اللجوء إلى المفتاح الأول لعبور أبواب الأمان، إنها لحظة تضع الحقيقة والذاكرة في مواجهة البيروقراطية، حيث يُقاس الحق الإنساني بمعايير دقيقة لا ترحم.

المقابلة الأولى.. لحظة الحقيقة

قد يبدو غريبا أن تتحول بضع ساعات يقضيها مهاجر في غرفة صغيرة إلى لحظة فاصلة تحدد ما إذا كان سيحظى بحق اللجوء أم سيعاد من حيث أتى.

هذه المقابلة، التي يسميها خبراء وكالة الاتحاد الأوروبي للجوء بـ"الخطوة الجوهرية" في مسار الإجراءات، أصبحت المرجع الأول الذي تبنى عليه القرارات الرسمية، فكل كلمة ينطق بها طالب اللجوء تُسجّل بدقة، وكل تفصيل في قصته يخضع للفحص، حتى أن بعض الدول الأوروبية تجعل من هذه الجلسة قاعدة بيانات كاملة تعود إليها المحاكم لاحقًا إذا ما قُدّم أي استئناف.

وبحسب تقرير لوكالة الاتحاد الأوروبي للجوء عام 2025، فإن المقابلة الأولى مع اللاجئ، في دائرة الهجرة، لم تعد مجرد فرصة للاستماع، بل تحولت إلى منظومة دقيقة من الأسئلة المحددة التي تهدف إلى اختبار التماسك الداخلي للرواية، وتصف هذه الجلسات بأنها الأداة المركزية لفهم القصة الشخصية لكنها في الوقت ذاته تضع عبئا ثقيلا على المهاجر.

فالموظفون، مدعومون بدورات تدريبية في "تقييم المصداقية"، ويبحثون عن مؤشرات صغيرة مثل التردد في الإجابة، أو اختلاف في التواريخ، أو حتى أحيانا لغة الجسد.

وهنا قد يصبح الخطأ البسيط في التذكر، مثلا، سببا لزرع الشك، خصوصا إذا كان المهاجر تحت ضغط نفسي أو قادما من رحلة محفوفة بالمخاطر والخوف يصعب عليه تذكر تفاصيلها الدقيقة.

في المقابلة الأولى إذا تعثر اللاجئ لوهلة فقد يجد نفسه أمام قرار رفض لا رجعة فيه إلا عبر استئناف طويل (الجزيرة مصممة بالذكاء الاصطناعي)

ومن المثير أن التقرير يشير إلى تفاوت واضح بين دول الاتحاد الأوروبي في طريقة إدارة هذه المقابلات. ففي بعض البلدان، مثل ألمانيا، تُسجّل الجلسة بالصوت والصورة لتكون مرجعا دقيقا، بينما تكتفي دول أخرى بمحضر مكتوب يصوغه الموظف، مما قد يؤدي إلى اختلاف في الصياغة أو إسقاط بعض التفاصيل.

إعلان

ومازال هذا التفاوت يثير نقاشا داخل أروقة الاتحاد حول معايير العدالة والشفافية، إذ قد يجد مهاجر نفسه أمام قرار مصيري بني على ملخص غير مكتمل لقصته.

وتكمن الميزة الحقيقية لهذه الجلسات، كما تراها وكالة الاتحاد الأوروبي للجوء، في قدرتها على جمع أكبر قدر من المعلومات المباشرة في وقت قصير.

لكن خلف هذه "العملية التقنية" يقف بُعد إنساني لا يمكن تجاهله، فقد يُسأل المهاجر عن تفاصيل قديمة من طفولته، أو عن أماكن اختبأ فيها أثناء فراره من الحرب، وغالبا ما يُتوقع منه أن يجيب بدقة وبلا تناقض. وهذا التوتر بين الطبيعة الإنسانية للذاكرة وآلية البيروقراطية التي تتطلب الوضوح الكامل، يخلق فجوة قد تكون كلفتها رفضًا للطلب.

ولعل ما يثير الانتباه أكثر هو أن الاتحاد الأوروبي يسعى إلى تطوير تقنيات تحليل حديثة لدعم المقابلات، فبحسب الوثائق الصادرة عام 2025، هناك توجه لتوظيف أدوات الذكاء الاصطناعي في مراجعة المحاضر ورصد "الأنماط المتكررة" في القصص.

غير أن منظمات حقوقية حذّرت من أن هذه الأدوات قد تحوّل التجربة الإنسانية الفريدة لكل مهاجر إلى "بيانات معيارية"، مما يفقد القصة خصوصيتها ويضعها في قالب رقمي صارم.

ومع كل هذه التعقيدات، تبقى المقابلة الأولى أشبه بمسرح صغير يُطلب فيه من المهاجر أداء دور حياته باختصار، فإذا نجح في سرد قصته بانسياب وتماسك، فتحت أمامه أبواب الأمل، وإذا تعثر لوهلة، فقد يجد نفسه أمام قرار رفض لا رجعة فيه إلا عبر استئناف طويل.

الكثيرون يفرون من أوضاع مأساوية وأذهانهم مثقلة بالصدمة، ومع ذلك يُطلب منهم سرد قصصهم بترتيب زمني محكم كما لو كانت تقارير أمنية
اللاجئون يفرون من أوضاع مأساوية ومع ذلك يُطلب منهم سرد قصصهم بترتيب زمني محكم (الجزيرة-مصممة بالذكاء الاصطناعي)

معايير أوروبية تحسم المصير

في تقرير نشرته صحيفة إلباييس الإسبانية أُثيرت قضية حساسة تتعلق بآليات تقييم طلبات اللجوء في دول الاتحاد الأوروبي، حيث اعتبرت المصداقية حجر الزاوية في القرارات التي تصدرها دوائر الهجرة، فالقصة التي يرويها المهاجر لا تُقرأ فقط كحكاية شخصية، بل كوثيقة قانونية يتم تفكيكها كلمة بكلمة.

ومن اللافت أن السلطات لا تبحث في قوة المشاعر أو عمق المأساة، بل في تناسق التفاصيل وخلوها من التناقضات، فإذا قال طالب اللجوء إنه وصل عبر حدود معينة أو عاش في مدينة بعينها، فإن كل تفصيل يخضع لاحقًا للتدقيق، من تواريخ السفر إلى أسماء الشوارع، ويتحول أبسط الأخطاء إلى مؤشر قوي للكذب لا يخدم مقدم الطلب.

لم تعد المقابلات، في السنوات الأخيرة، مجرد حوار بين موظف ومهاجر، بل عملية مؤسسية معقدة تُسجَّل فيها الإجابات وتُقارن فيما بينها ويتم التأكد من خلوها من التناقضات، ولا يقتصر الأمر على محتوى القصة فقط، بل يمتد أحيانا إلى تحليل اللغة واللكنة التي يستخدمها المهاجر.

إذ يمكن أن يعتمد موظفو الهجرة على فحوص لغوية متخصصة لتحديد البلد الأصلي أو حتى المنطقة الجغرافية بدقة أكبر، مما يجعل القصة الشخصية تخضع لمستويات متعددة من الفحص والمقارنة.

وتكمن المعضلة الكبرى في أن الذاكرة البشرية ليست آلة دقيقة، خاصة عندما يكون الراوي تحت ضغط نفسي هائل، فالكثيرون يفرون من أوضاع مأساوية وأذهانهم مثقلة بالصدمة، ومع ذلك يُطلب منهم سرد قصصهم بترتيب زمني محكم كما لو كانت تقارير أمنية، هنا تصبح الإنسانية عبئا، لأن أي ارتباك في السرد قد يُفسَّر على أنه محاولة للتضليل.

إعلان

وتشير صحيفة إلباييس إلى أن هذه الصرامة كثيرا ما تضع المهاجرين في موقف هش، فالموظفون الذين يجرون المقابلات مدربون على طرح أسئلة مفاجئة هدفها اختبار ثبات السرد.

على سبيل المثال، قد يُسأل طالب اللجوء عن لون الجدران في مركز الاحتجاز الذي مر به، أو عن المدة الدقيقة التي قضاها في مكان العبور، فإذا تردّد أو أخطأ، عُدّ ذلك ثغرة.

ولا يقتصر الأمر على ذلك فقط، بل إن السلطات في بعض الحالات تلجأ إلى مقارنات مع شهادات مهاجرين آخرين قدموا من المنطقة نفسها، بحثا عن اختلافات يمكن أن تُستخدم للطعن في صدقية القصة.

والنتيجة، أن قصص المعاناة الفردية، مهما كانت حقيقية، تُعامل أحيانا كملفات قابلة للتفنيد أكثر من كونها شهادات مصيرية.

ورغم هذه التعقيدات، فإن الاتحاد الأوروبي يبرر الأمر باعتباره ضرورة لحماية نظام اللجوء من الاستغلال، فمع تزايد أعداد المتقدمين، تخشى دوائر الهجرة من مواجهة قصص مصطنعة صممت تخصيصًا لاجتياز المقابلات.

" frameborder="0">

قصة أبو دقة نموذج لصراع اللاجئ

من بين حالات اللاجئين التي سلطت الضوء على التعقيدات التي يواجهها نظام اللجوء الأوروبي، تبرز قصة الفلسطيني محمد أبو دقة، التي وثقتها وكالة رويترز في تقرير بعنوان: "من غزة إلى أوروبا، عبر دراجة مائية: قصة هروب جريئة لمحمد أبو دقة" (15 سبتمبر/أيلول 2025). فقد شكل وصوله إلى أوروبا حدثا استثنائيا ومؤثرا في النقاش العام حول اللجوء.

فر أبو دقة، البالغ من العمر 31 عاما، من غزة بعد أن دُمر منزله وتوفي العديد من أفراد عائلته جراء القصف الإسرائيلي، ليبدأ رحلة محفوفة بالمخاطر عبر عدة دول، بدءا من مصر ومرورا بالصين وليبيا، وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط، حيث قطع المسافة إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية على متن دراجة مائية، قبل أن يتم إنقاذه ونقله إلى مراكز استقبال طالبي اللجوء.

لم تكن رحلة أبو دقة مجرد تنقل جغرافي، بل كانت اختبارا للقدرة على الصمود أمام التهديدات المستمرة والخطر الدائم على الحياة. في كل مرحلة، واجه صعوبات هائلة، من تهريب غير آمن وضغوط نفسية نتيجة الفقد والمعاناة، إلى مواجهة أنظمة قانونية وبيروقراطية صارمة في الدول التي عبرها.

Muhammad Abu Dakha, a 31-year-old Palestinian from Gaza, poses for a selfie before sailing with two other Palestinian migrants to Lampedusa, Italy, on a jet ski to seek asylum, near Khums, Libya, August 17, 2025. Muhammad Abu Dakha/Handout via REUTERS THIS IMAGE HAS BEEN SUPPLIED BY A THIRD PARTY. MANDATORY CREDIT.
محمد أبو دقة (وسط) قبل الإبحار مع مهاجرين فلسطينيين آخرين إلى لامبيدوزا في إيطاليا على متن دراجة مائية (رويترز)

وقد وثق بعض جوانب رحلته بصور وفيديوهات، مما جعل قصته نموذجا حيا يُظهر الصعوبة المتزايدة لمهاجر يحاول تحويل معاناته إلى ملف قانوني يؤخذ بعين الاعتبار.

وعند وصوله إلى ألمانيا، أصبح أبو دقة جزءا من عملية تقييم دقيقة لتحديد مصيره فقد أظهر وضعه مدى الصعوبة النفسية والاجتماعية التي مر بها ويمر بها اللاجئون أثناء صياغة قصصهم، فالعامل النفسي هنا يعتبر بالغ الأهمية، إذ يجد اللاجئ نفسه مضطرا لتقديم سردية متكاملة وسط صدمة عاطفية كبيرة وقلق دائم حول مصيره.

إن التوتر بين رغبته في البقاء وتقديم تفاصيل دقيقة وموثوقة، وبين نظام قانوني صارم يزن كل كلمة بميزان دقيق، يخلق حالة نفسية مضاعفة تجعل من السرد مهمة صعبة جدًا، وربما مستحيلة في بعض الأوقات.

ويسلط هذا المثال الضوء على الدور الحيوي الذي تلعبه المنظمات الحقوقية والمحامون في حماية المهاجرين من الوقوع في فخ التناقضات الصغيرة، التي قد تُترجم إلى رفض رسمي للطلب، فهم يقدمون الدعم والتوجيه لتعلم كيفية سرد القصة بشكل منظم، بحيث تعكس معاناة الإنسان دون أن تضعه في موقف قانوني محرج.

ويظهر هذا التوازن الدقيق بين الاعتبارات الإنسانية والإجراءات القانونية التحدي الكبير الذي يواجه النظام الأوروبي، الذي يسعى إلى حماية اللاجئين وفي الوقت ذاته ملزم بتطبيق معايير صارمة للحفاظ على نزاهة نظام اللجوء.

وفي الوقت نفسه، لا يمكن إغفال البعد الاجتماعي لهذه القصة، إذ يراقب مجتمع اللاجئين، المتلهف إلى الحماية والاستقرار، تأثير هذه الإجراءات على مصيره.

إعلان

" frameborder="0">

فقصص مثل قصة أبو دقة تُعد إشارات حية للأخطار اليومية التي يواجهها اللاجئون، وتوضح التفاوت بين الحق الإنساني في الحماية، والقيود البيروقراطية التي قد تعرقل تحقيق هذا الحق. وتُظهر تجربة أبو دقة أيضًا كيف يمكن للملفات الرقمية والسجلات المؤسسية أن تضيف بعدًا جديدًا لتقييم المهاجرين.

ويتبين أن الاختبار الحقيقي لا يقتصر على التهرب من الخطر أثناء الرحلة، بل يمتد ليشمل مواجهة أنظمة تقيس المعاناة وفق مقاييس رسمية دقيقة، وهو ما يضع اللاجئ في قلب صراع دائم بين البيروقراطية والرحمة الإنسانية، ليختتم بذلك مسار رحلته الطويلة وسط جو عام من التوتر.

هذا التوتر يجعل من المقابلة الأولى لحظة فارقة، فبينما يدخل طالب اللجوء غرفة صغيرة باحثا عن مأوى، ينظر الموظف إلى أوراقه وقصته بعين فاحصة تبحث عن تناقض، وفي تلك المسافة الضيقة بين الخوف والتعقيدات الإدارية يتحدد المصير، إما بالقبول وبدء حياة جديدة، وإما بالرفض الذي يعيد صاحب القصة إلى نقطة الصفر.

0 تعليق