الضفة الغربية- "تجول في الأرض تمتلكها"، بهذا الشعار كان الباحث والمهتم بالموروث الشعبي الفلسطيني حمزة عقرباوي يجوب مناطق الضفة الغربية شمالا وجنوبا، ويرافق المتجولين كدليل يروي لهم قصصا من التاريخ الفلسطيني والذاكرة الشعبية.
بالنسبة له، علاقة الفلسطيني بأرضه ليست مجرد نزهة أو مسار مشي، بل هي علاقة طبيعية ممتدة عبر آلاف السنين، تتداخل مع تفاصيل الحياة اليومية من زراعة وفلاحة وأشجار وثمار، وتختزن ذكريات العائلة والمجتمع، ما يجعلها جزءا أصيلا من الهوية الحضارية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية للفلسطينيين.
لكن هذه العلاقة تعرضت لتهديد متصاعد مع تمدد المشروع الاستيطاني، فمنذ سنوات بدأ المستوطنون بتنظيم مسارات مشي في الأراضي المصنفة "ج" (سي) الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية الكاملة -حسب اتفاق أوسلو– وتصاعدت الاعتداءات على المتجولين الفلسطينيين منذ 2021، وصولا للمنع بالقوة والاعتداءات المسلحة، كما حدث في منطقة العوجا قرب أريحا في 2023، وبلغت ذروتها اليوم مع الانتشار الواسع للاستيطان.
" frameborder="0">
استهداف للهوية
ويستحضر عقرباوي خلال حديثه للجزيرة نت، مواقف محددة واجهها المتجولون الفلسطينيون، منها ما جرى عند عين النبي عنير غرب مدينة رام الله، حين حاول المستوطنون طرد المجموعة بالقوة، ولما رفضوا الانصياع لهم، تصرف المستوطنون بشكل غير لائق، كالنزول عراة إلى الماء لإجبار الفلسطينيين على المغادرة.
وفي مناطق أخرى استدعى المستوطنون الجيش لطرد المتجولين، ومنعهم من إكمال رحلتهم، وفي وقائع أخرى أطلق الجنود قنابل الغاز عليهم واعتقل بعضهم، بينهم متضامنون أجانب.
ويشير عقرباوي إلى أن الاحتلال والمستوطنين غيّروا طبيعة التجوال الفلسطيني عبر السيطرة على الموارد الطبيعية كعيون المياه، وقمم الجبال، والغابات، والأودية، والمقامات الدينية والمواقع الأثرية، ومعظمها يقع داخل المناطق المصنفة (ج).

ويؤكد عقرباوي أن التجوال في فلسطين فعل سياسي ونضالي يعيد بناء العلاقة مع الأرض والتاريخ والمعالم الطبيعية والثقافية، ويقع في صلب الهوية الوطنية التي يسعى الاحتلال لطمسها.
إعلان
وبالتالي -وفق عقرباوي- فأن منع الفلسطينيين من التجوال يعني حرمانهم من ممارسة فعل سيادي ومعرفي وروحي بأرضهم، بينما يُسمح للمستوطنين بحرية تنظيم مسارات تجوال في المناطق نفسها.
ولفت إلى أن ما يجري "ليس أمرا طبيعيا، بل تطور خطير يُنذر بطمس الذاكرة والهوية الفلسطينية وقطع العلاقة التاريخية بين الفلسطيني وأرضه. الوضع مأساوي، وهو أحد أشكال الإبادة الجذرية التي نتعرض لها".
تراجع ملحوظ
من جانبه، يوضح الناطق باسم وزارة السياحة الفلسطينية، جريس قمصية، أن القطاع السياحي في الضفة الغربية شهد خلال العامين الأخيرين تراجعا كبيرا وصل إلى حالة شلل شبه كامل، نتيجة التطورات السياسية والأمنية.
ويضيف قمصية -في حديثه للجزيرة نت- أنه منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 توقفت حركة السياحة الوافدة كليا، وهو ما انعكس على مختلف المؤسسات المرتبطة بالسياحة من فنادق ومطاعم ومتاجر ومشاغل حرفية.
كما شمل التراجع السياحة الداخلية التي تندرج ضمنها الرحلات "غير التقليدية" التي تشمل المغامرات، والاستكشاف، والسياحة البيئية والثقافية، إذ تضاءلت حركة الفلسطينيين بفعل الأوضاع الأمنية واعتداءات المستوطنين والانتشار الكثيف للحواجز العسكرية التي قيَّدت حرية التنقل.
إضافة للأوضاع الاقتصادية الصعبة التي حدّت من قدرة المواطنين على ممارسة الأنشطة السياحية، وكل ذلك أدى إلى "حالة شلل شبه كامل" في القطاع السياحي منذ اندلاع العدوان على غزة.
ورغم هذه التحديات حاولت وزارة السياحة بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني تطوير السياحة غير التقليدية لتعريف الفلسطينيين بأهمية المواقع الطبيعية وتعزيز الاقتصاد المحلي للمجتمعات المحيطة بها، وفق قمصية.
غير أن هذه الجهود اصطدمت بالواقع الأمني الذي فرضه الاحتلال عبر الاعتداءات والإغلاقات العسكرية، ما أدى إلى حصر النشاط السياحي في عدد محدود من المناطق المصنفة آمنة نسبيا داخل مناطق "أ" الخاضعة لسيطرة فلسطينية إداريا وأمنيا.
ويؤكد قمصية أن الحواجز العسكرية والقيود الإسرائيلية تُمثِّلان السبب الرئيسي لتراجع السياحة الداخلية، إضافة لاعتداءات المستوطنين التي امتدت حتى على المسارات الشبابية والمجموعات السياحية المنظمة، تماما كما تستهدف المدارس وأماكن العبادة والمستشفيات والأسواق، وأصبحت هذه الانتهاكات جزءا يوميا من حياة الفلسطينيين.

مسارت للحماية
في حين يرسم رشيد لفداوي، أحد القائمين على الملتقى الفلسطيني للتصوير والاستكشاف، صورة واقعية للتراجع الحاد الذي أصاب السياحة الداخلية. ويقول إنه كان ينظم مسارات مشي بشكل دوري، لكن العدوان على غزة شكّل نقطة تحول قاسية، مضيفا: "قبل الحرب بأيام قليلة كنا قد أعلنا عن مسار جديد، وبعد اندلاع العدوان توقفت كل الأنشطة نهائيا".
ويوضح أن السبب لم يكن أمنيا فقط، بل كان انعكاسا للحالة النفسية الصعبة التي يعيشها الفلسطينيون ككل نتيجة العدوان والإبادة في غزة، وبات "من الصعب أن تخرج في رحلة ترفيهية بينما أطفال غزة يموتون جوعا، هذا أثّر فينا كثيرا".
إعلان
ويشدد لفداوي -في حديثه للجزيرة نت- على أن المسارات لم تكن مجرد أنشطة ترفيهية، بل وسيلة لحماية الأرض ومقاومة الاستيطان، إذ إن الكثير من المناطق التي جرى تنظيم مسارات فيها أُغلقت اليوم بفعل المصادرة والتوسع الاستيطاني، مثل عين البيضا والساكوت في الأغوار التي ساهم الملتقى عبر جولاته بتسليط الضوء على قضيتها.

ويصف هذه الجولات بأنها فعل وطني وثقافي يعزز الانتماء ويدعم الرواية الفلسطينية، لكن التوقف القسري نتيجة الظروف الأمنية والحواجز الإسرائيلية خلق "فجوة" استغلها المستوطنون، الذين وسَّعوا نشاطهم حتى في مناطق كانت بعيدة عنهم كجنين والمستوطنات المخلاة قربها.
ويختم لفداوي قائلا إن واقع المسارات السياحية في الضفة تراجع بنسبة "95 إلى 99%"، مشددا على أن المشهد تغيّر بالكامل، وأن الاستمرار في هذه الأنشطة أصبح شبه مستحيل في الظروف الراهنة، آملا عودة الحياة إلى هذه المسارات قريبا في ظل ظروف أفضل.
0 تعليق