تسهم أميركا بنسبة 26% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي الذي بلغ 111.33 تريليون دولار بنهاية عام 2024، لتتصدر المرتبة الأولى عالميًا من حيث حصتها في هذا الناتج، وتظل عملتها في صدارة العملات الرئيسية المستخدمة في التسويات المالية والتجارية الدولية.
وقد امتلكت أميركا منذ الحرب العالمية الثانية العديد من المزايا الاقتصادية التي جعلتها متفردة، ولا سيما مع صعود العولمة الاقتصادية في مطلع تسعينيات القرن العشرين.
غير أن هذا التفرد حمل معه سلبيات واسعة ألقت بظلالها على الاقتصاد العالمي، بدءًا من التخلي عن قاعدة الذهب، مرورًا بتشابك السياسات المالية والنقدية الأميركية مع بقية الاقتصادات، وصولا إلى القرارات المتتالية بشأن الرسوم الجمركية في عهد الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب.
سعر الفائدة ودلالات التأثير
خلال الأيام الماضية قرر المجلس الفدرالي الأميركي خفض سعر الفائدة بنسبة 0.25%، مع توقعات بخفض آخر بنسبة 0.50% بنهاية 2025، ثم 0.25% خلال عام 2026.
وقد انعكس القرار مباشرة على مؤشرات الاقتصاد العالمي، حيث تحسنت أسواق المال وارتفعت أسعار الذهب والعملات المشفرة، في حين سارعت الاقتصادات المرتبطة بالدولار إلى تقليد القرار الأميركي وتخفيض أسعار الفائدة لديها بالنسبة نفسها.
لقد ارتبطت سياسة رفع سعر الفائدة في أميركا بارتفاع معدلات التضخم عقب الحرب الروسية على أوكرانيا وما تبعها من ارتفاع أسعار النفط والغاز، إذ بلغ معدل التضخم الأميركي نحو 9%.
عندها تبنى الفدرالي الأميركي سياسة رفع سعر الفائدة إلى قرابة 5%، لتتبعه غالبية الاقتصادات المرتبطة بالدولار بسياسة التشديد النقدي نفسها. واليوم، مع قرار الخفض الأخير، ارتفعت التوقعات بعودة الأسواق العالمية إلى مرحلة ما يعرف بالائتمان الرخيص.

احتمالات التشاؤم
غير أن تصريحات رئيس المجلس الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) جيروم باول جاءت لتعيد الحسابات من جديد. فقد أبدى الرجل حذرًا واضحا تجاه التوجه نحو مزيد من التخفيضات، مشيرًا إلى عوائق محتملة، من أبرزها بقاء التضخم عند حدود 3.5% بسبب استمرار الرسوم الجمركية التي يفرضها ترامب، أو ضعف أداء سوق العمل.
إعلان
وقال باول إن "توقعات سوق العمل والتضخم تواجه مخاطر"، مؤكدًا أن صناع السياسة النقدية ربما يجدون أنفسهم أمام طريق صعب أثناء دراسة قرارات الخفض.
وهنا تبرز تساؤلات:
ماذا لو توقف الفدرالي عن خفض الفائدة؟ أو ارتفع التضخم مجددًا؟ أو ظل سوق العمل عاجزًا عن توفير وظائف جديدة؟ألن يؤدي ذلك إلى عودة رفع الفائدة، واستمرار الركود في الاقتصاد الأميركي والعالمي معًا وإرباك حسابات صناع السياسة الاقتصادية في العديد من الدول؟
المطالب الدولية العادلة
سواء اتجه الفدرالي الأميركي إلى رفع الفائدة أو خفضها، يظل السؤال قائمًا: لماذا يبقى الاقتصاد العالمي أسيرًا للسياسات النقدية الأميركية؟ ولماذا ترتبط أسعار صرف عملات الدول الأخرى مباشرة بحركة الدولار صعودا وهبوطًا؟
منذ أزمة 2008 رفعت دول مجموعة العشرين مطالبها لتجنب تبعية العالم لاضطرابات الاقتصاد الأميركي. ولنا في أزمة العقارات والديون الأميركية مثال بارز على عمق هذا التأثير.
وتظهر بيانات البنك الدولي مدى هذا الترابط، إذ بلغت معدلات التضخم عالميًا بين عامي 2022 و2024 نحو 7.9% و5.9% و3%، في حين سجلت في أميركا 8% و4.1% و2.9% على التوالي، وهو تقارب يكشف قوة التأثير الأميركي.

حرب العملات وسؤال البديل
أما سعر صرف الدولار، فباتت سياساته تتجاوز حدود الاقتصاد الأميركي، فرفع قيمته أو خفضها يؤثر مباشرة على ثروات الدول ومدخرات الأفراد، في حين ينظر صانع القرار الأميركي إلى الأمر من زاوية معالجة ميزان الصادرات والواردات فقط. وقد دفعت هذه الممارسات بعض الدول المصدرة إلى خفض عملاتها عمدًا لتعزيز صادراتها فيما سُمّيت بـ"حرب العملات".
ومع تبدل موازين القوى الاقتصادية العالمية، تبرز الحاجة إلى البحث عن عملة بديلة للتسويات الدولية، ليس نكاية في الدولار، وإنما لتجنب المخاطر الناتجة عن استمراره عملة مهيمنة. غير أن أميركا ترفض مجرد التفكير في هذا الاتجاه، حتى إن ترامب هدد بفرض رسوم جمركية تصل إلى 100% على سلع الدول التي تحاول استبدال الدولار بعملة أخرى.
تحرر أسواق التمويل
لا تزال أسواق التمويل الدولية أسيرة أسعار الفائدة الأميركية، مما ينعكس على تكلفة الإنتاج ونشاط البنوك، خصوصًا في الاقتصادات الرأسمالية المعتمدة على الديون. فالدول النامية أنهكتها آلية الديون، في وقت تواصل فيه أميركا التحكم عبر بنوكها وأسواقها واستثماراتها في مقدرات التمويل العالمي.
تأثير الفائدة لا يقتصر على الدول المقترضة، بل يمتد إلى الدول ذات الفوائض المالية. فانخفاض الفائدة يقلل من عوائد هذه الفوائض، وارتفاعها يضر بالدول المقترضة، ويعود بالفائدة على أصحاب الفوائض. ورغم دخول الصين إلى سوق التمويل عبر قروض البنية التحتية، فإنها لم تطرح حتى الآن آلية بديلة، مكتفية بمقاربة تجارية بحتة.

التوظيف السياسي للاقتصاد
ومن أخطر ما أفرزته الممارسات الأميركية في النظام الاقتصادي العالمي، توظيف الأدوات الاقتصادية لفرض توجهات سياسية. فقد استخدمت العقوبات المالية والتجارية ضد دول عديدة بدعوى الخلاف السياسي، وطالبت أميركا الدول الأوروبية بفرض رسوم مرتفعة على الصين والهند للضغط عليهما في ملف النفط الروسي.
إعلان
ورغم أن الاقتصاد والسياسة مترابطان، فإن حصر فرض العقوبات أو رفعها بيد أميركا وحدها يُعد تجاوزًا في حق المجتمع الدولي، ويقوض عدالة النظام الاقتصادي العالمي.
والأمثلة كثيرة: من العراق الذي حُرم من الغذاء والدواء عبر اتفاق "النفط مقابل الغذاء"، إلى أفغانستان التي صودرت احتياطاتها النقدية البالغة نحو 10 مليارات دولار بعد سيطرة طالبان في أغسطس/آب 2021.
يبقى من الضروري إرساء نظام نقدي عالمي جديد يحدد قواعد عادلة لسعر الصرف والفائدة والتضخم، ويطرح عملة تسوية بديلة تعصم الاقتصاد العالمي من تقلبات السياسة النقدية الأميركية.
وإلى أن يحدث ذلك، ستظل دول العالم في موقع التبعية، وتدفع ثمن مشكلات لم تكن سببًا فيها.
0 تعليق