مجزرة حمام الشط هي مذبحة ارتكبها سلاح الجو الإسرائيلي في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1985 في عمق الأراضي التونسية وتحديدا في ضاحية تونس العاصمة. وفي ذلك العدوان استهدف الاحتلال الإسرائيلي مسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية الذين استقروا في تونس بعد الانسحاب من لبنان في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة بيروت وحصارها في صيف عام 1982.
وأسفر ذلك العدوان عن مقتل عشرات الفلسطينيين والتونسيين، وأثار غضبا واسعا في تونس وخارجها، باعتباره سابقة في الاعتداءات الإسرائيلية على دول خارج محيطها الإقليمي. فقد حلقت طائرات الاحتلال أكثر من ألفي كيلومتر لضرب مقرات منظمات التحرير الفلسطينية.
وتوصف تلك العملية بأنها كانت أكبر محاولة من نوعها يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي، خارج لبنان، مستعملا الطائرات الحربية لقصف قادة الثورة الفلسطينية، وعلى رأسهم الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
وترسخ ذلك العدوان في الأدبيات السياسية والإعلامية في العالم العربي باسم "مجزرة حمام الشط"، نسبة للمكان الذي كان مسرحا للعملية، وفي المقابل أطلق الجيش الإسرائيلي على الغارة اسم "الساق الخشبية".
تفاصيل العملية
في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1985، قصفت طائرات مقاتلة إسرائيلية مقرات تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية في ضاحية حمام الشط، التي تقع على بعد 25 كيلومترا من تونس العاصمة.
وإضافة لتدمير المقرات المستهدفة، أسفر القصف عن مقتل 50 فلسطينيا و18 تونسيا، إضافة إلى 100 جريح، وتسبب في خسائر مادية قدرت آنذاك بحوالي 8.5 ملايين دولار أميركي، وذلك وفق التقرير الرسمي الذي قدمته السلطات التونسية للأمين العام للأمم المتحدة في شكوى رفعتها ضد إسرائيل.
ونفذ الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على الساعة العاشرة صباحا، وتباينت الروايات بشأن عدد الطائرات المستعملة في الهجوم، إذ يقول البعض إنها كانت عشرات الطائرات المقاتلة من طراز "إف 15" وطائرتي نقل وقود من طراز بوينغ 707، وتفيد روايات أخرى أن الاحتلال استعمل سربا من الطائرات الحربية (قُدرت بست إلى 8 طائرات) أغارت بالصواريخ على المربع الأمني لمنظمة التحرير الفلسطينية في محاولة للقضاء على قيادة الثورة دفعة واحدة.
وحلقت الطائرات الإسرائيلية أكثر من ألفي كيلومتر لتنفيذ تلك العملية، وهو ما أعاد إلى الأذهان آنذاك العملية العسكرية الذي نفذها جيش الاحتلال في يوليو/تموز 1976 عندما شن غارة على مطار عنتيني قرب كمبالا عاصمة أوغندا لاستعادة نحو 100 رهينة إسرائيليين وفرنسيين كانوا محتجزين هناك لدى مقاومين فلسطينيين ويساريين ألمان.
إعلان
" frameborder="0">
التخطيط والأهداف
أعطى رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك شمعون بيريز (1923-2016) موافقته الكاملة على العملية العسكرية المسماة "الساق الخشبية". وقال وزير الدفاع آنذاك إسحاق رابين (1922-1995) إن الهدف منها كان إثبات أن منظمة التحرير الفلسطينية "لم تعد آمنة في أي مكان".
وخطط الاحتلال لعدوانه بناء على معلومات جمعها جواسيسه تفيد أن القيادة الفلسطينية كانت ستعقد اجتماعا كبيرا ومهما في مربعها الأمني في حمام الشط على التاسعة والنصف من صباح الثلاثاء الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1985.
وتعقبت المخابرات الإسرائيلية القيادات الفلسطينية في تونس ورصدت ذلك الاجتماع، الذي دعي له ضباط وقادة الثورة الفلسطينية في الجزائر وتونس واليمن، وبعد معرفة كافة تفاصيله قررت مهاجمته بهدف القضاء على قيادات المنظمة وعلى رأسهم عرفات.
وخطط الاحتلال لشن عدوانه بعد نصف ساعة على بدء أعمال الاجتماع (أي على الساعة العاشرة) وفعلا أغارت الطائرات على المكان، واستغرق الهجوم نحو 10 دقائق، وأسفر عن تدمير العديد من المقار التابعة للمنظمة، وبينها مكتب عرفات وبيته، ومقر الحرس الرئاسي، والإدارة العسكرية التي تحتفظ بأرشيف مقاتلي الثورة الفلسطينية، والإدارة المالية، وبعض بيوت مرافقي عرفات وموظفين في مؤسسات المنظمة.
ووصف شاهد عيان من سكان ضاحية حمام الشط الجو العام بعد الهجوم الإسرائيلي بالقول "كان المشهد مؤلما، المباني أصبحت كلها حطاما وسوّيت بالأرض، وكانت الجثث ملقاة في كل مكان وتحت الركام".
وفور العملية، أعلنت إسرائيل رسميا مسؤوليتها عن تلك الغارة، وقالت إنها نفذتها "في إطار حق الدفاع عن النفس"، فيما أذاعت وسائل إعلام إسرائيلية أن عرفات قتل في الهجوم.

نجاة عرفات ورفاقه
وفي أعقاب الهجوم كان ضباط مخابرات الاحتلال وقادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية يعتقدون أنهم أصابوا أهدافهم وقتلوا عددا كبيرا من قادة منظمة التحرير الفلسطينية.
لكن تبين لاحقا أن العملية لم تحقق أهدافها كاملة، إذ نجا عرفات ورفاقه من الهجوم، الذي كان الاحتلال يتوقع أن يكون ضربة قاضية على مسؤولي المنظمة وفرصة لتدارك ما عجز عن تحقيقه عندما حاصر العاصمة اللبنانية بيروت 88 يوما في صيف عام 1982.
المستهدف الأول في العملية (ياسر عرفات) نجا من الهجوم لأنه لم يكن وقتها في المقرات المستهدفة، وخرج مباشرة بعد الغارة وأعلن من فوق الدمار أنه لم يقتل في العدوان.
وتباينت الروايات بشأن ظروف نجاته، إذ تفيد بعضها أنه غادر المكان قبل القصف بنصف ساعة، وأخرى تقول إنه لم يكن في المكان أصلا بسبب لقاء مع مسؤول عربي في بيت السفير الفلسطيني في ضاحية مرسى النسيم شمال تونس العاصمة.
ووفقا لتلك الرواية فقد اضطر عرفات للمبيت هناك، وفي الصباح استيقظ متأخرا وطلب تأجيل الاجتماع، فتفرق ضباط الثورة المدعوون الذين كانوا في انتظاره، ولم تعلم إسرائيل بقرار التأجيل فمضت في تنفيذ عمليتها.
وتفيد رواية أخرى أنه على الساعة التاسعة صباحا تلقى عرفات من مدير مكتبه العسكري خبرا بتأجيل الاجتماع لأن عددا من كبار ضباط الثورة المدعوين لم يتمكنوا من الوصول لتونس بسبب حجوزات الرحلات الجوية، وهو ما حتم تأجيل الاجتماع إلى المساء.

ردود الفعل
كان الرد الشعبي التونسي على الهجمات الإسرائيلية قويا، إذ خرجت مسيرات ومظاهرات حاشدة وتواصلت الاحتجاجات أياما لإدانة الجريمة الإسرائيلية بحق تونس.
إعلان
وفي اليوم ذاته، قدمت السلطات التونسية شكوى ضد إسرائيل إلى مجلس الأمن الدولي، وفي الرابع من أكتوبر/تشرين الأول 1985 أصدر المجلس القرار رقم 573، الذي تضمن إدانة إسرائيل وإلزامها بالاعتذار والتعويض لتونس.
ودعت الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي إلى اتخاذ كل التدابير لثني إسرائيل عن أعمال عدوانية مماثلة ضد سيادة جميع الدول وسلامة أراضيها.
واعتمد المجلس ذلك القرار بأغلبية 14 صوتا وامتناع عضو واحد عن التصويت هو الولايات المتحدة الأميركية، التي دأبت على استعمال حق النقض (الفيتو) دفاعا عن حليفتها إسرائيل.
وتشير تقارير صحفية إلى أن إسرائيل لم تدفع أي تعويضات لتونس ولم تعتذر عن عدوانها السافر على الأراضي التونسية.
توتر بين تونس وأميركا
وألقى ذلك العدوان بظلاله على العلاقات بين تونس والولايات المتحدة، إذ بادرت واشنطن، ورغم كونها حليفا وثيقا لتونس، إلى تبرير العملية بالقول إن "الرد على الهجمات الإرهابية مشروع وتعبير عن الدفاع عن النفس"، وذلك في إشارة لبعض عمليات المقاومة الفلسطينية آنذاك.
وحسب أنباء راجت في الأيام التي تلت العدوان فإنه ربما تم تزويد الطائرات الإسرائيلية بالوقود في القاعدة الأميركية الموجودة في جزيرة صقلية جنوب إيطاليا.
وعبر الرئيس التونسي آنذاك الحبيب بورقيبة عن "غضبه الشديد" إزاء العدوان الإسرائيلي والموقف الأميركي، خاصة أنه كان يعتبر آنذاك صديقا وحليفا للولايات المتحدة.

ونقلت تقارير صحفية عن بورقيبة شعوره بالخيانة لأن بلاده وافقت على استضافة منظمة التحرير الفلسطينية على أراضيها عام 1982 بناء على طلب من الولايات المتحدة.
ووصفت تونس الموقف الأميركي من العدوان بأنه "سلبي بشكل غير متوقع"، ولوحت بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة.
ولاحقا دخل الرئيس الأميركي آنذاك رونالد ريغان على الخط ووجه كلمات مطمئنة إلى تونس وقيادتها ووصف بورقيبة بأنه "رجل دولة موهوب" و"صديق حقيقي" للأميركيين.
آثار العدوان
تفيد تقارير إعلامية تونسية وأجنبية أن آثار القصف الإسرائيلي على حمام الشط ومعالم الدمار الناجمة عنه اختفت، ولم يتبق من المكان سوى مقبرة تضم جثامين القتلى الفلسطينيين والتونسيين وتمثالا يرمز لتلك الذكرى.
وتحرص سفارة فلسطين في الجمهورية التونسية كل عام على وضع أكاليل من الزهور على قبور القتلى الذين سقطوا في مجزرة حمام الشط.
ومع حلول كل ذكرى سنوية للمجزرة دأب بعض التونسيين من مثقفين وناشطين سياسيين على مطالبة الدولة بالتحرك والحصول على حقها في الاعتذار من إسرائيل وفي تعويضات عن الخسائر الناجمة عن العدوان.
0 تعليق