في مشهد يعيد إنتاج أسوأ كوابيس الصراع، لم تعد ساحات المسجد الأقصى المبارك مجرد موقع للصلاة، بل تحولت إلى ساحة مواجهة مفتوحة وجوهرية في المعركة السياسية والديمغرافية على القدس.
ومع دخول دائرة أعياد "تشري" اليهودية الكبرى تطفو على السطح مرة أخرى أسئلة مصيرية حول كيفية تحويل هذه المناسبات الدينية إلى أدوات تعبئة قومية وسياسية، وذريعة لفرض وقائع جديدة على الأرض، خاصة في ظل الغطاء الذي توفره حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة منذ "طوفان الأقصى" قبل عامين.
" frameborder="0">
طقوس للتعبئة القومية
هذه الدورة من الأعياد ليست كسابقاتها، فالحرب على غزة، التي يُروَّج لها في الخطاب الإسرائيلي الرسمي كحرب "وجود" لاستئصال خطر الفلسطينيين، تُستخدم كستار دخان سميك لإجراء تغييرات جذرية في القدس والمسجد الأقصى، تحت رعاية رسمية من أكثر حكومة يمينية متطرفة في تاريخ إسرائيل، وبقيادة وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، الذي يجعل من "تدنيس" الأقصى بطرق تلمودية علنية شغله الشاغل ووعده الانتخابي لقاعدته المتطرفة.
ويشكّل موسم أعياد تشري العبري -رأس السنة العبرية (روش هاشناه) ويوم الغفران (يوم كيبور) وعيد العُرش (سوكوت) وانتهاءً بـ"ختمة التوراة" (سمحات هتوارة)- لعام 2025 محطة مفصلية في الصراع على هوية المسجد الأقصى والبلدة القديمة، إذ تُوظف الطقوس الدينية اليهودية كأداة سياسية لتكريس السيادة الإسرائيلية.
ويبدأ الموسم مع عيد رأس السنة العبرية يومي 22-23 سبتمبر/أيلول، حيث تتكثف الدعوات لاقتحامات جماعية للأقصى تترافق مع النفخ المتعمد في الأبواق المصنوعة من قرون الأكباش "الشوفار" عند أبواب المسجد وساحاته حيث توظفه الصهيونية الدينية باعتباره إعلان سيادة في كل مكان تنفخه فيه ولذلك نفخ عند احتلال سيناء لأول مرة عام 1956 ثم في المسجد الأقصى وساحة البراق عند احتلالهما في 1967.
إعلان
وهو يعتبر كذلك حدا فاصلا بين زمانين، ولذلك يرون في تكرار نفخه داخل المسجد الأقصى وكأنه إعلان لانتهاء الزمان الإسلامي وبدء الزمان اليهودي فيه وفق تصورهم.
علاوة على ذلك، تسمى الأيام العشر الأولى من السنة "أيام التوبة"، بما فيها يوما رأس السنة العبرية، وهي أيام صيام وتقشف وطقوس توراتية، لكن الصهيونية الدينية توظفها كأيام اقتحامات للأقصى تشمل اقتحامه بلباس أبيض مخصص لهذه الأيام يسمى "لباس التوبة"، فتفرض بذلك لباسا توراتيا فيه.

كما أن هذا اللباس هو أحد أزياء عديدة تميز "طبقة الكهنة" التي تقود الصلاة في الهيكل وفق الأسطورة التوراتية، مما يجعل فرض هذا اللباس في الأقصى بمثابة تجسيد لطبقة الكهنة فيه، على طريق تأسيس الهيكل المزعوم.
ويتصاعد المشهد مع عيد الغفران في 1-2 أكتوبر/تشرين الأول، الذي يتخذ طابعا احتفاليا سياسيا عبر محاولات إدخال طقس "كفّارة الدجاج" (قربان الغفران) إلى محيط الأقصى، مما يُترجم إلى تحد مباشر للسيادة الإسلامية على المكان.
ثم يأتي عيد العُرش بين 6-13 أكتوبر/تشرين الأول، ليتحول إلى مناسبة لإقامة عرائش" نباتية عند مداخل الأقصى، وتقديم القرابين النباتية فيه طقوس "الأنواع الأربعة" " داخل محيط الأقصى، بما يعكس نزعة تحويل البلدة القديمة إلى ساحة طقوسية خاضعة للسيطرة الدينية الأمنية الإسرائيلية.
ويبلغ هذا المسار ذروته في عيد "ختمة التوراة" يومي 14-15 أكتوبر/تشرين الأول، وهو عيد هامشي من أعياد الفرح، حيث تزف فيه التوراة إلى الرب وفق الفهم الحلولي السائد لها يهوديا، مما يجعله يوم رقص وغناء وشرب للخمر، ويسعى المستوطنون لإدخال لفائف التوراة إلى المسجد والدوران بها في أرجائه، في خطوة رمزية تستهدف تثبيت مفهوم "السيادة التوراتية" في مواجهة الوضع التاريخي والقانوني القائم.
وقد جاء طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، فحوله إلى أحد أيام البكائيات.
" frameborder="0">
الاقتحامات وفرض الوقائع بالطقوس
يتمثل الاستفزاز الأكثر وضوحا خلال هذه الأعياد بما تقوم به جماعات "أمناء جبل الهيكل" والمستوطنون المتطرفون. هذه الجماعات لا تكتفي باقتحام ساحات المسجد الأقصى، بل تقوم بطقوس تلمودية علنية تهدف إلى محاكاة طقوس "الهيكل" المزعوم، في انتهاك صارخ للوضع القائم منذ عام 1967 والذي تعترف به إسرائيل نفسها.
كل ذلك يتم برعاية مباشرة ومعلنة من بن غفير الذي وضع قواعد جديدة لشرطة الاحتلال في شهر مايو/أيار 2024 تلزمهم بحماية الطقوس التوراتية العلنية الجماعية والسماح بها دون تقييد، ثم أتبعه في شهر يوليو/تموز2025 بقرار يلزم شرطة الاحتلال بالسماح برقص المستوطنين وغنائهم الجماعي بما يسمح بإقامة احتفالاتهم في الأقصى، وتحويله إلى حيز اجتماعي للصهاينة إلى جانب محاولة تحويله إلى حيز ديني يهودي.
ومن بين هذه الممارسات نفخ الأبواق والذي يُمارَس بشكل خاص في رأس السنة العبرية، ويُعتبر إعلانا رمزيا عن "السيادة اليهودية" على المسجد الأقصى. وتُروّج الجماعات المتطرفة أن نجاح النفخ في الأقصى يمهّد الطريق لذبح "قربان العيد" في المكان نفسه.
إعلان
إضافة للسجود الملحمي، وهو ممارسة طقس الانبطاح أو الركوع التلمودي الكامل، ويعد أحد أشكال الصلاة القديمة في اليهودية التي تتم بالسجود الكامل على الأرض، وتبريك الكهنة، ورفع الشمعدان، وتقديم القرابين الحيوانية (ذبح الحملان) وفي حال مُنعت هذه الخطوات، يقومون بطقوس رمزية مثل رشّ دماء حمراء ملوّنة أو رفع خراف رمزية. وبعض المجموعات تؤدي طقوسا تلمودية كاملة بصورة جماعية وصوت مرتفع.
كما يقوم المقتحمون بالتلويح بالعلم الإسرائيلي أو ترديد نشيد "هتكفا" (النشيد القومي) داخل باحات الأقصى والذي يُعتبر جزءا من إستراتيجية تحويل الاقتحامات إلى "استعراض سيادة".

ووفقا لتقارير نشرتها مؤسسة بيدينو (الأقصى في أيدينا) الاستيطانية والمتخصصة في اقتحامات المسجد الأقصى، فإن حجم الاقتحامات شهد تحولا نوعيا بعد حرب غزة. ففي عام 2023، سجّل عدد المقتحمين اليهود للمسجد الأقصى نحو 50 ألفا و98 مستوطنا، وهو رقم مرتفع لكنه بقي ضمن نطاق الزيارات الرمزية المتقطّعة.
أما في عام 2024، ورغم انشغال المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في العدوان على غزة والإقليم، فقد وصل العدد إلى 49 ألفا و243 حتى مطلع نوفمبر/تشرين الثاني، وهو ما يُظهر ثباتا في الوتيرة، لكن الفارق الأهم ظهر في طبيعة الطقوس التي اتخذت طابعا علنيا وصاخبا أكثر من أي وقت مضى.
وفي أعياد تشري 2024 وحده، خلال الأعياد الأربعة، وثّقت المنظمة نفسها اقتحام 485 مستوطنًا في يومي رأس السنة (22-23 سبتمبر/أيلول)، ثم ارتفع العدد إلى 1,064 خلال "أيام التوبة العشرة" التي تسبق يوم الغفران، ليصل إلى ذروته في عيد العُرش (سوكوت) حيث سُجّل 6.422 مقتحما، وهو رقم قياسي يفوق بنسبة 11% ما تحقق في العام السابق.
وهذا الارتفاع العددي ترافق مع اتساع غير مسبوق في الطقوس العلنية مثل النفخ في الأبواق داخل ساحات الأقصى، وإدخال "الأنواع الأربعة" في عيد العُرش، مما حوّل الأعياد من مجرد مناسبات دينية إلى منصات اقتحام جماعية منظمة.
" frameborder="0">
أما في عام 2025، فقبل حتى حلول موسم الأعياد، سجّلت المنظمة اقتحام 54 ألفا و231 مقتحما حتى نهاية أغسطس/آب، مع قفزة واضحة في التاسع من الشهر، وهو عيد يُخلّد فيه ذكرى تدمير الهيكلين الأول والثاني في القدس وفق المزاعم اليهودية، بالإضافة إلى أحداث مأساوية أخرى في التاريخ اليهودي، حيث سُجّل اقتحام 3.527 مستوطنًا في يوم واحد، وهو رقم قياسي يومي لم يشهد مثله منذ بدء التوثيق.
وتظهر الأرقام التي نشرتها "بيدينو" في أغسطس/آب 2025 أن هذا العام يتجه إلى تسجيل أعلى حصيلة سنوية منذ بدء الإحصاءات، مدفوعا بغطاء سياسي واضح من بن غفير الذي ضغط على الشرطة لتوسيع هامش "العبادة العلنية" والسماح بنفخ الأبواق وإقامة الطقوس التلمودية داخل الأقصى.

التقسيم الزماني والمكاني تحت ظلال الحرب
في ظل المجازر والإبادة المستمرة في غزة منذ عامين، وتحت وطأة الحروب التي شنتها إسرائيل على لبنان وسوريا وإيران واليمن، والعدوان على الدوحة، تواصل حكومة نتنياهو تنفيذ إستراتيجية "التقسيم الزماني والمكاني" للمسجد الأقصى، وهي إستراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى تفكيك هوية المسجد كما حدث سابقا في المسجد الإبراهيمي بالخليل.
التقسيم الزماني: يتمثل في منح فترات زمنية محددة وحصرية لليهود لدخول الأقصى، خاصة خلال الأعياد، في حين يتم تقييد دخول الفلسطينيين أو منعهم تماما، مما يخلق سابقة بأن للأقصى "ساعات عمل" خاصة بكل مجموعة، وهي بداية للتقسيم الفعلي. أما التقسيم المكاني: فتسعى جماعات المستوطنين إلى فرض سيطرتهم على أجزاء محددة من الساحات، مثل "بوابة المغاربة" والمناطق المجاورة لها، وتحويلها إلى "مكان عبادة يهودي" دائم، حتى لو تحت مسمى "متنزه" أو "ساحة عامة" في البداية.إعلان
وبحسب الباحث في شؤون القدس زياد ابحيص، فإن الصهيونية توظف اليوم الطقوس التوراتية كأداة استعمارية لتغيير هوية المسجد الأقصى، وتحويله إلى مقدس مشترك بين اليهود والمسلمين تمهيدا لنفي الهوية الإسلامية عنه وتحويله إلى هيكل بكامل مساحته، وعلى طريق تحقيق ذلك تقلبت بين 3 مسارات هي:
التقسيم الزماني، باستغلال وجود شرطة الاحتلال على أبواب المسجد لفرض اقتحام المستوطنين وتقييد دخول المصلين المسلمين، وتخصيص أوقات للاقتحامات والعمل على زيادتها تدريجيا. التقسيم المكاني، بمحاولة اقتطاع مناطق محددة مثل الساحة الجنوبية الغربية عند باب المغاربة، ثم الساحة الشرقية قرب باب الرحمة. وقد تعثّر هذا المسار مؤقتًا بعد هبة باب الرحمة عام 2019، مما أدى إلى ظهور مسار جديد. التأسيس المعنوي للهيكل، وهذا المسار الجديد يكون عبر فرض الطقوس التوراتية داخل الأقصى، باعتبارها مدخلا رمزيا يمهد للتأسيس المادي للهيكل، ويحظى اليوم بدعم كامل من حكومة الاحتلال ومحاكمها.وقد انطلقت هذه المرحلة فعليا في 2017 حينما تضافر أول صعود سياسي للصهيونية الدينية مع تولي الرئيس الأميركي دونالد ترامب للحكم، وكانت القدس البوابة الرمزية لهذه التصفية سواء بهبة البوابات الإلكترونية في 2017، أو بقراره الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان أو بمحاولة قضم مصلى باب الرحمة أو بهبات القدس الثلاث وصولا إلى معركة سيف القدس في 2021 ومعركة الاعتكاف 2023 ثم طوفان الأقصى بعد 6 أشهر.
ولقد كانت القدس، وفي قلبها الأقصى، وما تزال الركيزة الرمزية لمعركة "التصفية الشاملة" التي تستهدف حسم الصراع لصالح الصهيونية بشكل نهائي، وهو حسم وهمي مستحيل مهما كان نوع الإجرام الذي مورس لفرضه.
التداعيات على مستقبل القدس
ليست مشاهد "الطقوس التلمودية" في الأقصى حدثا منعزلا، بل هي جزء من صورة أكبر لمستقبل القدس والضفة الغربية برعاية حكومة نتنياهو المتطرفة.
يقول الكاتب والمحلل السياسي عبد الله العقرباوي إن الأعياد الدينية اليهودية في الدولة الصهيونية القومية خضعت لعملية تسييس ضمن التيار المتطرف الذي يتحكم في مفاتيح إسرائيل كاملة في حكومة نتنياهو وضمن المحاصصة وبات الأقصى حكرا على عبث بن غفير وجماعات بناء الهيكل على أنقاض الأقصى لتتحول معها المناسبات الدينية إلى عطل قومية تشحذ فيها مشاعر الانتماء والهوية اليهودية الجماعية.
وأصبحت هذه الطقوس محطات لإعادة إنتاج الرواية الصهيونية التي تربط اليهود المعاصرين بـ"مجد الماضي" في "أرض إسرائيل"، وخاصة في القدس وهيكل سليمان المزعوم.
ويضيف بأن حكومة نتنياهو التي تعتمد على دعم بن غفير وبقية أحزاب اليمين المتطرف للبقاء في السلطة تمنح هذه الممارسات غطاء رسميا، مما يعني أن الدولة باتت طرفا فاعلا في عملية التهويد ضمن تنفيذ مخططاتها الأيديولوجية بشأن القدس والمسجد الأقصى خصوصا ضمن الدعاية الانتخابية لليمين المتطرف مع الحديث عن اقتراب الانتخابات في إسرائيل.
ويرى العقرباوي أن الهدف النهائي لحكومة نتنياهو هو جعل حياة الفلسطيني في القدس مستحيلة، عبر سياسة التهويد الممنهج، وهدم المنازل، وسحب هويات المقدسيين، وفرض الضرائب الباهظة، ومنع لم الشمل، وتحويل الأقصى إلى ساحة صراع دائم يهدف إلى طرد السكان معنويا وجسديا، وإفراغ المدينة من هويتها العربية الإسلامية.
ويحذر المختص ابحيص من أن المشروع الصهيوني ماضٍ في وهم التصفية وسيوظف لأجلها كل إمكاناته، وبات يعتبرها الهدف العسكري المباشر للحرب بعد أن كانت مرحلة يراد تحقيق أهدافها بشكل تدريجي.
ولذلك من المتوقع أن يرد على الاعترافات الأوروبية والغربية الشكلية بـ"دولة فلسطينية" بإجراءات حقيقية لضم القدس والضفة الغربية.
كما سيواصل الاحتلال جهوده لإعادة إنتاج السلطة باعتبارها شبكة من المتعاونين المحليين الذين يؤدون وظيفة أمنية واجتماعية دون واجهة سياسية، على طريقة مليشيا ياسر أبو شباب ومشروع "إمارة الخليل".
في حين تمضي معظم الدول الغربية والأوروبية في اتجاه عبثي يتحايل على شراكة كثير منها في الإبادة عبر دعم الاحتلال عسكريا ومواصلة الشراكة الاقتصادية معه، ويتجنب اتخاذ أي إجراءات فعلية بات هول جريمة الإبادة يفرض اتخاذها، على حد قوله.
0 تعليق