في خضم السرديات التاريخية التي كثيرًا ما تظل أسيرة المركزية الأوروبية، يطلّ علينا كتاب "تاريخ المجتمعات الإسلامية في العصور الوسطى" بوصفه محاولة جادة وجريئة من أحد أبرز المستعربين الإسبان المعاصرين، وهو إدواردو مانثانو مورينو، لإعادة رسم صورة المجتمعات الإسلامية منذ فجر الإسلام وحتى مطالع العصر العثماني.
وقد حرص المؤلف على تقديم قراءة منهجية توازن بين العمق الأكاديمي واللغة الميسرة، معتمدًا على مصادر عربية ومصادر لاتينية أرّخت للتفاعلات بين الشرق والغرب، بما يتيح للقراء فهم السياقات المتعددة لتلك الحقبة التاريخية.
ويقدَّم الكتاب اليوم للقارئ العربي عن دار مدارات للأبحاث والنشر بترجمة علمية رصينة أنجزها أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة الدكتور محمد علي دبّور، الذي أضاف على العمل تعليقات نقدية وتقديما وضعه في سياق الدراسات العربية والإسبانية الحديثة، مما يجعل الكتاب أكثر قربًا للقارئ العربي وأكثر انسجامًا مع سياق البحث التاريخي المعاصر.

رؤية شاملة للمجتمعات الإسلامية
يضع مورينو نصب عينيه هدفًا بالغ الطموح: تحديد المدى الجغرافي والتاريخي للمجتمعات الإسلامية التي نشأت وتطوّرت في عشرة قرون كاملة، ممتدة من تخوم بلاد فارس شرقًا إلى المغرب والأندلس غربًا، مرورا بمصر وبلاد الشام والأناضول، بل حتى بعض مناطق جنوب أوروبا التي خضعت لقرون من النفوذ الإسلامي.
هذه الرقعة الواسعة لم تكن فضاءً واحدا متجانسا، بل فسيفساء من البلدان والمجتمعات المختلفة، إلا أن الإسلام ظل العنصر الجامع الذي صاغ هويتها المشتركة وحدّد معالمها الكبرى.
وفي سبيل إبراز خصوصية هذا النموذج، يُقارن مورينو بين المجتمعات الإسلامية ونظيراتها الأوروبية في العصور الوسطى، لاسيما في البُنى السياسية والاقتصادية والدينية.
إعلان
فكما أن المسيحية لعبت دورًا مركزيا في تشكيل ملامح أوروبا الوسيطة، فإن الإسلام مثل المحرّك الأساسي في بلورة هوية المجتمعات الإسلامية ومنحها قيمها وأنماطها المؤسسية.
ويُبرز المؤلف كيف أن العوامل الدينية والسياسية والاجتماعية تفاعلت معا لتشكيل مجتمعات متماسكة رغم التنوع الجغرافي والسياسي.
ينتقل الكتاب من خلال فصول متسلسلة تبدأ بعصر النبوة والخلافة الراشدة، ثم توسّع الفتوحات العربية والصراعات الداخلية، مرورًا بالخلافة الأموية في دمشق وقرطبة، وما صاحبها من تحولات اجتماعية وسياسية.
ويتناول كذلك الخلافة العباسية في بغداد، وما ميزها من حيوية اقتصادية وثقافية، ثم صعود الدولة الفاطمية وإعادة رسم موازين القوى في المشرق والمغرب. كما يخصص المؤلف فصولاً موسعة للحياة الحضرية والاقتصاد والأسواق والمدن الإسلامية، قبل أن يعرج على العلاقات مع أوروبا المسيحية من خلال الأندلس والحروب الصليبية وحركة الترجمة.
كما يختتم الكتاب باستعراض مرحلة التفكك السياسي وصعود القوى المحلية، وصولًا إلى بدايات العصر العثماني، مع تركيز على المقارنة بين النظم الاجتماعية والسياسية والإدارية في العالم الإسلامي ونظيراتها الأوروبية، مما يوفر للقارئ إطارًا شاملا لفهم أوجه الشبه والاختلاف بين الحضارتين.
ويعتمد مورينو في تحليله على البنية التاريخية والاجتماعية للمجتمعات الإسلامية، كما يسعى إلى تفكيك الصور النمطية التي طالما رُسخت في الدراسات الغربية، فيعرض أمثلة مفصلة عن الحكم المحلي والاقتصاد الزراعي والتجاري، وأدوار المدن كمراكز حضارية وثقافية.
@aljazeera_documentary كيف تبدو حدود العالم الإسلامي في العصور الوسطى؟ #وراء_كل_صورة_حكاية #الجزيرة_الوثائقية ♬ son original – الجزيرة الوثائقية
المؤلف والمترجم.. جسر بين ثقافتين
ينتمي إدواردو مانثانو مورينو (مدريد، 1960) إلى الجيل الجديد من المستعربين الإسبان الذين أولوا عناية خاصة بالدراسات الأندلسية والتاريخ الوسيط. يحمل دكتوراه في التاريخ من جامعة كومبلوتنسي بمدريد، وماجستيرًا في دراسات الشرق الأدنى من جامعة لندن "إس أو إيه إس" (SOAS).
شغل مناصب بحثية رفيعة، منها إدارة مركز العلوم الإنسانية والاجتماعية بالمجلس الأعلى للأبحاث العلمية في مدريد (2006-2012)، كما عمل باحثًا زائرا في أكسفورد وشيكاغو. ونشر عشرات الأبحاث، وبرز اسمه متحدثًا معتمدا في المنتديات الدولية المعنية بتاريخ الإسلام والأندلس.
أما المترجم محمد علي دبّور، أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية بجامعة القاهرة، فقد خبر الدراسات الإسبانية عن قرب بحصوله على الدكتوراه من جامعة كومبلوتنسي عام 2004، وهو عضو فاعل في اتحاد المؤرخين العرب والجمعية المصرية للدراسات التاريخية، ومحكّم أكاديمي في لجان الترقيات العلمية.
إن نقل المترجم لهذا الكتاب لم يكن عملًا لغويا فحسب، بل جهدًا نقديا ينطوي على تعليقاته التوضيحية والتفسيرية، ويجعل النص أقرب إلى القارئ العربي الباحث عن فهم معمق.

أهمية الكتاب في السياق العربي
يمثل الكتاب جسرا معرفيا مهمًّا للقارئ العربي لأنه يتيح فرصة الاطلاع على كيفية معالجة المستعربين الإسبان لتاريخ المجتمعات الإسلامية، ويظهر قدرة البحث الأوروبي على قراءة التاريخ الإسلامي بموضوعية نسبية، مع مراعاة السياق السياسي والاجتماعي والثقافي.
إعلان
كما أن المقارنات الدقيقة التي يقدمها بين المجتمع الإسلامي والأوروبي في العصور الوسطى تساعد على تكوين فهم أكثر شمولية لأسس بناء الحضارات ونشوء المؤسسات، وتوضيح أوجه الشبه والاختلاف بين الثقافتين.
وينتقل الكتاب بالقارئ أيضًا إلى عمق العلاقة بين الدين والسياسة في المجتمعات الإسلامية، مبينًا كيف ساهمت المبادئ الإسلامية في صياغة النظم القانونية، وأساليب الحكم، وتنظيم العلاقات بين الحكام والمحكومين.
كما يعرض مورينو كيف شكّلت المؤسسات الاقتصادية ركيزة أساسية لاستقرار المجتمعات وتنمية المدن، مع إبراز دور المدن الكبرى بوصفها مراكز للعلم والثقافة والفنون. ويقارن المؤلف هذه النظم مع النظم الأوروبية، مشيرًا إلى أوجه التشابه والاختلاف في آليات الحكم والاقتصاد والحياة الدينية، مما يتيح للقارئ العربي فهمًا أكثر دقة لطبيعة التفاعلات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى.
من جهة أخرى، يتيح للباحث العربي فرصة رؤية تحليلات المؤرخ الغربي وتعامله مع المصادر العربية بعيدًا عن الانحياز التقليدي الذي ميز كثيرًا من الدراسات الأوروبية السابقة. ومن ثم، يغدو الكتاب ليس مجرد مرجع أكاديمي، بل أداة معرفية لإعادة التفكير في تاريخ المجتمعات الإسلامية وفهم جذورها وهويتها في سياق عالمي متسع.
ويُولي مورينو اهتمامًا خاصا بالمقارنة بين المجتمعات الإسلامية والأوروبية في العصور الوسطى، فيبيّن كيف أن الفروق الثقافية والدينية والسياسية شكّلت مسارات تطور مختلفة لكل حضارة، وكيف أن التشريعات الإسلامية والنظم السياسية في المدن والخلافات لعبت دورا موازيا للنظم الأوروبية المسيحية في تنظيم المجتمعات وحفظ الاستقرار الاجتماعي.
من خلال هذا المنهج المقارن يحفّز الكتاب القارئ العربي على التفكير النقدي في طبيعة المجتمعات وتطورها، ويكشف له التشابك المعقد بين الدين والاقتصاد والسياسة والثقافة، مما يفتح آفاقًا لفهم أعمق للعلاقات التاريخية بين الشرق والغرب، ويبرز دور الإسلام بوصفه العامل المؤثر في صياغة الهويات المؤسسية والاجتماعية لقرون طويلة.
كما أن هذا التركيز على المقارنة يساعد الباحثين والطلبة على إدراك أوجه التشابه والاختلاف في مسارات التاريخ، ويكسبهم أدوات منهجية لتقييم التطورات الحضارية والسياسية بطريقة نقدية وموضوعية، بعيدًا عن الانطباعات النمطية التي سادت كثيرًا من الدراسات السابقة.
0 تعليق