خبراء: اقتصاد السودان يتعافى من الداخل لا بالدعم الخارجي - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يعيش الاقتصاد السوداني واحدة من أعقد أزماته عبر تاريخه الحديث، إذ تضافرت عوامل الهيكلة الهشة، وغياب الرؤية الاقتصادية بعيدة المدى، مع سيطرة فصائل مسلحة عدة على جزء من موارد البلاد، لتضع السودان في مأزق اقتصادي غير مسبوق.

ومع استمرار الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، يعيش السودانيون محنة اقتصادية ألقت بظلالها الثقيلة على حاضرهم ومستقبلهم، وبينما تشرئب المحاولات لبث الروح في الأحياء المهجورة والشوارع الخاوية وإعادة رسم ملامح التعافي، يتصاعد الجدل حول أولويات المرحلة المقبلة وجدوى التمويل الخارجي والمساعدات الدولية.

وفي هذا التقرير، يعرض الجزيرة نت حوارا متعدد الأصوات لنخبة من خبراء الاقتصاد السودانيين لقراءة جذور الأزمة، وتقديم وصفة تتقاطع فيها الرؤى والخبرات ورسم الأولويات العاجلة للخروج من عنق الزجاجة، والكشف عن حجم الدمار الذي لحق بالبنية التحتية، مع طرح تحذيراتهم الصريحة من مخاطر الارتهان للتمويل الخارجي في مسعى لإعادة الإعمار.

وفي ما يلي تلخيص لأهم الآراء التي قدمها الخبراء السودانيون لمشهد الاقتصاد السوداني، وآليات التعافي التي يمكن اتباعها:

الأزمة الاقتصادية في السودان بدأت قبل الحرب بسبب غياب رؤية اقتصادية واضحة وسوء الإدارة وفشل الاستثمارات في القطاعات الحيوية، مثل الزراعة والصمغ العربي، مع سيطرة الدعم السريع على عائدات الذهب وغياب التصنيع المحلي. هشاشة هيكلية وإصلاحات غير مدروسة، وأدت سياسات تحرير سعر الصرف ورفع الدعم من دون شبكات حماية اجتماعية أو بنية إدارية قوية إلى تعميق الأزمة وفشل برامج الحماية. البنية التحتية منهارة بالكامل بعد الحرب، حيث تعاني البلاد من نقص حاد في الكهرباء والمياه والإنترنت، وأضرار كبيرة في الطرق والجسور والمرافق الصحية والتعليمية، فضلا عن ضعف الجهاز الإداري وغياب البيانات الدقيقة. الاقتصاد السوداني يعتمد على تصدير المواد الخام من دون تطوير صناعات تحويلية أو الاستفادة من القروض لتحقيق تنافسية في الأسواق العالمية، مما أضعف قدرته على الصمود أمام الأزمات. الحرب عقبة مركزية أمام أي إصلاح أو تعاف، إذ يستحيل إنتاج أو أي تطوير حتى في القطاعات الناجحة، مثل الصمغ العربي والفول السوداني، في ظل استمرار النزاعات، كما أن التنمية كانت دائما أحد دوافع الحروب السابقة. لا إمكانية لفصل التنمية عن الصراع بشكل كامل، وينصح الخبراء بإستراتيجية مزدوجة: مسار إنساني للمناطق المنكوبة، ومسار تنموي للمناطق الأكثر استقرارا، مع التركيز على اللامركزية وتمكين المجتمعات المحلية. الخروج من الأزمة يبدأ بالشفافية والإصلاح المؤسسي، مع إعادة تأهيل الخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه والتعليم والصحة، ثم كبح التضخم ودعم الزراعة والمشروعات الصغيرة، وتعزيز كفاءة المؤسسات الحكومية. الاتفاق السياسي شرط أساسي للتعافي الاقتصادي، إذ لا يمكن تحقيق الاستقرار المالي أو تنفيذ مشاريع التنمية من دون توافق سياسي يوقف النزاع ويفتح الباب لإصلاحات جذرية. التمويل الخارجي ضروري لكنه "خطير وغير كاف"، فالمساعدات الدولية غالبا محدودة وترتبط بأجندات غير مناسبة، لذا يحتاج السودان لتعبئة الموارد المحلية، وتوسيع قاعدة الضرائب، والشراكة مع دول راغبة في الاستثمار الحقيقي. استمرار الحرب فاقم التداعيات الإنسانية والاقتصادية، إذ تسببت في القتل والنزوح والتشريد وانهيار الخدمات، ولن يكون هناك تعاف أو إعادة إعمار حقيقية إلا بوقف القتال وبدء مشروع وطني حقيقي يجمع جهود الجميع.

يبدأ رئيس المنظمة العالمية للتنمية المستدامة علام النور عثمان أحمد بالإشارة إلى أن الأزمة الاقتصادية ضربت السودان حتى قبل أن تشتعل نار الحرب، إذ فشلت حكومات ما بعد الانتقال السياسي في طرح رؤية اقتصادية واضحة وقابلة للتنفيذ.

إعلان

ويقول عثمان أحمد -للجزيرة نت- إن "السودان كان من المفترض أن يركز على الإنتاج الزراعي"، لكن "حتى الصمغ العربي الذي يمكن أن يُدخل عملة صعبة كبيرة للبلاد ظل مهملا"، مضيفا أن المزارعين في غرب السودان "لا يجدون حتى الماء للشرب في مناطق الإنتاج، وهذا دليل على الإهمال الكبير لقطاع قادر على توفير دخل ضخم" للبلاد.

أما في قطاع الذهب، فقد كانت العائدات بيد قوات الدعم السريع، حسب قول رئيس المنظمة العالمية للتنمية، مؤكدا أن هذه العائدات "كانت تُهرّب بدلا من إدخالها إلى خزينة الدولة"، بالإضافة إلى تصدير الموارد خاما من دون تصنيع محلي. ويضرب مثلا على ذلك بالفول الصويا والصمغ العربي.

ويؤكد الباحث في مركز كوش للسياسات التنموية والاقتصادية الطيب عبد السلام بحر أن الأزمة الاقتصادية في السودان سببها "هشاشة هيكلية وسوء إدارة مزمن، وإصلاحات مفاجئة من دون حماية اجتماعية"، مشيرا إلى فشل برامج الحماية السابقة.

ويضيف بحر أن "التغيير في السلطة أدى إلي توقف تدفق المساعدات الخارجية وزاد تعقيد الأزمة"، إضافة إلى فقدان القوة الشرائية وتراجع الإنتاج، مما "قاد السودان إلى الحرب التي جعلته على حافة الانهيار، وستظل الأعباء جاثمة لأجيال ما لم تُطرح رؤية جذرية".

ويتفق الخبير والباحث الاقتصادي عمر محجوب الحسين مع سابقيه، مشددا على أن جذور الأزمة ممتدة منذ الاستقلال، إذ اعتمدت البلاد على تصدير المواد الخام وتجاهلت بناء صناعات تحويلية "حتى قروض السبعينيات لم تُستثمر في إنشاء صناعات تنافسية، وسيتواصل التدهور من دون إرادة سياسية وشعبية حقيقية".

بفعل مياه الأمطار.. سكان الخرطوم يعانون من أزمة في المواصلات العامة
حتى قبل الحرب عانى سكان الخرطوم من أزمة في المواصلات العامة (الجزيرة)

طبيعة البنية التحتية

يعد ملف البنية التحتية من أهم التحديات التي تواجه الحكومات السودانية المتعاقبة، ويصبح التحدي أكثر عمقا عقب انقشاع ضباب المعارك وتوقف صوت الأسلحة الثقيلة في الحرب المستمرة حتى الآن.

ولذلك يرسم عثمان أحمد صورة قاتمة للبنية التحتية بعد الحرب، مؤكدا أن "الكهرباء غائبة حتى في بيوت المواطنين والمستشفيات"، مما يجعل أي عملية إنتاج شبه مستحيلة، مبينا أن ضعف البنية التحتية في السودان "يبدأ من غياب الكهرباء، ويليه العجز في المياه اللازمة للزراعة، ثم غياب الإنترنت الذي يمنع الاستفادة من التجارة الرقمية الحديثة".

ويضيف عبد السلام بحر إلى ما سبق أن البنية المؤسسية ليست أفضل حالا، "فالجهاز الإداري ضعيف، والمؤسسات المالية عاجزة، بالإضافة إلى غياب بيانات دقيقة عن الفقر والعمالة مما يصعّب رسم السياسات الفعّالة".

ويضرب الباحث في مركز كوش مثالا على تهالك الطرق السريعة في السودان بالطريق الرابط بين الخرطوم وبورتسودان، فهو "لم يتضرر كثيرا، لكنه لم يكن أصلا في مستوى يدعم اقتصاد قوي".

أما محجوب الحسين، فيرى أن إعادة بناء البنية التحتية تحتاج إلى أكثر من مجرد نية حسنة، لأنه بعد انتهاء الحرب لن تكون هناك بنية تحتية جاهزة، فضلا عن أن إعادة البنية المدمرة ستستغرق على الأقل 10 سنوات.

الحرب تسببت في حالة نزوح ونقص في الغذاء في عدة مناطق بالسودان (رويترز)

الحرب وتأثيرها

ولا تمثل البنية التحتية النتيجة الوحيدة من تداعيات الحرب المستمرة في السودان منذ أبريل/نيسان 2023، وإن كانت أكثرها كلفة، إذ إن تداعيات التدهور تمتد لتشمل مناحي الحياة الاقتصادية كلها، ولذلك يقول رئيس المنظمة العالمية للتنمية المستدامة "لا يمكن أن تنجح أي خطط تنموية أو إعادة إعمار إذا لم يتوقف الصراع.

إعلان

ويشدد الخبير الاقتصادي اللوم على الحكومة السودانية الحالية، نتيجة توقف الإنتاج الزراعي في مناطق القتال، ويقول إن "الحكومة الجديدة ركزت على تشكيل الوزارات وقرارات جانبية مثل عودة الطلاب من دون أن تضع أولوية لوقف الحرب".

وقريب من هذا التوجه، يقول الباحث في مركز كوش إنه "لا يمكن فصل التنمية عن الصراع بشكل كامل، لكن يمكن اتباع إستراتيجية مزدوجة: تقديم مساعدات إنسانية في مناطق النزاع، وجهود تنموية في المناطق المستقرة". ويرى أن "تمكين المجتمعات المحلية وإدارة الموارد بشكل لامركزي قد يمنح بعض الأمل".

أما الحسين فلا يبدي أي ملمح للتفاؤل في رؤيته لتداعيات الحرب وتأثيرها الممتد على الاقتصاد السوداني، فهو يرى أن التنمية نفسها كانت دوما من أسباب الحروب، "ومع اتساع دائرة الدمار يصبح الحل أكثر تعقيدا، ولا يبدو أن هناك نهاية في الأفق".

أولويات الخروج من الأزمة

وللخروج من الأزمة الحالية، يشدد الخبراء الذين تحدثوا إلى الجزيرة نت على أن تحديد الأولويات التي تتناسب مع المرحلة التي تعيشها البلاد يمثل السبيل الأول للخروج من هذه الأزمات المتلاحقة.

وحسب الخبراء، فيمكن تلخيص أولويات التعافي الاقتصادي بالسودان في النقاط التالية:

الشفافية تمثل البداية التي يجب أن تتحلى بها الحكومات في إدارة مراحل التعافي، مع ضرورة معرفة مصادر الأموال ومن يديرها، وفي أي المشاريع يتم إنفاقها. توفير الكهرباء التي تمثل عصب الاقتصاد والإنتاج عامة. إعادة تأهيل الخدمات الأساسية (الصحة، والتعليم، والمياه) في المناطق المستقرة أولا. تنفيذ سياسات كبح التضخم وإصلاح المالية العامة.  دعم الزراعة والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، مما يدفع نحو الإنتاج ويخلق فرص عمل. إصلاح الخدمة المدنية والمؤسسات العامة ضروري لتعزيز الشفافية وتحويل المؤسسات من أعباء إلى محركات نمو. بناء علاقات خارجية قوية للاندماج في الاقتصاد الإقليمي والدولي.

وقبل كل ذلك وبعده، يجمع الخبراء على أن تحقيق الاتفاق السياسي يعد الأساس الذي تنبني عليه أي خطة للخروج من الأزمة، لأنه يحقق الاستقرار المالي ويفتح الباب لمشاريع التنمية، ويفتح طرقا أمام استثمار الطاقات والموارد التي تتمتع بها البلاد، ويجعلها قادرة على رسم الخطط وتنفيذها.

بنك السودان المركزي
بنك السودان المركزي تعرض لدمار كبير بسبب الحرب (الجزيرة)

التمويل الخارجي وإعادة الإعمار

وفي ما يتعلق بقضايا التمويل الخارجي ودوره في مشاريع إعادة الإعمار وبناء البيئة الاستثمارية السودانية، اختلفت مواقف الخبراء بشأن ذلك، بين مؤيد بشروط، ومن يرفض التدخلات الخارجية بحجة التمويل ثم ممارسة ألوان من السلطة على الدولة، أو من ذهب إلى أن الدول الكبرى تعاني أساسا من مشاكل في التمويل ولا يمكنها مساعدة السودان في أزمته الحالية.

فعثمان أحمد يرفض تماما أن يعتمد السودان على المساعدات الخارجية، "فالدول المانحة نفسها تعاني من أزمات اقتصادية وإضرابات"، مضيفا أن "الحل يكمن في الشراكات مع دول صديقة عبر استثمارات طويلة الأمد في الصحة والتعليم والزراعة تعود بالنفع على الطرفين، وليس عبر منح مالية مؤقتة".

ويرى عبد السلام بحر أن "التمويل الخارجي ركيزة ضرورية، لكنها غير موثوقة، فالمساعدات الدولية غالبا رمزية، وتجب المراهنة على تعبئة الموارد المحلية، وتوسيع القاعدة الضريبية، وإنعاش الزراعة، واستثمار رأس المال السوداني في المهجر".

أما الحسين فيذهب إلى أن "هناك شكا كبيرا في التمويل الخارجي، فهو مرتبط غالبا بأجندات وسياسات اقتصادية لا تلائم الواقع السوداني"، ويرى أن "الدخول في شراكات سياسية ضروري رغم كلفته، لكنه يبقى أكثر واقعية من انتظار الدعم الدولي".

ومنذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل/نيسان 2023، تحولت مدن السودان إلى ساحات قتال وممرات نزوح، وقد أسفرت الحرب عن مقتل وتشريد مئات الآلاف ونزوح الملايين وتحول ملايين آخرين إلى طوابير من الجياع والمشردين في أماكن نائية بلا ماء أو كهرباء أو خدمات صحية.

إعلان

0 تعليق