"نبض قبل الولادة".. حينما يصبح الجسد مسرحاً للوطن! - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

 

كتب يوسف الشايب:

 

في المشهد المسرحي الفلسطيني المعاصر، يأتي العمل الأدائي "نبض قبل الولادة" عن فكرة وإخراج الفنانة رنين عودة، ليقدم لغة فنية مختلفة ورؤية إخراجية تتسم بالعمق والجرأة.
لا يكتفي العمل بسرد حكاية، بل يخلق تجربة شعورية ووجودية كاملة، تتمحور حول اختيار الحياة في مكان يبدو مُصَمماً للموت.
العمل، وعُرض على خشبة مسرح القصبة برام الله، أول من أمس، يؤسس لعلاقته الجوهرية في مطلعه، أي مناجاة أم لجنينها.. هنا، كل شيء أثيري وحالم، حيث المؤدية الرئيسية الفنانة شانتال رزق الله تجسد الأمومة في صورتها الشاعرية، والمؤدي الهوائي الأول الفنان نور سمارو مجرد "نبض" رمزي، روح معلقة في فضاء الرحم الآمن، فيما السينوغرافيا توحي سرابيّاً ببساطتها، والإسقاطات الضوئية (فراشات، ساعة رملية) انعكاس لعالم الأم الداخلي.
العمل، الحاصل على منحة "مشكال"، ينقلنا بعنف من الحلم إلى الكابوس، حيث تتسلل قسوة الواقع الخارجي إلى داخل الرحم، ويتحول المونولوج إلى محاكمة ذاتية قاسية.. تتساءل الأم عن أخلاقية قرارها بالإنجاب في ظل "جندي يحقد" و"حاجز" يقطع الأوصال، وهنا يتبدل المؤدي الهوائي إلى رجل يكافح وهو معلق بحبال حمراء، ليصبح رمزاً للشريك، للرجل الفلسطيني المكبل والمقاوم، فيما الإسقاطات الضوئية تتحول إلى مشاهد أرشيفية من الواقع الفلسطيني.
الصراع يصل ذروته مع خوف الأم من فقدان نبض جنينها، ما يدفعها إلى لحظة إدراك تتجاوز كل شكوكها: إنها تريد هذه الحياة.
تأتي الولادة كفعل درامي متفجر، ليظهر "المولود" في هيئة مؤدٍ ثالث يرتدي الأحمر، لون الدم والحياة والصراع.. حركاته البدائية تعلن عن ولادة كائن لم يأتِ إلى عالم مثالي، إنّما إلى ساحة تتطلب القوة منذ اللحظة الأولى، فيما يكتمل المشهد بنزول الشريك من الأعالي ليكونوا سوياً صورة أيقونية للأسرة كرمز للاستمرارية والصمود.
يكمن نجاح "نبض قبل الولادة" في تكامل عناصره الفنية، أداء شانتال الجسدي، الذي نجح في التعبير عن طيف واسع من المشاعر المعقدة، من الحنان الأمومي إلى الهستيريا والصلابة. أما الأداء الهوائي لنور، فكان ذكيّاً ومتطوراً، فهو ليس مجرد استعراض جمالي، إنّما أداة سردية يتغير رمزها مع تطور القصة.
السينوغرافيا المتقشفة (خشبة سوداء فارغة) كانت قراراً موفقاً، حيث وضعت الجسد الإنساني وصراعه في مركز الاهتمام المطلق، فيما لعبت الإضاءة دوراً دراميّاً في تحديد المساحات النفسية.
في قلب التجربة البصرية المدهشة التي يقدمها عرض "نبض قبل الولادة"، تبرز تقنية فنية مبتكرة تشكل جوهر لغته الإخراجية والسينوغرافية: استخدام ثوب الممثلة الأبيض كشاشة حيّة تُعرض عليها مشاهد سينمائية توثيقية.. هذا الاختيار ليس مجرد حل جمالي، إنّما ابتكار سينوغرافي عميق الدلالة، ينجح في تحويل جسد الممثلة إلى وثيقة تاريخية ونفسية، ويجسد ببراعة الازدواجية المأساوية للحياة في فلسطين.
خصوصية هذه التقنية، تؤكد براعة الفنان فراس أبو صباح في إكمال لوحة عمل ينبئ بما هو متقدّم ومغاير، تبدأ من اختيار "الشاشة" نفسها (ثوب أبيض بسيط)، ذلك اللون المتناقض ما بين براءة ونقاء وفرح، وبين موت وفقد، بحيث يصبح الأبيض شاهداً على النهايات بقدر ما هو رمز للبدايات.. هذه الازدواجية القاسية هي المفتاح لفهم هذه التقنية، حيث لم يعد الفستان مجرد ثوب، بل برزخاً بصرياً، ومساحة معلقة بين وعد الزفاف وحقيقة الكفن، بين ترنيمة الحياة ومرثية الموت.
نرى شوارع المخيمات وأزقة المدن القديمة تجري على جسد الممثلة، وصور الناس والجنود والجدران تُطبع على حركاتها، وهنا تصبح هي الأرض، والوطن، والخريطة التي تحمل ندوب شعبها، ووثيقة بصريّة تتنفس، ترتجف، تتألم، وترقص.
وكون أن الحركة والجسد لغة عالمية لا تحتاج إلى ترجمة، فعندما يقل الكلام، يصبح الأداء الجسدي للمؤدين السرد الأساسي.. هنا، يصبح ألم الأم في انحناءة ظهرها، وصراع الأب في توتر عضلاته، وفرحة الولادة في حركة المولود المتفجرة.. هذا الاعتماد على الجسد يجعل العمل أكثر نفاذاً وتأثيراً لدى جمهور من ثقافات ولغات مختلفة، لكونه يخاطب التجربة الإنسانية المشتركة مباشرة، حيث الاعتماد الأكبر على الصورة (الأداء الجسدي، السينوغرافيا، الإضاءة)، في تأكيد على أن القصة يمكن أن تُروى بالكامل عبر التكوين المسرحي، ما يرفع من قيمته الفنيّة كفن بصري أدائي.
هذا العمل الذكي الذي يدمج، في عرضه التجريبي، الفنون الأدائية بأشكالها، قابلٌ ليشكّل نقطة تحوّل في المسرح الفلسطيني، برأيي، عبر عملية تنقيح واختزال أكثر صرامة للنص، مع الإبقاء على الجمل المفتاحية المحورية التي ترسم الإطار السياسي والنفسي، والكلمات التي تعمل على فلسطنته، فاعتماد التكثيف اللفظي والأداء الجسدي يجعل منه قطعة فنية أكثر تجريداً وخلوداً.

 

0 تعليق