كاترينا غوليفر *
شهد سوق الأخشاب الأمريكية في السنوات الأخيرة تقلبات حادة، سواء بالنسبة لشركات قطع الأشجار، أو لمعامل النشر، أو لمتعهدي البناء وأصحاب المنازل الراغبين فقط في استبدال بعض ألواح الأرضيات، وكانت حالة عدم اليقين في اتجاه السوق مصدر قلق وضغط دائمين.
وبحسب تقرير ل «وول ستريت جورنال»، فإن أسواق الخشب تأرجحت مؤخراً بفعل الغموض التجاري، وتراجع سوق الإسكان. فقد هبطت العقود الآجلة بنحو 25% منذ أن بلغت ذروتها في أغسطس/آب، لتتداول عند حدود 522 دولاراً لكل ألف قدم خشبية. وكان يمكن لهذا الانخفاض أن يكون أشد، لولا إعلان اثنتين من كبريات شركات النشر في أمريكا الشمالية مؤخراً تقليص الإنتاج، ما سيُبطئ وتيرة التراجع.
لكن هبوط أسعار الخشب ليس مجرد مسألة قطاعية، بل يُنظر إليه تاريخياً كمؤشر مبكر على اتجاه سوق الإسكان، وبالتالي على النشاط الاقتصادي الأوسع. والسبب يعود ببساطة إلى طبيعة قطاع البناء الأمريكي.
فالخشب، ومنذ وصول المستوطنين الأوروبيين الأوائل، كان مادة البناء للبيوت والسفن والأثاث الأكثر وفرة ورخصاً في معظم أنحاء الولايات المتحدة، إضافة إلى كونها سلعة تصديرية رئيسية، والمصدر غابات البلوط والأشجار الصلبة التي غطت مساحات شاسعة من البلاد.
وإلى اليوم، ما زال الخشب يحتفظ بمكانته مرآة حقيقية لصحة قطاع البناء. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 90% من المنازل الجديدة في أمريكا تُبنى بإطارات خشبية، على خلاف أوروبا حيث يغلب الطوب والحجر على البناء، مع استثناءات مثل النرويج التي تفضّل الخشب لوفرة غاباتها.
وفي أوروبا أيضاً، تحتل البيوت الجاهزة مسبقة الصنع حصة كبيرة من السوق، تصل إلى 25% في ألمانيا، ونحو 80% في السويد، موطن شركة «إيكيا». أما في الولايات المتحدة، ووفقاً للرابطة الوطنية لبناة المنازل، ما زالت المساكن الجاهزة تمثل 3% فقط من السوق عام 2023، وهي نسبة ضئيلة، لكنها آخذة في النمو. إذ ساعدت صيحات المنازل الصغيرة وخيارات البناء المستدام على جذب اهتمام متزايد لهذا النمط.
والمفارقة أن الولايات المتحدة نفسها عرفت قبل قرن من الزمان انتشاراً أوسع لهذا النوع من البناء. فكانت شركات مثل «سيرز» و«مونتغومري وورد» تبيع منازل جاهزة عبر مخططات البناء، وكانت جميع القطع تصل إلى العميل بالقطار ليقوم بتركيبها بنفسه أو عبر الاستعانة بعمال محليين.
وفي عام 1914 على سبيل المثال، عرض كتالوج لشركة «سيرز» ثلاثة منازل بسعر 656 دولاراً لكل منها، وهو مبلغ كان في متناول موظف يتقاضى ألف دولار سنوياً أو مدير مصنع براتب 2300 دولار، خاصة أن أسعار الأراضي في المدن الكبرى كانت متواضعة.
ولم تكن هذه المنازل المجمّعة مجرد ألواح خشبية، بل تضمنت معادن وزجاجاً وصُممت بأساليب معمارية متنوّعة أيضاً، من الطراز الكولونيالي الهولندي إلى الطراز الحِرفي، بما يعكس أذواق المستهلكين ويُنعش مصانع الإنتاج بالجملة. حتى أن كتالوج «سيرز» عام 1936 كان ينصُّ بفخر: «هذا عصر الكفاءة الحديثة. لم تعد الأيدي البشرية قادرة على منافسة دقة الآلات والإنتاج. السرعة مع الدقة هما شعار أي قسم من مصانعنا العظيمة».
اليوم، تتنوع المنازل مسبقة الصنع في أوروبا بين الخرسانة والزجاج والمعادن والمواد الصناعية، لكنها تستند إلى نفس مبدأ وفورات الإنتاج الكثيف. غير أن الولايات المتحدة لا تزال متمسكة بنموذج المنزل الخشبي التقليدي.
وهنا يكمن جوهر المسألة، فإذا استمر التباطؤ في سوق الإسكان الأمريكي، فإن الطلب على الخشب سيتراجع وأسعاره ستهبط أكثر. وأشارت «وول ستريت جورنال» إلى أن تصاريح البناء السكني انخفضت في يوليو/تموز إلى نحو 1.4 مليون وحدة سنوياً، وهو أدنى مستوى منذ يونيو/حزيران 2020.
ربما يكون ذلك أنباء سيئة لبائعي الأخشاب، لكنه قد يفتح في المقابل الباب أمام تحولات أعمق في ثقافة البناء الأمريكية. فحين تهتز «سوق الخشب»، ستضطر أمريكا إلى إعادة التفكير في خياراتها السكنية وموادها الأساسية، تماماً كما فعلت أوروبا.
* مديرة التحرير في مؤسسة التعليم الاقتصادي
0 تعليق