د. رامي كمال النسور *
تشهد البورصات العربية، وفي مقدمتها السعودية والإمارات، طفرة غير مسبوقة في الطروحات العامة الأولية (IPO) جعلتها محط أنظار المستثمرين الدوليين، بينما بقيت بورصة عمّان على الهامش، بلا طروحات كبرى منذ أكثر من عقد. هذا الغياب انعكس على عمق السوق الأردني وسيولته، وأضعف من جاذبيته الاستثمارية مقارنة بجيرانه.
منذ عام 2010 تقريباً، لم تشهد بورصة عمّان إدراج شركات جديدة ذات وزن، وبقي عدد الشركات المدرجة عند نحو 174 شركة، معظمها في قطاعات تقليدية كالبنوك والتأمين والعقار. ورغم أن المؤشر العام صعد هذا العام إلى أكثر من 3000 نقطة، وهو أعلى مستوى منذ 2008، فإن هذا الارتفاع جاء نتيجة تحسن أسعار الأسهم القائمة لا بفضل إدراجات جديدة توسِّع قاعدة السوق.
على النقيض، نجحت الأسواق الخليجية في تحويل الطروحات العامة إلى رافعة أساسية للنمو. ففي السعودية، جاء طرح أرامكو عام 2019 كأكبر إدراج في العالم بقيمة 25.6 مليار دولار، تلاه أكثر من 70 طرحاً بين 2020 و2024 في قطاعات متنوعة، بقيمة إجمالية تجاوزت 12 مليار دولار في عام 2023 وحده.
أما دبي، فقد أطلقت منذ 2021 خطة لإدراج شركات كبرى ضمن مساعيها لتعميق السوق، وكان أبرزها طرح هيئة كهرباء ومياه دبي (ديوا) في 2022 الذي جمع 6.1 مليار دولار، إلى جانب طروحات لشركات مثل سالك وتيكوم، بإجمالي تجاوز 10 مليارات دولار خلال عامين فقط.
في أبوظبي، سجلت السوق طفرة مماثلة، أبرزها طرح أدنوك للحفر في 2021 (1.1 مليار دولار)، وبروج في 2022 (ملياري دولار)، وأدنوك للغاز في 2023 (2.5 مليار دولار). هذه الطروحات عززت القيمة السوقية لسوق أبو ظبي لتتجاوز 700 مليار دولار، وجعلته من بين الأكثر نشاطاً في المنطقة من حيث السيولة اليومية.
المقارنة تبدو صارخة، فبينما تجمع الأسواق الخليجية مليارات الدولارات عبر طروحات متتالية، بقيت بورصة عمّان بلا إدراجات جديدة، ما أدى إلى ضعف السيولة (15 مليون دولار يومياً في المتوسط)، مقابل أكثر من مليار دولار في أسواق دبي وأبوظبي، ونحو 3 مليارات دولار يومياً في السوق السعودية.
غياب الطروحات في عمّان يعني ببساطة غياب قناة تمويل مهمة كان يمكن أن تدعم الشركات الأردنية في التوسع والاستثمار، كما يحرم الاقتصاد من تدفقات رأسمالية جديدة، ويضعف جاذبية السوق أمام المستثمرين الأجانب الباحثين عن فرص في المنطقة.
خاصة، وهذه نقطة مهمة جداً، وهي أن حجم إجمالي الودائع لدى البنوك في الأردن ارتفع بمقدار مليار دينار منذ بداية العام الحالي وحتى نهاية مايو/أيار الماضي، بحسب بيانات صادرة عن البنك المركزي. حيث أظهرت البيانات أن إجمالي الودائع بلغ 46.698 مليار دينار نهاية عام 2024، ليرتفع إلى 47.706 مليار دينار بنهاية مايو/أيار 2025. نعم جزء كبير من هذه السيولة سيذهب لتمويل التسهيلات المالية، ولكنّ جزءاً مهماً يجب أن يذهب إلى تأسيس شركات تعزز الإنفاق الاستثماري في الأردن، وهو ما لم يحدث، وأصبحنا من حين لآخر نسمع عن شركات تداول وهمية أو غير وهمية تمتص أموال صغار المستثمرين وتبتلعها، وكان من الممكن أن توجه توجيهاً صحيحاً لو وجدت قنوات استثمارية خاصة مرة أخرى لصغار المستثمرين.
والآن، ما هي أسباب غياب الطروحات العامة في بورصة عمّان؟ في مقدمتها تأتي الظروف الاقتصادية الصعبة، وتباطؤ النمو الاقتصادي، وارتفاع المديونية العامة، حيث جعل العديد من الشركات تتردد في التوسع عبر إدراج أسهمها.
ثم يأتي بعد ذلك ثبات أو تراجع نمو مؤشرات بورصة عمّان طوال السنين الماضية، إذ إن انتعاش البورصة نفسها يشجع الشركات على اللجوء للطرح العام، ويشجع المستثمرين على الاكتتاب في هذه الطروحات مع مواءمة العوامل الأخرى، ثم يأتي بعد ذلك محدودية الحوافز الحكومية، بخلاف أسواق أخرى مثل دبي والرياض التي قدمت حوافز وتشريعات جاذبة، لم تقدَّم في الأردن إصلاحات كافية لتشجيع الإدراجات الجديدة، باستثناء ما أقرته الحكومة الأردنية مؤخراً، ولم يمضِ وقت كافٍ حتى نتبين أثاره. ونتائجه ويلحق ما سبق، ضعف شهية المستثمرين، إذ إن غياب السيولة الكافية، وتراجع مشاركة المستثمر الأجنبي جعل الطروحات أقل جاذبية، حيث تخشى الشركات من عدم تحقيق الاكتتاب النجاح المطلوب.
أيضاً من الأسباب الرئيسية لغياب الطروحات العامة البيئة الإقليمية غير المستقرة للأردن، حيث إن الأردن يقع في منطقة تتسم بالاضطرابات السياسية والأمنية، ما صنع حالة من الحذر لدى المستثمرين المحليين والإقليميين تجاه الدخول في طروحات جديدة.
أما نتائج غياب الطروحات العامة، فنجد أولها ركود السوق وضعف السيولة من حيث غياب شركات جديدة قلّص من حجم التداولات، وأبقى السوق ضيقاً ومعتمداً على عدد محدود من القطاعات. وواقع الحال قبل هذه السنة يوضح هذا الأمر جلياً. كما أنه أدى إلى تراجع جاذبية بورصة عمّان إقليمياً، ففي الوقت الذي شهدت فيه بورصات الخليج طفرة في الطروحات المليارية، بقيت عمّان خارج دائرة اهتمام المستثمرين الدوليين.
كما أن غياب هذه الطروحات أدى إلى غياب التنويع القطاعي معظم الشركات المدرجة تنتمي إلى قطاعات تقليدية مثل البنوك والتأمين والعقار، ما حدّ من فرص النمو السريع والتجديد في السوق. وهذا أضعف ثقة المستثمرين بالسوق، حيث إنه عندما يغيب عنصر الابتكار والتجديد في السوق، يشعر المستثمر بأن الفرص محدودة، ما يدفعه للبحث عن بدائل في أسواق أخرى أكثر حيوية.
ولا شك أن غياب هذه الطروحات قد أدى إلى تأثير سلبي في الاقتصاد الكلي سوق الأسهم يُعد قناة مهمة لجمع رؤوس الأموال ودعم المشاريع، وبالتالي فإن غياب الطروحات يقلل من فرص الشركات الأردنية في الحصول على تمويل مستدام للنمو والتوسع.
في وقت نجحت وتنجح فيه «تداول» و«سوقا دبي وأبوظبي» في استقطاب استثمارات دولية بمليارات الدولارات عبر الطروحات العامة، ما زالت بورصة عمّان تعاني غياباً طويلاً عن هذا المسار. واليوم، وبعد الارتفاع الأخير في مؤشر الأسعار، تبدو الفرصة سانحة لإعادة النظر في هذا الملف. المطلوب هو المزيد من إصلاحات تشريعية وحوافز ضريبية وتنظيمية تشجع الشركات العائلية والخاصة على الإدراج، إلى جانب تعزيز مستويات الإفصاح ومبادئ الحوكمة على الشركات المدرجة، وكذلك تفعيل دور الحكومة في الترويج لبورصة عمّان كوجهة استثمارية. من دون ذلك، ستبقى السوق الأردنية بعيدة عن ديناميكيات المنطقة، في وقت تتحول فيه الطروحات العامة إلى محرّك رئيسي للتنمية الاقتصادية.
* المستشار في الأسواق المالية والحوكمة والاستدامة
0 تعليق