Published On 3/10/20253/10/2025
|آخر تحديث: 23:12 (توقيت مكة)آخر تحديث: 23:12 (توقيت مكة)
ما أن يفتح المشاهد أي منصة إلكترونية حتى تتراص أمامه مسلسلات الجريمة والتحقيقات، التي تتمحور بشكل أساسي حول مجرمين أو قتلة أو خارجين عن القانون بشكل عام في جانب، وحماة العدالة سواء من الشرطة أو غيرها من الجهات الحكومية في الجانب الآخر. وتغلب على هذه الأعمال فكرة الصراع البسيط بين الخير والشر، غير أن السنوات الأخيرة شهدت بروز أعمال حبكاتها ليست مبسطة لهذه الدرجة، وتقف شخصياتها على الحافة الأخلاقية.
عام 2021 قدمت "إتش بي أو" (HBO) مسلسلا قصيرا من 7 حلقات فقط بعنوان "مير أوف إيست تاون" (Mare of Easttown) بطولة كيت وينسليت، وحقق نجاحا نقديا وجماهيريا وعلى مستوى الجوائز، وبعد 4 سنوات تقريبا تقدم الآن "إتش بي أو" مسلسل "تاسك" (Task) من تأليف الكاتب نفسه براد إنجلسبي.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listوتدور أحداثه في العالم ذاته تقريبا، حيث الجريمة ليست بسيطة، فلا المجرمون أشرار لا يمكن التعاطف معهم، ولا المحققون شخصيات بسيطة تحقق العدالة ثم تنام قريرة العين.
بين المحقق والمجرم خيط رفيع
تميل أفلام ومسلسلات الجريمة عادة إلى تقديم أبطالها في لحظة إنجاز، إذ نرى المحقق ينجح في القبض على المجرم ويتلقى عبارات الثناء من زملائه ورؤسائه. لكن مسلسل "تاسك" يختار مسارا مختلفا تماما، إذ يطل علينا بطله توم (مارك روفالو) في مشهد افتتاحي داخل مؤتمر للخريجين، يروّج فيه للانضمام إلى مكتب التحقيقات الفدرالي (إف بي آي). وإن مظهره يكشف الكثير: شعر أشعث يغزوه الشيب، وبطن بارز قليلا، وملابس عادية بلا تميّز، وملامح وجه يسيطر عليها الإرهاق واليأس، لتجسّد صورة رجل يبدو أقرب إلى الهزيمة منه إلى البطولة.
لا يقدّم المسلسل منذ البداية تفسيرا واضحا لحالته الجسدية والنفسية المتردية، وكل ما نعرفه أنه ابتعد عن العمل الميداني بقرار شخصي ولأسباب لم تُفصح عنها الحلقات الأولى. غير أن ظروفا طارئة تفرض عليه العودة، ليجد نفسه مضطرا للعمل مع فريق صغير يضم 3 من العملاء الجدد في مكتب التحقيقات الفدرالي.

على الجانب الآخر، يعرفنا المسلسل إلى روبي (توم بيلفري) الذي يعمل في شركة جمع القمامة من المنازل، غير أنه بشكل سري يترأس تنظيما عصابيا بسيطا يتكون من 3 أشخاص لا يقتحمون إلا منازل أعضاء عصابة من راكبي الدراجات النارية مروجي المخدرات.
إعلان
تتقاطع طرق المحقق الفدرالي وجامع القمامة مقتحم المنازل عندما يتولى توم مهمة القبض على روبي، الذي لا يعلم مكتب التحقيقات الفدرالية هويته. غير أن جرائمه قد تشعل حربا ضروسا بين عصابات راكبي الدراجات النارية مروجي المخدرات، وتفسد التوازن الذي تحرص الحكومة الأميركية على الحفاظ عليه بين هذه العصابات لتقليل العنف الناتج عن صراعاتها.
يمكن اعتبار كل من روبي وتوم على طرفي النقيض، أحدهما مجرم والآخر محقق فدرالي، غير أن صفاتهما المشتركة أكثر من تلك المتنافرة، فكلاهما أب مكرس لأولاده وأفراد عائلته بالكامل، وأب يحمل بداخله جرحا غائرا نتيجة لغياب الشريكة، والتي غابت في كلتا الحالتين بصورة غاية في الدرامية. ويدفع صناع المسلسل المتفرج بذكاء للتعاطف حتى مع مقتحم المنازل روبي نتيجة لدوافعه التي يمكن تفهمها تماما، رغم العنف الذي يغلب على تصرفاته وردود أفعاله المنفجرة عند تعرضه لأقل استفزاز.
"تاسك" الخير والشر في ميزان مختل
يجمع بين مسلسلي "تاسك" و"مير أوف إيست تاون" كثيرا من القواسم المشتركة، بما يتجاوز انتماء بطليهما إلى فئة الشرطة. فكلا العملين تدور أحداثه في بلدات صغيرة بولاية بنسلفانيا الأميركية، حيث ينعكس المكان بجوّه الكئيب ولهجته المحلية على طبيعة السرد. وينتمي المسلسلان إلى دراما الجريمة المبنية على لغز مركزي يتكرر فيه السؤال: من هو الجاني؟ لكن الغاية لا تتوقف عند كشف القاتل، بل تمتد إلى تفكيك المجتمع المحلي ورصد تعقيداته وأزماته العائلية والإنسانية.
الشخصيات في كلا العملين بعيدة عن صورة الأبطال المثاليين. ففي "مير أوف إيست تاون"، نتابع المحققة "مير" التي تعاني من خسائر شخصية وإدمان وصعوبات أسرية، بينما يقدّم تاسك شخصيات مثقلة بماضٍ ثقيل وصراعات داخلية، الأمر الذي يضفي على الأجواء قتامة وواقعية ويركّز على الألم والذنب أكثر من عناصر التشويق التقليدية.
والأبرز أن المؤسسات الرسمية والدينية، التي يُفترض أن تحمي نسيج المجتمع، تظهر في العملين متخاذلة أو متواطئة، منشغلة بمصالحها الخاصة على حساب القيم والمبادئ. وبدل أن تكون عامل حماية، تصبح جزءا من الأزمة البنيوية التي يعاني منها المجتمع الأميركي.
فنجد أن مكتب التحقيقات الفدرالية يخصص فريقا من المحققين للبحث عن الجاني في قضايا اقتحام المنازل ليس بهدف الحفاظ على حياة وأموال المواطنين، بل لأن هذه المنازل تخص أفراد عصابة ذات نفوذ وسطوة، والهجوم عليها يسبب خللا في توازن المجتمع الإجرامي في فيلادلفيا. وهكذا يتحول دور مكتب التحقيقات الفدرالية من الذراع القوي لوزارة العدل الأميركية الحامي للمدنيين إلى مجرد حامٍ لعصابة معلوم تماما نشاطها الإجرامي ومساهمتها في الاتجار بالمخدرات.
الأمر الذي ينزع النبل عن المهمة حتى وإن كان توم وزملاؤه يقومون بها لأسباب نبيلة، فهم جزء من كيان أكبر لا يهدف إلا لحماية مصالحه الشخصية. على الجانب الآخر، نجد روبي -الذي يحمل وصمة المجرم مقتحم المنازل والقاتل- له دوافع أكثر إنسانية ومنطقية ومفهومة ويمكن التعاطف معها. هذا الخلل في أساس صراع الخير والشر يعكس الخلل الحقيقي في المجتمع الأميركي.
إعلان
من أبرز نقاط القوة في مسلسل "تاسك" أنه يجمع بين أداء تمثيلي متقن وعمق درامي لافت، فقد جسّد مارك روفالو شخصية مثقلة بالحزن والصراع الداخلي، في حين تألق توم بيلفري في دور روبي عبر إبراز تناقضات الشخصية. ولا يكتفي العمل بتقديم جريمة تُحل على السطح، بل يغوص في تأثير الذنب والخسارة والتوبة على أبطاله، فيكشف الصراعات الأسرية والمآسي الشخصية بطريقة تجعل المشاهد يتعاطف حتى مع من يُعتبرون مذنبين. هذا العمق يرافقه توظيف بصري محكم، إذ ينقل التصوير واقعية ضواحي فيلادلفيا.
0 تعليق