الاقتصاد الإيطالي في مواجهة فخ الديون وتباطؤ النمو - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يمر الاقتصاد الإيطالي في السنوات الأخيرة بمرحلة دقيقة يتسم فيها النمو بالضعف ويثقل عليه عبء الدين العام وارتفاع كلفة الاقتراض. ورغم مكانته كأحد أكبر اقتصادات منطقة اليورو، فإن الضغوط الديموغرافية المتمثلة في انخفاض المواليد وشيخوخة السكان، إلى جانب التحديات السياسية والاجتماعية، تزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي.

ومن هنا، تكتسب قراءة المؤشرات الاقتصادية والسياسية والديموغرافية من الناتج والدين والعجز إلى الأوضاع الاجتماعية والعمالية أهمية خاصة لفهم مساره المستقبلي.

الناتج المحلي

مع نهاية عام 2024، بلغ الناتج المحلي الإجمالي لإيطاليا نحو 2.19 تريليون يورو (قرابة 2.31 تريليون دولار أميركي)، مما يضعها ضمن أكبر اقتصادات العالم بالقيمة الاسمية.

وسجّل الاقتصاد الإيطالي نموا حقيقيا قدره 0.7% مقارنة بعام 2023، في حين قدّر المعهد الوطني للإحصاء النمو عند مستوى أكثر تحفظا بلغ 0.5%، وتتوقع التقديرات أن يصل معدل النمو إلى نحو 0.8% خلال 2025.

وتحتل إيطاليا المرتبة الـ3 في منطقة اليورو بعد ألمانيا وفرنسا، والمرتبة الـ8 عالميا من حيث حجم الناتج. ويستند اقتصادها إلى قطاعات رئيسية تمثل عموده الفقري، أبرزها: الخدمات (خصوصا السياحة)، الصناعة التحويلية، والتجارة الخارجية والصادرات.

الدين العام والخاص والعجز وتكلفة السندات

يمثل ملف الدَّين في إيطاليا أحد أبرز التحديات الاقتصادية التي تحد من قدرة الحكومة على المناورة في سياساتها المالية، وتؤثر على ثقة المستثمرين في الأسواق الدولية، وتتوزع المديونية الإيطالية بين الدين العام، ودين القطاع الخاص، والدين الخارجي، مع عجز مالي مستمر وارتفاع في تكاليف خدمة السندات.

الأرقام التالية توضح حجم المشكلة وتعقيداتها.

1- الدين العام

مع نهاية 2024 وصل الدين الحكومي في إيطاليا إلى 2.85 تريليون يورو (قرابة 135% من الناتج المحلي).

للمقارنة، في 2010 كان الدين قرابة 1.85 تريليون يورو بنسبة 118% من الناتج، أي أنه ارتفع بأكثر من تريليون يورو وقفزت نسبته 17 نقطة مئوية.

إعلان

وجعلت هذه الزيادة إيطاليا من أكثر دول العالم مديونية، مما يرفع تكلفة الفوائد ويجعل الأسواق أكثر قلقا تجاهها.

A staff member works on a handmade Prada bag at the Italian designer's industrial headquarters' garden factory which hosts the production and development of Prada and Miu Miu's leather goods collections, in Valvigna Italy, November 22, 2021. Picture taken November 22, 2021. REUTERS/Jennifer Lorenzini
مع نهاية عام 2024، بلغ الناتج المحلي الإجمالي لإيطاليا نحو 2.19 تريليون يورو. (رويترز)

2-دين القطاع الخاص

يُقصد بدين القطاع الخاص القروض والالتزامات المالية التي تتحملها الأسر والشركات غير الحكومية، وبالأخص الشركات غير المالية.

ومع نهاية عام 2024 بلغ هذا الدين نحو 1.26 تريليون يورو، أي ما يعادل 57.8% من الناتج المحلي الإجمالي، ويتوزع بين دين الشركات غير المالية بنسبة 49.4% من الناتج، ودين الأسر بنسبة 47.2% من الناتج.

وفي عام 2011 كان الدين الخاص أعلى بكثير، حيث بلغ 92.5% من الناتج المحلي، لكنه تراجع تدريجيا نتيجة عدة عوامل أبرزها تشدد البنوك في منح القروض بعد أزمة الديون الأوروبية، وتراجع إقبال الشركات الصغيرة والمتوسطة على الاقتراض بسبب ضعف النمو والإنتاجية، إلى جانب توجه الأسر الإيطالية إلى الادخار وتجنب الاستدانة مقارنة بالأسر في دول أوروبية أخرى.

ويُظهر هذا التراجع حذرا ماليا لدى الأسر والشركات، لكنه في المقابل يكشف عن ضعف الاستثمار والابتكار في الاقتصاد الإيطالي خلال السنوات الأخيرة.

3-الدين الخارجي

يُقصد بالدين الخارجي إجمالي الالتزامات المالية التي تتحملها المؤسسات الإيطالية، سواء الحكومية أو الخاصة، لصالح دائنين من خارج البلاد، وقد بلغ هذا الدين في نهاية الربع الأول من عام 2025 نحو 2.69 تريليون يورو، وهو ما يعادل تقريبا 122% من الناتج المحلي الإجمالي.

وتُظهر هذه النسبة ارتفاع درجة اعتماد إيطاليا على التمويل الخارجي، بما يزيد من حساسية اقتصادها تجاه أي تغيرات في الأوضاع المالية والأسواق الدولية.

4-إجمالي الدين

مع نهاية عام 2024 بلغ إجمالي الدين في إيطاليا، بما في ذلك الدين الحكومي والخاص وديون الشركات المالية، نحو 6.7 تريليون يورو، أي ما يعادل حوالي 313% من الناتج المحلي الإجمالي.

ورغم أن هذا الرقم يتضمن تداخلا جزئيا، نظرا لاحتساب أجزاء من الدين الحكومي والخاص ضمن الدين الخارجي، فإنه يبرز بوضوح الحجم المفرط للمديونية الإيطالية وتشعّب مصادرها، وتجدر الإشارة إلى أن الإحصاءات الرسمية تركز بالأساس على الدين العام، غير أن التقديرات التحليلية التي تجمع مختلف المكوّنات (الحكومي، الخاص، المالي، والخارجي) تكشف أن المديونية الكلية تتجاوز 3 أضعاف الناتج المحلي.

ويُعد هذا المستوى المرتفع مؤشرا على هشاشة مالية واضحة، إذ يجعل الاقتصاد الإيطالي شديد التعرض لتقلبات أسعار الفائدة وتغير مستويات الثقة في الأسواق الدولية.

A Maserati assembly staff member works at the Maserati car plant in Grugliasco, near Turin May 22, 2014. REUTERS/Giorgio Perottino (ITALY - Tags: TRANSPORT BUSINESS INDUSTRIAL)
الديون المرتفعة جعلت الاقتصاد الإيطالي شديد التعرض لتقلبات أسعار الفائدة وتغير مستويات الثقة في الأسواق الدولية (رويترز)

العجز المالي

في عام 2024 سجَّلت الحكومة الإيطالية عجزا ماليا يعادل نحو 3.4% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يقارب 75.5 مليار يورو ويُعد هذا تحسنا نسبيا مقارنة بعام 2023، حين بلغ العجز حوالي 7.2% من الناتج المحلي.

السندات الإيطالية وتكلفة خدمة الدين

تمثل السندات الحكومية الأداة الرئيسية التي تعتمد عليها إيطاليا في تمويل عجز الموازنة وخدمة دينها العام الضخم.

إعلان

وقد شهدت عوائد هذه السندات ارتفاعا ملحوظا خلال العامين الأخيرين، مما انعكس مباشرة على تكلفة خدمة الدين.

ففي الربع الـ4 من عام 2024 بلغ متوسط عائد السندات لأجَل 10 سنوات حوالي 3.46%، ثم ارتفع في الربع الأول من عام 2025 إلى نحو 3.71%، وهو ما يمثل زيادة ملحوظة مقارنة بمستويات ما قبل أزمة كورونا، حين كانت العوائد تدور غالبا بين 1 و2% فقط.

كما أصدرت الحكومة الإيطالية في مطلع 2025 سندا "أخضر" لأجل عام 2037 بعائد فعلي بلغ نحو 4.1%، مما يعكس مطالبة المستثمرين بعوائد أعلى مقابل الاحتفاظ بالدين الإيطالي طويل الأجل.

ومع الأخذ في الاعتبار أن حجم الدين العام يتجاوز 2.8 تريليون يورو، فإن أي زيادة طفيفة في العائد بمقدار نصف نقطة مئوية فقط تعني مليارات إضافية من تكاليف الفوائد السنوية على الخزانة.

ويشير هذا التطور إلى أن تكلفة خدمة الدين الإيطالي في ارتفاع مستمر، بفعل السياسة النقدية المشددة وارتفاع أسعار الفائدة في منطقة اليورو، وهو ما يقيّد قدرة الحكومة على التوسع في الإنفاق الاستثماري والاجتماعي، ويجعل الموازنة أكثر هشاشة أمام أي صدمات اقتصادية أو مالية مقبلة.

مصادر الإيرادات والقطاعات الاقتصادية المؤثّرة

بنهاية عام 2024 بلغت حصيلة الحكومة الإيطالية من الضرائب والاشتراكات الاجتماعية الإلزامية نحو 933.7 مليار يورو، أي ما يعادل 42.6٪ من الناتج المحلي الإجمالي وفق بيانات معهد الإحصاء الوطني.

وفي عام 2023 سجّلت الحصيلة 882.6 مليار يورو من إجمالي إيرادات حكومية قدرها 992.1 مليار يورو، مما يعني أن نحو 89٪ من موارد الخزانة العامة جاء من مصادر ضريبية، وهذا الاعتماد الكبير على التحصيل الضريبي يبرز ثقل الإيرادات الضريبية في تمويل الموازنة، لكنه يكشف في الوقت نفسه هشاشة المالية العامة، إذ يجعلها أكثر عرضة لأي تباطؤ اقتصادي أو انخفاض في النشاط الإنتاجي والاستهلاكي.

أما من حيث البنية الاقتصادية، فيعتمد الاقتصاد الإيطالي أساسا على:

قطاع الخدمات بنسبة تقارب 72.5٪ من القيمة المضافة يليه قطاع الصناعة التحويلية بنسبة 20.3٪ ثم البناء بنسبة 5.0٪ وأخيرا الزراعة بنسبة 2.2٪ وفق بيانات يوروستات لعام 2023.
vivid fine leather handbags collection on San Lorenzo market in Florence, Italy, Europe
الخدمات ولا سيما السياحة والأنشطة المالية والتجارية تمثل العمود الفقري لاقتصاد إيطاليا (غيتي)

ويُظهر هذا التوزيع أن الخدمات ولا سيما السياحة والأنشطة المالية والتجارية تمثل العمود الفقري للاقتصاد، مع وجود قاعدة صناعية قوية، في حين يبقى دور البناء والزراعة محدودا نسبيا.

وبالمقارنة مع دول أخرى في منطقة اليورو، تتقارب إيطاليا مع فرنسا في اعتمادها الكبير على الخدمات، لكنها تتميز بقاعدة صناعية أوسع، في حين ينفرد النموذج الألماني بتركيز أكبر على الصناعة التحويلية التي تمثل أكثر من 24٪ من الناتج المحلي.

وبذلك يتضح أن الاعتماد المزدوج على الإيرادات الضريبية المرتفعة وهيمنة قطاع الخدمات يمنح إيطاليا مصادر دخل مهمة، لكنه يشكّل في الوقت نفسه نقطة ضعف هيكلية تزيد من حساسيتها أمام التقلبات الاقتصادية وتحد من قدرتها على تعزيز الاستثمار والإنتاجية.

الديموغرافية السكانية وهجرة الكفاءات

تشير أحدث المؤشرات السكانية في إيطاليا إلى صورة ديموغرافية معقدة تتسم بتراجع الخصوبة وارتفاع الشيخوخة. فقد انخفض معدل الخصوبة إلى 1.18 طفل لكل امرأة، وهو أدنى مستوى منذ عام 1995، وأقل بكثير من المعدل اللازم لتعويض الأجيال (2.1 طفل لكل امرأة)، مما يعكس أزمة متصاعدة في أعداد المواليد، وفي المقابل ارتفع متوسط العمر المتوقع إلى 83.4 عاما، مما يزيد من عبء الشيخوخة السكانية على الاقتصاد ونظم الرعاية.

وعلى صعيد الهجرة، غادر البلاد في عام واحد نحو 156 ألف مواطن إيطالي، مما يثير القلق بشأن نزيف الكفاءات، في حين ارتفع عدد المجنَّسين الجدد إلى 217 ألفا، بما يشير إلى اعتماد متزايد على الهجرة لتعويض التراجع الديموغرافي، رغم معارضة الحكومة الحالية لهذا الاتجاه.

إعلان

كما تراجَع متوسط حجم الأسرة من 2.6 فرد إلى 2.2 فرد خلال العقدين الأخيرين، وهو ما يعكس تغيرات واضحة في البنية الاجتماعية وأنماط المعيشة. وتشير هذه المؤشرات إلى ضغوط متنامية على سوق العمل والمالية العامة.

التضخم وأسعار الطاقة

نجحت إيطاليا في السيطرة على التضخم داخل الاتحاد الأوروبي بعد الجائحة، حيث تباطأ المعدل العام إلى 1.6٪ على أساس سنوي في أغسطس/آب 2025 مقارنة 1.7٪ في يوليو/تموز الماضي، ليبقى دون المستوى المستهدف عند 2٪.

وفي التفاصيل، ارتفعت أسعار الغذاء سنويا بنسبة 3.4٪، في حين تراجعت أسعار الطاقة بنسبة 4.8٪، وهو ما ساعد على تحقيق توازن في مؤشر التضخم وتخفيف الضغط على المستهلك.

ويعتمد الاقتصاد الإيطالي اعتمادا كبيرا على واردات الطاقة، إذ تغطي الواردات النفطية تاريخيا أكثر من 80٪ من احتياجاته لذلك تبقى أسعار الطاقة عاملا حاسما يمكن أن يهدد استقرار معدلات التضخم في أي وقت، بما ينعكس مباشرة على ميزان المدفوعات وعجز الموازنة إذا ارتفعت من جديد.

Workers in a steel factory
قطاع الصناعة التحويلية يشكل 20.3٪ من اقتصاد إيطاليا (غيتي)

الاضطرابات والصراعات العمالية

تُعد إيطاليا من الدول الأوروبية التي اعتادت تاريخيا على موجات متكررة من الاحتجاجات العمالية والإضرابات، حيث أصبحت جزءا من المشهد الاجتماعي والسياسي.

ومن أبرز الأمثلة في الأعوام الأخيرة، إضرابات الميزانية 2023/2024 التي شملت قطاعات النقل والقطاع العام والصناعة احتجاجا على تآكل الأجور الحقيقية، وبلغت هذه التحركات ذروتها في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، حين تجاوزت نسب المشاركة 90٪ في بعض الشركات والمؤسسات، مما جعلها من أكبر الإضرابات في العقد الأخير.

وفي عام 2025، تواصلت التحركات العمالية في قطاعات متنوعة للضغط من أجل تجديد العقود ورفع الأجور، في حين تزامنت معها احتجاجات ذات طابع سياسي، مما زاد من زخمها وأعطاها بعدا يتجاوز المطالب الاقتصادية البحتة.

وحتى الآن، يظل تأثير هذه الاحتجاجات على الاقتصاد محدودا نسبيا، لكن انعكاساتها السياسية أقوى، إذ تعكس حالة من التوتر الاجتماعي المزمن، وقد تشكّل عامل ضغط إضافي على استقرار الحكومة وصورة إيطاليا كبيئة مستقرة للاستثمار.

المناخ السياسي

تتولى رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني قيادة ائتلاف محافظ، ورغم خطابها اليميني قبل الانتخابات، فقد تبنّت نهجا أكثر هدوءا بعد تولي الحكم وأسهمت في قدر من الاستقرار، لكن أمامها تحديات بارزة، في مقدمتها إعداد موازنة 2025 ضمن قواعد الاتحاد الأوروبي التي تشترط عجزا لا يتجاوز 3٪، مما قد يفرض خيارات صعبة بين زيادة الضرائب أو خفض الإنفاق، ويهدد تماسك الائتلاف. ويظل ملف خطة التعافي الأوروبية اختبارا مصيريا، إذ يتطلب الإسراع بإنفاق المخصصات قبل 2026 لتفادي خسارة المليارات وتجنب انتقادات قد توظفها المعارضة.

وإلى جانب ذلك، تدفع ميلوني بأجندة دستورية مثيرة للجدل تتعلق بالانتخاب المباشر لرئيس الوزراء وتقليص دور البرلمان، وهو مشروع يفتقر حتى الآن إلى دعم كافٍ داخل التحالف.

وعلى الصعيد الخارجي، يتابع الاتحاد الأوروبي هذه الملفات عن كثب لضمان التزام إيطاليا بالقواعد المالية، في حين تحذر وكالات التصنيف الائتماني من أن أي انحراف عن الانضباط، أو اضطراب سياسي قد يؤثر على تصنيف البلاد، بما يرفع كلفة الاقتراض ويضغط على قدرة الحكومة على تمويل سياساتها.

واستطاع الاقتصاد الإيطالي تحقيق بعض المكاسب، مثل السيطرة على التضخم وتحسن ثقة المستهلك، لكن التحديات الهيكلية ما زالت قائمة، من دين عام مرتفع وتكاليف اقتراض متزايدة وضعف نمو، إلى جانب تقلبات أسعار الطاقة في نفس الوقت.

وتواجه الدولة ضغوطا جيوسياسية متنامية مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وما تتركه من انعكاسات على استقرار القارة الأوروبية.

وهنا يظل السؤال: هل ستتمكن إيطاليا من تحقيق التوازن بين هذه الضغوط الداخلية والخارجية، والحفاظ على استقرارها المالي والسياسي داخل الاتحاد الأوروبي؟

0 تعليق