تجويع الهند وغزة وإحالة المجرمين للعقاب - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي

share2

في 23 سبتمبر/أيلول 1943، كتبت صحيفة ذا ستيتسمان (The Statesman) الإنجليزية في الهند ما يلي: "في الأسبوع المنتهي في 18 سبتمبر/أيلول بلغ عدد الوفيات 1319… منذ 16 أغسطس/آب، استقبلت مستشفيات المدينة 4338 حالة من ضحايا المجاعة، توفي منهم 972. أما الجثث التي أُزيلت من الشوارع والمستشفيات بواسطة فرقة الشرطة، ووكالتين غير رسميتين منذ الأول من أغسطس/آب، فقد بلغ عددها 2527".

في ذلك الشهر، كانت البنغال ترزح تحت وطأة مجاعة مصطنعة أودت بحياة آلاف البشر كل أسبوع. الهند، التي كانت آنذاك تحت الحكم الاستعماري البريطاني، انخرطت في الحرب العالمية الثانية عام 1939 كمورد للجنود والمواد الخام والائتمان، وكجبهة إستراتيجية في حملة الحلفاء ضد اليابان.

وفي 1942، فرضت السلطات الاستعمارية سياسة "الأرض المحروقة" المعدلة على أقاليم: آسام، والبنغال، وبيهار، وأوريسا، وأجزاء من مدراس، فأمرت الجيش بتدمير أو إزالة مخزونات الغذاء، وتعطيل طرق النقل البرية والبحرية والسككية والنهرية.

كانت الحجة منع اليابانيين من الوصول إلى الموارد، لكن النتيجة تركت ملايين المدنيين بلا غذاء.

وفي لندن، على بُعد أكثر من خمسة آلاف ميل، ناشد وزير شؤون الهند "ليو أمري" حكومة ونستون تشرشل الحربية، إرسال 500 ألف طن من الحبوب لإنقاذ البنغال من المجاعة. لكن الحكومة رفضت الطلب، ولم تُخصص سوى أقل من ربع الكمية.

لاحقا، كتب أمري أن الحكومة تعاملت مع المسألة كـ"مبالغة من طرف الهند". ومع مرور السنوات، ارتفع عدد ضحايا المجاعة والأوبئة الناجمة عنها إلى ثلاثة ملايين إنسان.

في ظل الرقابة الصارمة التي منعت الصحافة من الإشارة إلى ما يثير الرعب أو الهلع، نشرت صحيفة ذا ستيتسمان تقريرها المذكور متحدية الأوامر.

كانت السلطات الاستعمارية تفضل قصصا تركز على جهود الإغاثة وتروج لفكرة "مشكلة المتسولين" المزمنة. هذه الرواية جعلت الجوع يبدو أمرا طبيعيا ملازما للفقر، وأخفت حجم الكارثة، وقدمت الاستعمار البريطاني في صورة راعٍ رحيم. بل إن المسؤولين عمدوا إلى استبدال كلمة: "جوع" أو "مجاعة" بعبارة: "معدمون مرضى"، في تقارير الوفيات، في محاولة لتصويرها كقدر محتوم، لا كنتيجة لسياسات متعمدة.

إعلان

ومع ذلك، ورغم تحدي بعض الصحف الأوامر بنقل الحقيقة، لم يؤدِ ذلك إلى محاسبة جدية لأي مسؤول. والسبب أن واضعي القانون الدولي بعد الحرب كانوا هم أنفسهم قد استخدموا الحصار والتجويع كسلاح في حروبهم واستعمارهم، ولم يرغبوا بتجريم أداة لطالما وظفوها.

وكما يوضح الباحثان "نيكولاس مولدر"، و"بويد فان دييك"، فقد كانت بريطانيا وفرنسا تفضلان الحصار في القرن العشرين باعتباره "تدخلا ماديا سلبيا منخفض الظهور، ومرتفع العائد كإستراتيجية قتالية".

هذا التردد في مواجهة المجاعة كسلاح عنيف ترك بصماته العميقة على القانون الدولي حتى اليوم.

التجويع في القانون الدولي

ينص القانون الدولي بوضوح على حظر استخدام التجويع المتعمد للمدنيين كسلاح حرب. فقد حظرت البروتوكولات الإضافية لاتفاقيات جنيف عام 1977 استخدام التجويع ضد المدنيين. وذهب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (ICC) أبعد من ذلك، فجرّم التجويع باعتباره جريمة حرب قابلة للمحاكمة.

ورغم وضوح النصوص، يبقى من الصعب محاكمة هذه الجريمة. لماذا؟

عقبات المحاكمة

المجاعة تختلف عن القنابل أو المجازر. فهي بطيئة، متفرقة، وغالبا ما تختفي خلف السياسات الرسمية. ولإثبات الجريمة، يجب على الادعاء أن يبرهن على "النية": أي أن القادة تعمدوا حرمان المدنيين من الغذاء، لا أنهم أساؤوا إدارة الأزمات، أو فشلوا في حماية سلاسل التوريد.

الحصارات والعقوبات والحظر تُقدَم غالبا كإجراءات عسكرية "مشروعة"، مما يطمس معالم الجريمة. كما أن تحميل الأفراد المسؤولية عن عنفٍ بنيوي وهيكلي يُعد مهمة معقدة للغاية.

لماذا يجب المحاكمة رغم الصعوبات؟

الصعوبة ليست عذرا. فالتجويع يخلف دمارا لا يقل عن الأسلحة التقليدية، كما يوضحه الواقع في غزة اليوم. إنه يهدم المجتمعات، ويترك ندوبا جسدية ونفسية واقتصادية طويلة الأمد.

وبسبب طبيعته البنيوية- قدرته على العمل ببطء، في الخفاء، وبغطاء السياسات- فإن الحاجة لملاحقته قانونيا تصبح أكثر إلحاحا.

فقد عومل التجويع طويلا كأمر حتمي ملازم للحرب، لكنه في الحقيقة إستراتيجية متعمدة، مُجرمة منذ عقود، لكنها نادرا ما تُنفذ.

وما دامت المحاكم والمدعون قد فشلوا في التعامل مع التجويع كجريمة قائمة بذاتها، فإن القوى الكبرى ستستمر في استخدام الجوع كسلاح ضد المدنيين دون خوف من العقاب.

تسميته بوضوح هي الخطوة الأولى، ومحاكمته هي الخطوة التالية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

0 تعليق