Published On 18/9/202518/9/2025
|آخر تحديث: 10:05 (توقيت مكة)آخر تحديث: 10:05 (توقيت مكة)
تبدو كينيا لمن يزورها أول مرة كلوحة حية مرسومة بفرشاة الطبيعة؛ فالعاصمة نيروبي تفتح ذراعيها كحديقة مترامية، شوارعها تظللها الأشجار الكثيفة، وغاباتها الحضرية تتنفس في قلب المدينة المزدحمة. بينما على بُعد أقل من 100 كيلومتر تمتد نيفاشا، مدينة الورود التي تتفتح بتلاتها لتُصدّر عطورها وألوانها إلى أسواق أوروبا.
هنا، بين اخضرار نيروبي وتورّد نيفاشا، تتجسد حكاية بلد يجمع بين صخب الحداثة وهدوء الطبيعة.

نيروبي.. المدينة الخضراء تحت الشمس
في نيروبي، التي ارتقت من مجرد محطة على خط السكة الحديد عام 1899 لتصبح عاصمة لكينيا، يلمس الزائر سحرا فريدا. ارتفاعها عن سطح البحر بما يقارب 1795 مترا يمنحها مناخا معتدلا وأجواء لا تخلو من الصفاء. لهذا السبب كانت ولا تزال تعرف بـ"المدينة الخضراء تحت الشمس".
فمثلا، تمتد غابات "كارورا" على أكثر من ألف هكتار (2570 فدانا)، وتُعد من أكبر الغابات الحضرية في العالم، وهي ملاذ لسكان المدينة الباحثين عن الهدوء، وموطن لمئات الأنواع من الطيور والثدييات الصغيرة.

وفي قلب نيروبي، تقع حديقة الأشجار أو المشتل "أربوريتم" التي تحتضن نحو 350 نوعا من الأشجار المحلية والمستوردة، لتتحول إلى متحف حي للطبيعة، ووجهة للطلاب والباحثين ومحبي المشي والتأمل.
هذه الغابة وتلك الحديقة وغيرهما، تجعل من العاصمة نموذجا استثنائيا لمدينة تتنفس عبر أشجارها.
ورغم أن الغطاء الشجري لا يتجاوز 7.8% من مساحة المدينة، بحسب دراسات حديثة، وهو رقم أقل بكثير مما يتصوره الزائر حين يجوب شوارعها، فإنها تظل مدينة يغلب عليها الاخضرار. ولهذا أطلقت الحكومة برنامجا وطنيا طموحا يهدف إلى زراعة 15 مليار شجرة بحلول عام 2032، في محاولة لاستعادة هوية نيروبي كمدينة خضراء ومواجهة آثار التغير المناخي.

حياة برية على أعتاب العاصمة
نيروبي لا تكتفي بالغابات والحدائق، بل تحتفظ بميزة فريدة تجعلها استثنائية عالميا؛ فهي العاصمة الوحيدة في العالم التي تحتضن حديقة وطنية على أطرافها مباشرة.
إعلان
حديقة نيروبي الوطنية، التي تأسست عام 1946 وتمتد على 117 كيلومترا مربعا، تشكّل لوحة نادرة حيث يمكن للزائر أن يرى زرافة أو أسدا أو وحيد قرن، بينما تلوح ناطحات السحاب في الخلفية.
الحياة البرية هنا جزء من الهوية، أكثر من 400 نوع من الطيور، وعشرات الأنواع من الحيوانات البرية الكبيرة، تجعل من نيروبي نقطة التقاء بين عالمين: عالم الغابة وعالم المدينة.

نيفاشا.. عاصمة الورود الكينية
على مسافة 90 كيلومترا شمال غرب نيروبي، مشهد آخر. عند بحيرة نيفاشا، المحاطة بالمرتفعات البركانية، تنتشر مزارع الورود التي جعلت من كينيا واحدة من أكبر مصدّري الزهور في العالم.
على ضفاف البحيرة -الواقعة على ارتفاع 1884 مترا فوق سطح البحر- تنتشر مزارع تمتد في الأفق، يقطف عمالها الورود فجرا لتُحزم بعناية وتُرسل في رحلتها الطويلة نحو مزادات هولندا وأسواق بريطانيا وألمانيا.
تشير الإحصاءات إلى أن كينيا صدرت عام 2023 زهورا بقيمة تجاوزت 667 مليون دولار، معظمها من ورود نيفاشا التي تشكل العمود الفقري لقطاع الزهور في البلاد.

تُعد صناعة الزهور ثاني أكبر مصدر للعملة الصعبة في كينيا بعد الشاي، وتوظف عشرات الآلاف من العمال معظمهم من النساء. وفي الوقت ذاته، تشكل مصدرا للفخر الوطني، إذ باتت الوردة الكينية علامة تجارية عالمية.
بيد أن لهذه الورود وجها آخر؛ إذ تحتاج الزهرة الواحدة إلى ما بين 7 و13 لترا من المياه، وهو ما يفرض ضغطا بيئيا على البحيرة ومستوياتها المائية، ويستدعي التزاما أكبر بالممارسات الزراعية المستدامة.

من يسير في شوارع نيروبي المظللة بالأشجار، ثم يتنقل إلى ضفاف بحيرة نيفاشا حيث البيوت البلاستيكية المليئة بالورود، يدرك أن كينيا كتبت قصتها بلونين: الأخضر الذي يرمز إلى الحياة والاتساع، والأحمر والزهري والأصفر الذي يرمز إلى العاطفة والجمال.
إنها قصة بلد يزرع ظلال الأشجار في عاصمته، ويقطف ورودا ترسل ابتسامتها إلى القارة الأوروبية.
كينيا -بهذا المزج البديع- تذكّرنا أن الطبيعة ليست فقط إطارا للحياة، بل هي الحياة ذاتها حين تتفتح شجرة في نيروبي أو وردة في نيفاشا.
0 تعليق