عاجل

فرنسا تُضرب من جديد.. غضب الشارع في مواجهة الديون وتقشف الميزانية - البطريق نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

باريس- في بلد تعوّد أن يهتف في الشوارع احتجاجا على تمرير إجراءات حكومية تمس العمق الاجتماعي، خرج الفرنسيون الخميس في مظاهرات لمحاولة إعادة تشكيل معادلة الضغط السياسي، لا من قبة البرلمان، بل من ساحات الاحتجاج.

وبعد تعاقب خيبات الأمل من الحكومات السابقة، تظاهر ما بين 500 ألف ومليون شخص في مختلف أنحاء فرنسا، بحسب أرقام الشرطة ونقابة الكونفدرالية العامة للعمال، تنديدا بالخطة المتعلقة بخفض الإنفاق في الميزانية لعام 2026.

وبعيدا عن أي تيار سياسي معين، عبّر المواطنون عن رفضهم لسياسات التقشف تحت رايات النقابات وشعارات الغضب، لتتحول العاصمة باريس وباقي المدن الفرنسية إلى جغرافيا تُرسم فيها ملامح معركة جديدة بين الشعب والحكومة.

الاتحاد العام للعمال أمهل رئيس الوزراء الجديد لوكورنو حتى يوم الأربعاء للاستجابة لمطالبه المتعلقة بالميزانية (رويترز)

تعبئة بلا زعامة

ولعل أهم ما يلفت في مظاهرات أمس الخميس هي أنها لم تأت بتوجيه من قيادة حزبية واضحة، بل بدعوة موحدة من النقابات، مما أسهم في استقطاب مختلف الفئات الاجتماعية، من المعلمين وعمال قطاع الصحة إلى المتقاعدين وعمال السكك الحديدية وطلاب المدارس والجامعات.

كما سُجل أكثر من 10 آلاف مُضرب في شبكة النقل الإقليمية في باريس وإيل دو فرانس، وامتد إلى شركة السكك الحديدية الوطنية الفرنسية. فيما ظلت العديد من الخدمات العامة والمتاجر ووحدات الإنتاج الصناعي مغلقة بالكامل. وتُعد هذه أعلى نسبة مشاركة في التعبئة الاجتماعية منذ انطلاق الحركة الاحتجاجية ضد إصلاح نظام التقاعد عام 2023.

وفي حديث للجزيرة نت، وصف المحلل السياسي إيف سنتومير ما حدث بـ"التعبئة الجماهيرية الواسعة"، معتبرا أنه من المبكر تحديد ما إذا كانت مخرجاتها ترقى لتطلعات النقابات أم لا.

من جانبها، اعتبرت أستاذة العلوم السياسية وعلم الاجتماع في كلية كيدج للأعمال فيرجيني مارتن أن المظاهرات "لم تحظ بنجاح كبير، لكنها لم تفشل أيضا، لأن التعبئة أعادت للنقابات سيطرتها، وهو أمر مهم بالنسبة لها بعد تراجعها منذ حركة السترات الصفراء".

إعلان

وأضافت مارتن في حديثها للجزيرة نت أنه "من الفقراء العاملين في المناطق الريفية، والعمال الشباب أو العاطلين عن العمل، والمهمشين، والضواحي ذات الطابع العنصري، أصبح لدينا فئتان في فرنسا لا تتحدثان مع بعضهما البعض"، وحمّلت المسؤولية لماكرون بالقول "الخطأ الأول يقع على عاتق هذا الرئيس الذي يتعثر في سلطته".

مهلة محددة

وجاءت هذه المظاهرات في مرحلة انتقالية بعد اختيار إيمانويل ماكرون تشكيل حكومة جديدة بقيادة وزير الدفاع السابق سيباستيان لوكورنو، لكن اللافت أن الشارع لم يسمح للإليزيه بمهلة طويلة تسمح له بتكرار الأخطاء ذاتها، وكأن الذاكرة الاجتماعية لم تنس بعد وعود الحكومات المتعاقبة التي تبخرت.

ولهذا السبب وفي اليوم التالي للاحتجاجات، أعلن الاتحاد العام للعمال (CGT) أنه يمهل رئيس الوزراء الجديد لوكورنو حتى يوم الأربعاء 24 سبتمبر/أيلول الجاري للاستجابة لمطالبه المتعلقة بميزانية 2026.

وفي حال لم يحترم رئيس الوزراء هذه المهلة، حذرت النقابات الـ8 الأهم في البلاد أنها "ستجتمع لاتخاذ قرار سريع بشأن يوم جديد من الإضرابات والمظاهرات"، وفق بيان أعلنه أحد أمناء النقابة، توماس فاشرون نيابة عن الهيئة النقابية المشتركة.

وفي ظل القيود الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، تعتقد الباحثة في الأحزاب السياسية فيرجيني مارتن أن مجال المناورة لدى لوكورنو محدود للغاية، وعليه التعامل مع النقابات التي تحاول البقاء ضمن حدود الميزانية.

وتابعت "حاول حزب فرنسا الأبية جاهدا استغلال المظاهرات في 10 سبتمبر/أيلول الحالي، لكن خطاباته وخطابات باقي الأحزاب السياسية خلال تعبئة أمس ظلت متواضعة نسبيا لترك المجال مفتوحا أمام النقابات، ما يساعد على عدم تسييس المظاهرات وتسهيل التفاوض مع الحكومة".

French Defence Minister Sebastien Lecornu arrives at the Elysee Palace, on the day of a summit of the
المظاهرات جاءت في مرحلة انتقالية بعد توكيل ماكرون وزير الدفاع السابق سيباستيان لوكورنو بتشكيل حكومة (رويترز)

انعدام الثقة

لم يكن غضب الفرنسيين ضد بند واحد في الموازنة المقترحة، بل ضد فلسفة كاملة تعيد رسم العلاقة بين الدولة ومواطنيها، حيث يُطلب من المدارس والمستشفيات التوفير قدر المستطاع، ومن النقل العام تحمّل الخسارة، فيما تبقى وزارة القوات المسلحة محصنة ضد أي تخفيضات في الميزانية.

وترى فيرجيني مارتن أن ماكرون أثار العام الماضي أزمة سياسية لا طائل منها وأن سبب قراره حل البرلمان آنذاك بعد الانتخابات الأوروبية لا يزال لغزا محيّرا للجميع، وأضافت "منذ ذلك الوقت، ضاعف الأخطاء والتذمر غير الضروري وسمح لقوى المعارضة بترسيخ وجودها على الساحة السياسية وزيادة ثقتها للتوجه نحو الانتخابات الرئاسية بذقون مرفوعة".

ونظرا لخبرتها في الأبحاث عن الأحزاب الفرنسية، أكدت مارتن أنه "كلما تعمقنا في الأزمة السياسية، قلّت مصداقية الأحزاب الحاكمة، وبالتالي، فإن البدائل إما يسارية أو يمينية، وهو أمر يغرق البلاد في مناخ من انعدام الثقة تجاه السياسيين ويقوض العيش المشترك بشكل خطير، إذ أصبح كل شخص منعزلا نوعا ما وله تفكيره الخاص".

وفي تحقيق نشره موقع ميديا بارت الفرنسي، كشف أن الوزير سيباستيان لوكورنو لم ينجح قط في الحصول على شهادة الحقوق التي ادعى حصوله عليها.

إعلان

فمنذ توليه وزارة القوات المسلحة عام 2017، تم تأكيد المعلومات ذاتها حول خلفيته الأكاديمية، أي أنه حصل على شهادة بكالوريوس في الاقتصاد والعلوم الاجتماعية، ثم شهادة ماجستير في القانون العام، قبل أن ينضم هذا الناشط السابق في حزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية" (غيّر اسمه لاحقا إلى حزب الجمهوريين) إلى مكتب وزير الاقتصاد برونو لومير ويبدأ صعوده السياسي.

وفي سياق آخر، أشارت مارتن إلى أن لوكورنو درس 3 سنوات فقط بعد البكالوريا ولم يدرس في المدرسة الوطنية للإدارة ولديه خبرة قليلة، فضلا عن ولائه لماكرون وخضوعه للنظام، وهو ما يجعله أمام تحد كبير قد يؤدي به إلى خسارة جزء كبير من مسيرته المهنية، رغم أنه كان موضع تقدير في الجيش عندما كان وزيرا للقوات المسلحة.

موازنات معقدة

وفي ظل عدم الاستقرار السياسي الحالي، أوضح المحلل السياسي إيف سنتومير أنه "حتى لو لم يعد رئيس الوزراء ينتمي إلى حزب الجمهوريين، إلا أنه يتجه نحو اليمين الذي يوجد فيه ماكرون، متجاوزا بكثير اليمين اليساري الذي دافع عنه خلال الانتخابات الرئاسية الأولى".

ويضيف "بالتالي، من المتوقع استمرار الوضع على ما هو عليه بسبب صعوبة ضمان أغلبية، خاصة وأن التجمع الوطني لا يريد التحالف وسيكون من الصعب على الحزب الاشتراكي أن يجد حلا إذا لم يكن هناك تنازل قوي".

ووصف سنتومير توقعاته بشأن المرحلة المقبلة بـ"القاتمة"، معتبرا أنه "حتى لو أقِرّت الميزانية ـ وهو أمر غير مؤكد ـ سيظل المسدس مسلطا على رأس رئيس الوزراء الجديد، مما سيعيق عمل الدولة ويجعلها في وضعية انتظار لا تنتهي، ومن الناحية الجيوسياسية، تبدو فرنسا عاجزة إلى حد كبير".

وتابع "سيقوم لوكورنو بتشكيل حكومته بالطبع مع وزراء جدد لكن هؤلاء لن يعرفوا إلى متى سيظلون في مناصبهم ولا كيف سيعملون على أي إصلاحات أو قوانين متعلقة بحقائبهم الوزارية".

بدورها، ترى مارتن أن لوكورنو يجب أن يتمسك جيدا، لأنه أمام موازنة معقدة بين اليمين واليسار، فكلما زاد رضا الحزب الاشتراكي، قلّ رضا وزير الداخلية برونو روتايو، والعكس صحيح.

أما على المستوى الاقتصادي، فقد أكدت المتحدثة أن الوضع لا يزال هشا، موضحة أن "ماكرون لم يسهم بالضرورة في عجز فرنسا المالي، لكن الدين مرتفع والتصنيفات الائتمانية خُفّضت من قبل وكالة فيتش الأسبوع الماضي، كما أن أسعار الفائدة ترتفع أكثر فأكثر".

0 تعليق